المنطوق السردي من منظور بورديو

قصة "عمنا صالح" لمحمد عبدالولي نموذجًا
جازم سيف
February 23, 2024

المنطوق السردي من منظور بورديو

قصة "عمنا صالح" لمحمد عبدالولي نموذجًا
جازم سيف
February 23, 2024

مدخل

النص الأدبي بحثٌ واشتغال حرّ، عبره وفي داخل حقوله النظرية، تتضح طبيعة العلاقات القائمة بين الأشياء والظواهر بمستوياتها وبمتونها وهوامشها المختلفة، كما يعدّ النص الإبداعي إنتاجًا تتفتق عنه أسرار وعوالم لم تكن محفوظة في دولاب وأرشيف التجارب السابقة.

وبالإضافة إلى كونه منطقة توغل فني جمالي إبداعي مهتم بسبر أغوار الوجود الإنساني بواسطة التخيل، والتأمل، والحفر- يعتبر النص الإبداعي حرثًا وتقليبًا وتفكيكًا وإعادة تركيب للبنية، وفق رؤية جانبية جديدة وغير معتادة تجعل مكونات البنية انكشافًا علنيًّا موضحًا للرؤية، والدافع هو الرغبة في معاينة ما يدور خلف الكواليس، والتطلع لمعرفة ما يجري ويحدث في المناطق المحجوبة.

في السجن، يغيب العقل كما يغيب الإحساس والإيمان بقيمة التغيير، وتحضر السلطة ببثورها ودماملها الثقافية والسياسية والتاريخية بكامل قوتها وأدواتها السوسيولوجية الممسكة بزمن معتقل.

قصة "عمنا صالح" من منظور بورديو

يمثّل العنوان عتبةً أساسية في النص، فهو بمنزلة المفتاح من الباب، وبمنزلة المبتدأ من الخبر(1)؛ وتنبثق أهميته من كونه من أهم العناصر المكونة للعمل الأدبي عمومًا، والعمل السردي خاصة، فهو ذو طبيعة مرجعية لأنه يحيل إلى النص المتن، ومع ذلك فبنية كل واحد منهما تختلف عن الأخرى(2). في نص "عمنا صالح" تحضر التسمية، الرمز، اللقب، الصفة الدينية والثقافية والسياسية، وتحضر أيضًا العملات النقدية المتداولة، والحالة المرضية، وأنواع العلب المستهلكة، وبعض الشخصيات الرسمية، ولكلٍّ منها استعمالات معبرة عن العلاقات السائدة، والمكان والزمان التاريخيَّين، تحيل إلى واقع مغلق يتحرك في ثباته، وهو بفعل هذه الصنمية يعدّ واقعًا معزولًا ممانعًا للتنفير، يرفض الاختلاف والتعدد والتنوع، ويعادي الحب، والجمال، والحداثة، والسياسة، معًا. 

والحال أن المعاني والتوصيفات، التسميات، الرموز المستعملة في النص، هي عناصر وأدوات سوسيولوجية دالة على مراحل وأحداث وتطورات اجتماعية وتاريخية، اعتمدها الكاتب في تشييد عمل فني مفارق، لا يحفظ التقليد والمحاكاة، وأدواتُه الفنية المستخدمة ليست بالضرورة الأدوات الفنية المعبأة بمعاني الحماس، النضال، الثورة، التي درج على استعمالها الأدب الملتزم. رغم انتماء القاص لهذا التيار، فإن ثمة خيالة فنية إبداعية، جمالية قد حدثت هنا، القصد هو التحليق خارج السرب، خارج النسق، ولا يثقلانه بتمثيلات وأدوات وأساليب فنية، تسهّل عملية الرؤية والكشف وإماطة اللثام عن سلوك وممارسة اجتماعية وثقافية وسياسية من خلال نص منفتح، غير متعب، أو مثقل بمواعظ وإرشادات الأيديولوجيا والسياسة، وتلك خاصية تفترض إمكانية مقاربة عبدالولي من منظور سوسيولوجيا الأدب الحديث والمعاصر بما يفيد القول "إنّ الحقل الاجتماعي ليس مجرد علاقات مادية وعلاقات قوة تجددها الملكيات الموضوعة، بل هو كذلك مجموع المعاني والرموز المشكلة له". بهذا المعنى سيتجاوز بيير بورديو(*) كارل ماركس، حيث سيولي أهمية كبرى للصراعات الرمزية في التباين الطبقي للمجتمع.

إذا كان ماركس قد أوضح في نص كتابه "حول المسألة اليهودية" الجانبَ المظلم من تحويل الدين بشكل عام، والدين اليهودي بشكل خاص، إلى أيديولوجية نفعية تدعي التفرد والتميز باعتبارها وسيلة لصياغة فقه نفوذ السيطرة والهيمنة الطبقية بطابعها المادي، فإن بورديو قد ابتكر تماسات وأوعية سيسيولوجية فكرية من داخل العلاقات الاجتماعية، لشرح وتفسير ظاهرة الهيمنة نفسها.

الكل يدخل، حتى تاريخها نفسه، أي ماضي الصراعات والتصنيفات والمعاني والدلالات، فإذا كان الصراع يهدف إلى الحفاظ على الأوضاع الاجتماعية القائمة، وعلى المسافات بين الطبقات والجماعات والأفراد، فإنه لا يتوسل إلى ذلك بالقوة والإكراه والقسر فقط، وإنما أيضًا بالسلطة السحرية للكلمة والمعنى والتمثّل، فالألفاظ والكلمات مثل: "اللقب"، و"التصنع"، و"البهرجة"، هي نتاج صراعات شرسة، يؤكّد من خلالها المسيطرون رفعتَهم وسموهم الثقافي، حفاظًا وإعادة إنتاج للمسافات التي تفضلهم عن الفئات الاجتماعية الأخرى(3).

وإذا كان ماركس قد أوضح في نص كتابه "حول المسألة اليهودية"، الجانبَ المظلم من تحويل الدين بشكل عام، والدين اليهودي بشكل خاص، إلى أيديولوجية نفعية تدعي التفرد والتميز باعتبارها وسيلة لصياغة فقه نفوذ السيطرة والهيمنة الطبقية بطابعها المادي، ووفق مقاييس الثروة ومعايير الملكية الاقتصادية والتحكم بوسائل وطرق الإنتاج، فإن بورديو قد ابتكر تماسات وأوعية سوسيولوجية فكرية من داخل العلاقات الاجتماعية، لشرح وتفسير ظاهرة الهيمنة نفسها، وذلك بغرض كشفه ومعاينته عملية إنتاج وإعادة إنتاج سياسة الخنوع والاستلاب المتمثلة بشكل رموز وألقاب وصفات وأمكنة وأديان، تستعملها القوة المسيطرة، وتلبسها معانيَ ودلالات ثقافية؛ بغرض بسط نفوذها على الأفراد والجماعات، ومن ثَمّ التحكم بمجريات ومؤشرات الواقع بقيمه ومفاهيمه واتجاهاته وعملياته، وحتى قرارته المستقبلية والمصيرية. بهذا المستوى من التعاطي المندفع ناحية كشاف بورديو السوسيواجتماعي، نلاحظ كيف تحول نص عبدالولي إلى وصف الفتاة اليهودية الحسناء ذات الشعر الغزير التي أحبها الشاب المسلم الوسيم صالح العمراني ويريد الزواج بها كما هي؛ لا لأنها يهودية، بل لأنها تريد أن تتحدّى حِسان صنعاء. إنّ هذا الذي يقود سيارة لم يقدها أحد قبله، أحبَّها هي، ولم يحب ساكنات القصور واللائي يشرن له بأيديهن من وراء زجاج نفوذهن، وذلك عبر تقنية فنية تعلو وتهبط وتتعرج منحنياتها الإبداعية برشاقة وتلقائية في موضوع عاطفي تنزع مؤشراته وعلاقاته الأولى للتعريف بأمر خاص بشخصين، إلى قضية عامة تلقي بظلال تأثيراتها الاجتماعية والثقافية والنفسية باتجاه أحداث ومناطق وتناقضات وعلاقات وتخوم وهزائم وتجاويف ما زالت حية وفعالة، تُحيلنا إلى معاناة ومخاوف وعادات وأحزان، وممنوعات، ومظاهر تعصب، وتصلنا بهجرات ومحالات وعوائق ومعتقدات وسلوكيات مزدحمة بالغيرة والحسد، تفتح عيوننا على حيل وإزاحات معلنة، وأخرى مضمرة وباطنية قابعة في الخفاء ومحتمية خلف حاجزٍ ما قوي، حتى لو كان ذلك الحاجز "قيس وليلى"، وترسم خطوط ونقاط صور كل تلك الاعتمالات في أماكن بمدينة مشيدة ذات سقوف ثقافية منخفضة، ترفض التعدد والتنوع، وذات طرق موحلة وترابية تثير الغبار، كلما سارت دابة أو سيارة عليها، تحتضن معتقلًا وقلعة تاريخية موضحة بالصورة تجمع السياسيين والمجانيين " لا يعرف أحد من هو ومتى كان".

حيث تجري التناقضات الثقافية والسياسية الماثلة نتاجاتها في بنية النص؛ بين قوى محافظة فاقدة الصلة بمجريات وتطورات العصر، مهتمة بتكريس ظروف وعوامل التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التي تسمح لها باستمرار عملية الهيمنة، وبين الضحايا المخالفين، من سياسيين ومواطنين كثر، كصالح العمراني، الذي غادر عالم العقلاء إلى عالم خاص به وحده، هو عالم الجنون. وهكذا فسجن القلعة كما يبدو، أصبح مكانًا لتأديب من يحاولون التمرّد والتحرر من العادات والتقاليد البالية برمزهم المثالي الأول صالح العمراني، المجنون ذو الشجون، الذي يقضي معظم أوقاته في تحريك موتور سيارته والجلوس مع علب الصفيح الفارغة؛ علب اللبن، علب التونا، علب السمن، ... يجلس معها، ينظمها بعضها فوق بعض حتى تصير مجموعة من الأهرامات التي ترتطم باستمرار في الأرض، وتصدر الأصوات كالمدافع، كما لو كان يعيد ترتيب وتركيب العالم والأشياء من جديد.

وتمتد غرائبية المجنون صالح العمراني إلى درجة اللامعقول بما في ذلك تنبؤاته السياسية المتعلقة بدخول وإطلاق سراح مساجين، وإن كان يفتقد أي مؤشر نوعي إضافي يدل على وعيه بمرحلة ما بعد الثورة، سواء الأوراق النقدية الحمراء أم الخضراء المطبوعة بذهنه كعلاقة وماركة مميزة مرتبطة بـ: عبدالغني علي، بصفته رجل بنك ومؤسس أول للاقتصاد، تترسخ ملامح وهوية عبدالغني هذا عملاقًا. يطلق صالح العمراني قوته المحركة البطيئة والسريعة، المتجهة إلى الأمام صباح كل يوم يفرض جمع الريالات من المساجين ليشتري بها سجائر، وقليلًا من الشاي، وشيئًا من السكر واللبن، وبِبُقشتين "بردقان" للمجنون الأردني الذي يقال إنه كان ضابطًا في جيش الملكيين، فاعتقل، ووضع في السجن معهم، ثم يتوجه إلى حوض المساجين يدعوهم جميعًا إلى حفلة شاي. ففي السجن، إذن يغيب العقل كما يغيب الإحساس والإيمان بقيمة التغيير، وتحضر السلطة ببثورها ودماملها الثقافية والساسية والتاريخية بكامل قوتها وأدواتها السوسيولوجية الممسكة بزمن معتقل، ليتحرك في دائرة مغلقة تتكرر فيها أوجه الحياة الرتيبة على نحو يومي، بتكرر نداء عمنا صالح لحبيبته يطالبها بأن تُسْلِم، وبتكرار ظاهرة النقاش  المكرورة التي يتميز بها كل المثقفين، وخاصة مثقفي العالم الثالث. وعلى هذا، فالأصل هنا في عالم السجن هو اللا أمل، واللا جدوى، ولا حديث منتج يطرح أسئلة ويؤسس لبناء فضاءات معرفية مع عمنا صالح؛ لأن كل الكلمات التي يستخدمها في حياته لا تتعدى المئة. تتكرر كل يوم، بل إنه أحيانًا لا يستخدم إلا بعضها، تمامًا مثل النِّقاش الذي تدور حلقاته بين المعتقلين السياسيين، وهو تمثّلٌ يلفت الانتباه إلى عمق الأزمة المستفحلة.

يظهر عمنا صالح العمراني، وهو السجين الذي تكالبت عليه أكثر من سلطة قمعية بأنساقها وحواجزها وأسوارها وقلاعها العتيقة، كما لو كان يعيش في ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية تحاكي بشكل غير مقصود طبيعة الظروف المحددة في "هابيتوس" بورديو.

ومن منظور بورديو النظري لفكرة، "الهابيتوس"(4) بوصفها منطقة تطبيع تنم عن قوة فعل سيوسيواجتماعي ثقافي سياسي ممنهج، تقوم به القوى الطبقية كإجراء لا بدّ منه، ومرسوم وفق هدف مسبق ينزع إلى التحكم بتشكيل نمط وعي، واتجاهات، وأفكار، واعتقادات الأفراد ضمن عملية تطبيع سوسيولوجي فعّال ومثابر، تقضي إلى توحد ثقافة المقهورين بثقافة قاهريهم، بوعي وبدون وعي.

يظهر عمنا صالح العمراني، وهو السجين الذي تكالبت عليه أكثر من سلطة قمعية بأنساقها وحواجزها وأسوارها وقلاعها العتيقة، كما لو كان يعيش في ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية تحاكي بشكل غير مقصود طبيعة الظروف المحددة في "هابيتوس" بورديو، حقل الترويض والتطبيع السوسيولوجي العام. لكنها أخفقت ولم تنجح ألبتة في الوصول إلى نتيجة عملية تؤكد خضوعه واستسلامه، صحيح أنّ صالح العمراني يناجي باستمرار حبيبته اليهودية "ليلاه"، بالقول: "جلنا أسلمي يا.... جنا أسلمي"، لكنه يعي كما تعي هي أيضًا بأنها لو أسلمت، فهل ترضى صنعاء عن هذا الزواج الذي يطعن كرامة وجمال بناتها الجميلات بالفعل. وهو وعي يجعله بمنأى وخارج إطار توصيف "الهابيتوس" وغير مستسلم لسلطة متعالية فائقة الضرر.

وفي الأخير، يمكن القول إن ما تم عرضه هنا من مقاربات مستوحاة من سوسيولوجيا علم اجتماع الأدب، ووضعها في خدمة محاولة قراءة أدب ونصوص فنٍّ ما، وفيه فن الكاتب محمد عبدالولي، وبقدر رفضنا تبنيها كقواعد وطرق ملزمة، يأتي إيماننا بضرورة انتهاج هذا الطريق ووضعه على قاعدة حرية وديمقراطية البحث والمعرفة والنقد والحوار والاختلاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش والإحالات:

(*) "بيير بورديو"‏: عالم اجتماع فرنسي، أحد الفاعلين الأساسيين في الحياة الثقافية والفكرية بفرنسا، وأحد المراجع العالمية في علم الاجتماع المعاصر.

  1. بلاغة السرد، محمد عبدالمطلب، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتابات نقدية، 2001، ص18.
  2. عتبات النص الأدبي (بحث نظري)، د. حميد لحمداني، علامات، نادي جدة الثقافي، العدد46، ديسمبر، 2002، ص21.

3- أحمد موسى بدوي: نظرية الممارسات لدى بورديو، مجلة إضافات، بيروت، العدد ٨، ٢٠٠٩.

4- الهابيتوس: يُعرّف بأنه نسق من الاستعدادات المكتسبة التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى العالم الذي يكتنفه، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. 

•••
جازم سيف

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English