هذا عمر الجاوي

كان يساريًّا باللسان، شعبيًّا بالوجدان، إنسانيًّا بالأعمال
December 26, 2022

هذا عمر الجاوي

كان يساريًّا باللسان، شعبيًّا بالوجدان، إنسانيًّا بالأعمال
December 26, 2022

صباحُ مدينةِ عدن لا يُشبهه أيُّ صباحٍ آخر في الدنيا، فالمدينة المكوّنة من (كريتر) و(المعلا) و(التواهي) كتلة حجرية هائلة من جبال بركانية ضخمة، حُملت برافعة إلهية، ووُضعت في قلب الماء (جزيرة أو شبه جزيرة)، وأمامها أراضٍ سبخة تحتوي (ملّاحات) بمرواح عملاقة يتلامع الملح فيها تحت ضربات الضوء الأولى، وخلف الملّاحات صحراء موحشة تأنس بها لمصاحبتها (سيف البحر) حتى (أبين) أو تخترق كثبانها حتى (لحج)، حيث يوجد واديان من أخصب وديان اليمن.

أمّا سكان المدينة فيدبون في (فوهة البركان) في (كريتر) حيث القاع العميق، أو (يتشعلقون) بمنحدرات الجبال في (المعلا) و(التواهي).

لذلك فإنّ للصباح رائحة البحر وأنفاس الملاحات وهبات الجبال الكبريتية، وأنسام الصحراء النقبية، وتلك الزخات العطرية التي ترسلها دلتا (أبين) ودلتا (لحج) هديةً لتلك المدينة الدهرية التي عُمرُها من عمر الزمن.

يضاف إلى ذلك الحالة المعنوية للناس في رخائهم وشقائهم، في أمنهم وخوفهم، ولم تكن تلك الأيام التي نتحدّث عنها آمنةً من خوف ولا مُطعَمة من جوع، لذلك فإنّ أنفاس الصباح لم تكن تخلو من قسوة المعاناة.

ذلك الصباح الاستثنائي كان مختلفًا، فقد هبط على متن سفينتنا (الإذاعة والتلفزيون) التي كانت تترنح تحت القصف والقصف المضادّ للنفوس المتنمّرة والأرواح المتوثّبة، والمصالح المتقاطعة، نورس بالغ الجمال وربّان مقاتل من الطراز الأوّل، هو (عمر الجاوي) الذي عُيّن مديرًا عامًّا للإذاعة والتلفزيون، ولم يكن من الحزب الحاكم، كما لم يكن موظفًا عامًّا يمكن أن يُؤمَر فيأتمر، لذلك فقد هيّأ مسرح القتال منذ لحظة هبوطه، ولم نعرف معه طعم الراحة أبدًا، ولكننا عرفنا مجد التحدي وتعلّمنا فنون الاقتحام...، تقول له: "هذا جبل، يا عمر"، فيقول لك: "عيب، حد نظرك. أنا ابن عبدالله، هذه غيمة هشّة دق راسك براسها"، وحين تعود إليه بدمك، يقول لك: "هكذا الرجال، ذي ما يكسر ظهرك، يقوّيك".

عمر الجاوي الذي درس في طنطا وموسكو، وكان زعيمًا طلابيًّا بارزًا، وأحد أبرز قادة الدفاع عن صنعاء في حصار السبعين يومًا، كان رجلًا قصير القامة برأس أصلع وعينين مغناطيسيّتين جاحظتين، وصوت جليل حين يتكل بأداء موسيقيّ أخّاذ مطرّز بالشعر والحكم والأمثال الشعبية، كان يساريًّا باللسان، شعبيًّا تراثيًّا بالوجدان، إنسانيًّا في الأعمال، إنّه بالضبط الذي عناه الشاعر بقوله: "ترى الرَّجُلَ النَّحيفَ فتزدريهِ ** وفي أثوابِهِ أسَدٌ هصُورُ".

قام الجاوي دون الرجوع إلى الوزير والوزارة، بتشكيل مجلس للإذاعة والتلفزيون، وعيّنني نائبًا له ومديرًا للإذاعة (دون معرفة سابقة، ودون استحقاقات مالية)، وكان أول قرار اتخذه حرمان نفسه من راتب المدير العام، والتنازل عن صلاحياته المالية للمسؤول المالي؛ "عيب نوسّخ أنفسنا بالفلوس. ثم اقذفوا بكتّاب التقارير ولصوص المهنة في الشارع، فإنّ لم تستطيعوا فأقفلوا عليهم في الغرف الخلفية المظلمة".

وهكذا دخلت مع عمر الجاوي في نفق لم أكن أعرف ما ينتظرني فيه، ولكنه كان مليئًا بالإثارة والتحديّ والكبرياء، فإذا كنت مع (العميد) في قلب زوبعة، فإنّني مع (الجاوي) على جناح عاصفة لا تهدأ ليلَ نهار.

في أول اجتماع للمجلس الجديد للإذاعة والتلفزيون بعدن، والذي شكّله [الجاوي] دون الرجوع إلى وزير الإعلام آنذاك (عبدالله الخامري) ودون أن يحفل قليلًا أو كثيرًا باللوائح، تمكّن عضوَا المجلس (علوي السقاف) و(خالد محيرز)، من إقناع عمر بعدم التنازل عن صلاحياته المالية، لأنّ (المال عصب العمل، وأهم سلاح في يد المدير العام)، وكذلك فيما يتعلق براتبه؛ "فلك الحق أن تتبرع به أو تفعل به ما تشاء، ولكن ينبغي أن تقبض الراتب، وحسب الأصول".

خلال الاجتماع جاءنا من يقول، إنّ الملحق الثقافي في سفارة ألمانيا الديمقراطية ينتظر مقابلة المدير العام، فإذا بالجاوي يقفز مثل (الجِنّي) إلى الباب ليمنعه من الدخول؛ "كيف سمحت لنفسك أن تأتي بلا موعد؟ ثم ما هذه الأشرطة التي تحملها؟"، شرح الألماني، تحت وقع الصدمة والمفاجأة، أنّه مرسل من مكتب الوزير، وهذه الأشرطة التلفزيونية هي لتعليم اللغة الألمانية، بناء على اتفاق موقّع على أعلى المستويات.

خرج الجاوي عن طوره، وطلب من أحد الموجودين إخراجَ الأشرطة خارج الغرفة: "دعني ألقّن هذا الخبير درسًا، يا حضرة الملحق الألماني، إنّ شعبنا يرغب في أن يتعلم لغته العربية الفصحى، ونحن في سبيل الإعداد لذلك على أشرطة مثل أشرطتك، ثم سنعلّمه اللغة الإنجليزية، وهي اللغة الثانية في هذا البلد، وأظنّك تعرف أنّ عدن كانت مستعمرة إنجليزية حتى ما قبل 3 سنوات، وبعد ذلك سنعلّمه اللغة الروسية، اللغة الأم للمعسكر الاشتراكي التي أجيدها أنا وأنت، وعندما يتقن شعبنا هذه اللغات الثلاث تمامًا، فسنفكر في مشروع تعليم اللغة الألمانية. عد إلى الوزير وقل له إنّ (عمر الجاوي) يقول؛ إنّ اللغة الألمانية لن تمرّ إلّا على جثته".

بهت الألماني الذي لم يتعوّد مثل هذه اللغة، فانسحب دون أن ينطق بكلمة، وكان هذا الموقف العاملَ الثاني من عوامل الحرب بين مجلس إدارة الإذاعة والتلفزيون ومديرها العام، وبين الوزارة ووزيرها.

لم يكن الجاوي يملك سيارة، وفي الوقت نفسه يرفض استخدام سيارات الإذاعة والتلفزيون، وكنّا في طريقنا إلى الشارع عقب الاجتماع للبحث عمّن يقلّنا على طريقة (الأوتو ستوب)، فصادفنا (ضرار عبدالوهاب) مراقب البرامج، الذي أوقفه الجاوي عن العمل منذ أول يوم وهو رجل خطير له أبعاد وأعماق، فخاطب الجاوي بقوله: "باين عليك ناوي (تعصدها)"، فقال الجاوي: "أيوه، ولكن في بطنك".

أول ما وقفنا على الرصيف توقّفت لنا سيارة، ولدهشتي كانت سيارة (العميد) عبدالوهاب عبدالباري، الذي لم أرَه منذ عدة أشهر، والذي انفجر أول ما شاهد الجاوي: "أنا يا عمر، يشنّعوا عليّ ويسمّوني (عبدالقات، عبدالبوري)، (رأس النرجيلة)". أخذ عمر في تهدئته، بينما العميد يدوس على (البريك) و(الكلاتش) في ضربات سريعة متتابعة. "طيب على كيفك، ما فيش قطع غيار في البلاد"، قال العميد: "بافرجّك انتقامي".

أزاح العميد سجادة من على (البريك) و(الكلاتش)، حيث ألصق صورتين لـ(لينين) و(ماركس)، أخذ يدوس عليهما، علّق الجاوي: "لا حول إلا بالله، با يخلّوا نص شعبنا مجانين".

(*) من كتاب دفاتر الأيام، منشورات وزارة الثقافة 2006.

•••

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English