سوق"المِلح" الذي لم يعد مليحاً

المنتوجات الحرفية صارت بضائع صينة بلا روح !
دعاء الواسعي
January 1, 2024

سوق"المِلح" الذي لم يعد مليحاً

المنتوجات الحرفية صارت بضائع صينة بلا روح !
دعاء الواسعي
January 1, 2024
.

(سوق المِلْح) أشهر أسواق صنعاء القديمة وأقدمها، واشتُهر بهذا الاسم كونه السوق الرئيسية للتوابل والبهارات، غير أنّ هذا الاسم الشائع في المدونة الشعبية ورد بتسمية أخرى عند صاحب "الإكليل"؛ المؤرخ أبو محمد الحسن الهمداني، الذي أورد سببًا آخرَ للتسمية، وأنه في الأصل سوق المُلَح (بضم الميم وفتح اللام)؛ أي إنه سوق كل ما هو جميل ومليح وصُحِّفت التسمية لاحقًا، وصارت سوق المِلْح (بكسر الميم وسكون اللام).

قبل انخراطي في عملي مرشدة، لم أكن أعرف أنه في هذا السوق كانت تتم صياغة الفضة والمشغولات ومنمنمات العمارة وغيرها، على أيدي الحرفيين اليمنيين (اليهود)، الذين كانوا مشهورين في هذا الجانب، حسب ما أورده الدكتور محمد عبدالعزيز سعد يسر، في كتابه المسمى (الموروث الحضاري بصنعاء القديمة): "يعمل الرجال من يهود اليمن في شتى الأعمال، كما تعمل نساؤهم في بعض الأعمال، بما فيها الخدمات في بيوت الموسرين، وبيوت الأجانب العاملين في اليمن".

ويضيف سعيد أن اليهود كانوا يشتهرون بأعمال التجارة، حيث كانت حفنة صغيرة من التجار اليهود تسيطر على دفة التجارة في اليمن، بالتعاون الوثيق مع التجار الكبار من يهود عدن، فصاغة الفضة والذهب من اليهود يقفون وقفة الند للند مع الصاغة المسلمين ومن الصناعات والأعمال التي يعمل بها الفريقان: التجارة والحدادة والبناء، وصناعة الأحذية، وصناعة الحلويات، وصناعة الفرش المنزلية على اختلاف أنواعها، كالمطارح والوسائد والحلف والستائر.

وقد ذكر أحمد وصفي زكريا أثناء زيارته لليمن عام 1936، أن بعض الصناعات في يد اليهود كالصياغة يصوغون من الذهب خواتم وعقودًا وأساور وخلاخل جميلة، ومن الفضة والنحاس أوانيَ منقوشة، ومنها النراجيل التي يدعونها (مَدَاعَة)، والخناجر التي يدعونها (جَنبِية).

وأثناء عملي مرشدة، كنت أطوف الدكاكين في سوق الحلقة وأسرد أن سوق المُلح -بضم الميم، بمعنى الشيء المليح- مقسم إلى أقسام وتفرعات، وكل فرع يمثل صناعة وحرفة معينة.

استرجاع

في عام 1763، زار سوق صنعاء المستشرق الألماني نيبور، ووصف أزقته المتخصصة في بيع مختلف البضائع والمواد، واستطاع أن يحصي أكثر من عشرين نوعًا من العنب. وذكر عالم الأنثروبولوجيا والتر دوستال في كتابه «سوق صنعاء» الذي صدر عام 1979، بأن خطة السوق الحالية هي نتيجة تغيرات بنائية ومكانية عبر التاريخ وتعكس تلبيته للحاجات المستحدثة، وأنه كان يوجد بسوق بصنعاء حتى العام 1974، تسعة وأربعون سوقًا، وتسع وعشرون سمسرة ونزلًا للإقامة.

في كتاب المستشرق الفرنسي فرانك مراميه المعنون بـ(شيخ الليل- أسواق صنعاء ومجتمعها):

"في الماضي كانت صنعاء مشهورة بصناعتها الحرفيَّة. لا يزال الصنعانيون إلى الآن يشتغلون النحاس، كما أن قصبات النراجيل المصنوعة في صنعاء مفضلة في المشرق كله. أما اليوم فإن هذه الصناعة الحرفية في حالة سيئة. لقد كانت هذه الأسواق في الماضي مفخرة جزيرة العرب، والآن يمكنك أن تعبرها من طرف إلى آخر وترى دكاكين كبيرة، ومثلها من البسطات المغطاة، مليئة بالرياش والأقمشة المطبوعة والأحذية الرخيصة والسلع الرديئة القادمة من أوروبا". 

الحال اليوم

لم نعد نرى من السوق المتشعب والمتداخل وظيفيًّا إلا سوق الجنابي والأحزمة والمعدن والمحدادة، أما الفضة فقد اختفت تمامًا من المحترفات، وما تبقى في سوق (المخلاص) بعضُ معروضات المقتنيات القديمة فقط، في بعض المحلات. وعندما تقرر زيارة سمسرة النُّحاس وسمسرة الذماري، ستتحسر كثيرًا على ما آل إليه حالهما، فبعد أن كانتا أشبه بنواة لأكاديميتين تدريبيتين للحرفيين الشبّان الراغبين في إحياء الصناعات التقليدية، صارتا خرابتين إلا من بعض المعروضات القليلة التي تغطيها الأتربة.

أتذكر أني في فترة عملي مرشدة، حينما كانت المدينة قبلة للسياحة، لم أكن أستطيع أن أطوف بعيني على كل المحال التقليدية؛ لكثرة المعروضات القديمة والجميلة، لكني اليوم لا أرى غير المنتوجات الصينية المقلدة، وهي تعرض في واجهات المحلات من ألبسة وتحف ومصوغات.

في زياراتي المتكررة للأسواق، لاحظت ليس فقط غزو المنتجات الصينية، وإنما معروضات لأنتيكات قديمة كانت تخص أبناء المدينة باعوها لعدم تقديرهم لقيمتها التاريخية، وفي الغالب لحاجتهم المادية لأثمانها.

في العام 2007، نفذ فريق من الصندوق الاجتماعي للتنمية، دراسة مهمة لتوثيق الحرف والصناعات التقليدية في أسواق صنعاء القديمة، وكنت ضمن هذا الفريق، وقد لاحظنا أن العديد من بيوت صنعاء تحتوي على مجاميع من الحرفيين القادرين على جعل الصناعات التقليدية مهنة مستديمة، حيث كان الوضع أفضل من وقتنا الراهن، من حيث القيمة الشرائية للعملة، وتوفر المواد الخام والأيدي العاملة، وحضور خجول للنشاط السياحي، ولكن الناس لم تعد تحتاج هذا الصناعات، وهذا هو السبب الرئيس لاختفاء الحرفيين، فمع التبدلات المهولة في الأوضاع المعيشية صار المهتمون بهذا الجانب يبحثون عن الأرخص وليس الأجود، لهذا تم استخدام المعدن الملون بدلًا عن النحاس، والزجاج الصناعي الملون بدلًا عن المرجان والكريستال الأصلي. قبل أن تعزوا المنتجات المقلدة أسواق صنعاء القديمة، كان من المستحيل أن ترى امرأة كبيرة في السن بدون أن تتزين رقبتها بعقد مرجان أصلي وثمين تيمُّنًا به وتحرزًا من شرور الأعين.

أتكلم هنا عمّا قبل عشرين سنة ماضية، أما الآن حدِّث ولا حرج، كل الدكاكين في مراكز الصناعات التقليدية النسائية والرجالية في السماسر التقليدية ومراكز الحرف، صارت في غرف العناية المركزة، والحرفيون التقليديون المتبقون في هذه المحلات اضطرتهم الظروف فقط للاستمرار في أعمالهم، على أمل أن تتحسن الظروف وتعود أسواق صنعاء إلى طبيعتها، ومنتوجاتها الحرفية إلى محط اهتمام المقتنين. 

وفي زياراتي المتكررة للأسواق، لاحظت ليس فقط غزو المنتجات الصينية، وإنما معروضات لأنتيكات قديمة كانت تخص أبناء المدينة باعوها لعدم تقديرهم لقيمتها التاريخية، وفي الغالب لحاجتهم المادية لأثمانها.

هكذا ضاعت أسواق صنعاء في زحام المنتج الصيني الرخيص في السعر والجودة، وضاع الفن بسبب ظروف المعيشة، وانطفأ نور الحرف اليدوية التقليدية والمصحوبة بفن الزخارف والذوق الرفيع الذي كان يزيّن كل بيوت صنعاء القديمة. 

•••
دعاء الواسعي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English