شتّان بين من يعزف على آلة الموت، ومن يعزف على آلة الحياة، هذا هو الفرق هنا بين من يحمل كمنجة وآخر بندقية.
في اليمن الذي يختنق بأسوأ كارثة إنسانية في العالم -وفق الأمم المتحدة- نتيجة الحرب المستعرة منذ ست سنوات، بين الأطراف المتصارعة، يحاول صوتُ الموسيقى أن يعلو فوق صوت الرصاص ودوي القصف الذي تكفل بتعطيل سمع العالم عن الإصغاء لأصوات الفنانين والمبدعين اليمنيين.
وفي مرحلة الانحسار الفني الراهن الذي تعيشه اليمن بغياب المعاهد الموسيقية وتلاشي غالبية الأنشطة والفعاليات الفنية، تجلّت مؤخرًا محاولات شبابية فنية واعدة لمواجهة الواقع المرير بشيء من بهجة العزف وتعلّم الموسيقى وتنظيم بعض الفعاليات الموسيقية؛ لتمثل حراكًا فنيًّا مقاومًا في زمن الجوع والتشظي والدمار.
عهد موسيقي جديد
محافظة حضرموت الواقعة شرقي اليمن، وتحتل 36% من مساحته، والتي تعيش استقرارًا أمنيًّا ملحوظًا، خصوصًا بعد تحرير مدن ساحلها من قبضة تنظيم القاعدة في أبريل/ نيسان من العام 2016، تشهد مؤخرًا حراكًا فنيًّا وموسيقيًا كبيرًا في محاولات مستمرة، للتغلب على ظروف الحرب وصناعة السلام. ووفق إحصائية من جمعية الفنانين بساحل حضرموت فإن عدد الفنانين المسجلين في الجمعية يبلغ (950) فنانًا وفنانة، موزعين على ثماني مديريات بساحل المحافظة.
وقد نفذ مكتب وزارة الثقافة بمحافظة حضرموت عددًا من الدورات التدريبية في أساسيات العزف وقراءة النوتة الموسيقية، انطلقت أولها في مدينة المكلا بمشاركة أكثر من (50) متدربًا من الجنسين في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2020، واستمرت مدة أسبوعين. وسبق تلك الدورة تنفيذ دورتين موسيقيتين بمديريتي الشحر وغيل باوزير، في نوفمبر الماضي. كما نفذ مكتب وزارة الثقافة بوادي حضرموت، دورة أخرى في مدينة شبام لعدد من المتدربين في العشرين من ديسمبر العام الماضي.
على أنغام وألحان آلات الموسيقى، شهد مسرح حضرموت الوطني في مدينة المكلا حفلًا فنيًّا موسيقيًّا في الـ26 من أغسطس/ آب الماضي بمناسبة اختتام المشروع التدريبي "الموسيقى تعود"، الذي نفذته مبادرة ميمّز الفنية، في محاولة أولى لتأسيس وغرس بذرة التعليم الموسيقي الأكاديمي.
جميع تلك الدورات تلقّى فيها المتدربون والمتدربات عددًا من المعارف عن مفهوم قراءة النوتة الموسيقية ونظرياتها، وبعض المقامات شائعة الاستخدام، إضافة إلى تطبيقات عملية في استخدام الآلات الموسيقية المتنوعة.
ولعلّ ما يميّز هذه الدورات هو الإقبال الكبير للشباب من الجنسين، ففي ساحل حضرموت فاقت نسبة الفتيات المشاركات فيها الـ30% في محاولة لكسر النمطية بعد سنوات من انحسار مشاركة العنصر النسائي في مثل هذه الدورات واقتصارها على الشباب من فئة الذكور.
مدير عام مكتب وزارة الثقافة بساحل حضرموت، ماهر بن صالح، في تصريح خاص لـ"خيوط"، أشار إلى أهمية تنفيذ هذه الدورات الفنية التي تأتي ضمن خطط وأنشطة مكتب الوزارة، بهدف تحريك الجمود الثقافي في المحافظة، والوطن عمومًا، ولترسل حضرموت للعالم رسائل السلام بالفن والموسيقى، حسب وصفه. مضيفًا: "هناك مساعٍ من قبل مكتب الوزارة بالتعاون مع محافظ حضرموت لإعادة افتتاح معهد محمد جمعة خان للفنون في المكلا خلال الفترة القادمة".
وفي أبريل/ نيسان من العام 2019، نظم الموزع الموسيقيّ اليمنيّ محمد القحوم، فعالية الموسيقى الحضرمية كأول أوركسترا يمنية تُعزف منذ اندلاع الحرب "أمل من عمق الألم"، والتي أقيمت في العاصمة الماليزية كوالالمبور بمشاركة نحو (90) عازفًا أروكستراليًّا وتراثيًّا من اليمن وماليزيا واليابان وعدد من الجنسيات الأخرى.
كما شهد الأول من يوليو/ تموز هذا العام، تفاعلّ اليمنيين بكل فئاتهم على منصات مواقع التواصل الاجتماعي ليصنعوا يومًا مختلفًا ومخصصًا من كل عام "للأغنية اليمنية"، باعتبارها جزءًا أصيلًا من هُوية اليمني، وعاملًا أساسيًّا في تماسك النسيج الاجتماعي للبلد.
وعن ولادة عهدٍ موسيقي جديد قال الموزع الموسيقي محمد القحوم لـ"خيوط": "رغم الفجوة الفنية والموسيقية الكبيرة بين الجيل السابق والجيل الجديد، إلا أن الحراك الفني الحاصل اليوم في بلادنا وإقبال الشباب على الدارسة الأكاديمية الموسيقية، والتفاعل مع الفعاليات الفنية، أمر يبعث على البهجة، وأستطيع القول إننا على أعتاب عهد موسيقي جديد إذا استمرت العجلة بالدوران على هذا النحو".
الفن راجع
على أنغام وألحان آلات الموسيقى شهد مسرح حضرموت الوطني في مدينة المكلا حفلًا فنيًّا موسيقيًّا في الـ26 من أغسطس/ آب الماضي بمناسبة اختتام المشروع التدريبي "الموسيقى تعود"، الذي نفذته مبادرة ميمّز الفنية، في محاولة أولى لتأسيس وغرس بذرة التعليم الموسيقيّ الأكاديميّ، في ظل غياب معاهد التعليم الموسيقية في البلاد منذ نحو ثلاثة عقود.
وعن فكرة وأهداف هذا المشروع الذي استمر لمدة ثلاثة أشهر، قالت الشريك المؤسس لمبادرة ميمّز الفنية، شيماء بن عثمان، في تصريح خاص لـ"خيوط": "تتجلى أهداف المشروع في تعبئة النقص الكبير في الأنشطة الفنية، وسد الفجوة بين الموسيقيين الشباب وسوق صناعة الموسيقى المحلية والعالمية". وأضافت "شكّلت معاناة الحرب دافعًا أساسيًّا لخلق مساحة فنية آمنة للمواهب الشابة، فلو كنّا نعيش في وضع اعتيادي ربما لم نكن لنفكر في هذه المبادرة".
واستهدف المشروع تدريب (30) مشاركًا من فئة الشباب على كيفية قراءة النوتات للموسيقى الغربية والشرقية والمقطوعات اليمنية، وتعلّم الأشكال الإيقاعية الصولفائية بخطين مختلفين، إضافة إلى أساسيات الغناء الصولفائي، والعزف الجماعي وتوحيد الأساليب الموسيقية.
تحديات أمام الحراك الفني
على الرغم من أن البيئة اليمنية قد ازدهرت طيلة قرون بالتنوع الفنيّ الذي يُعدُّ جُزءًا أصيلًا من الثقافة المحلية ذات التراث الغني إيقاعًا ولحنًا وموسيقى. إلا أن غياب المعاهد الموسيقية والتعليم الأكاديمي الحديث، وضعف اهتمام الدولة بهذا المجال؛ شكّل تحديًّا يحول دون ازدهار الفنون الموسيقية وتطوّر أنماطها التقليدية.
كما شكّلت ظروف الحرب والنزاعات السياسية وقيود العادات والتقاليد الاجتماعية وتأثير الخطابات الدينية المتشددة، تحديات أخرى أمام هذا الحراك الفني.
فأمام القمع والتحريض والتضييق الذي يطال بعض الفنانين والعاملين في المجال الفني، والأصوات الناقدة لهم بأن (الوقت ليس مناسبًا للفن)؛ يتمسك أصحاب المشاريع الفنية بضرورة وجود الفن وأهميته، خصوصًا في هذه المرحلة، ليسهم في تعزيز السِّلم المجتمعي الذي يكفل حريات الرأي والتعبير ومناصرة قضايا الناس.
وعن التحديات التي تواجه المرأة اليمنية في هذا المجال، أبدت شيماء بن عثمان خلال حديثها، مخاوفها وقلقها من تحريض الأصوات المتشددة في المجتمع على حرية المرأة في ممارسة هواياتها الموسيقية والغنائية.
الموسيقى من أجل السلام
"الموسيقى لا تجعلنا نبقى غرباء أبدًا"، تجسد هذه المقولة واقعًا حقيقيًّا اليوم مع التطوّر التكنولوجي وسرعة الإنترنت ووسائل الإعلام الحديث التي تستطيع -وبكبسة زر- أن تتعرف على هُويات الشعوب وتتقارب معها.
قد يمكن لشخصين أن يتنازعا سياسيًّا أو مناطقيًّا أو دينيًّا، لكنهما قد يتفقان على حب سماع أغنية واحدة أو يذوبان عشقًا في عذوبة صوت فنانة معينة.
وعن الدور الذي يمكن أن تسهم فيه الموسيقى لخلق روح التعايش والسلام بين الناس، قال الموزع الموسيقى محمد القحوم في حديثه: "أدركت خلال عملي أن الموسيقى يمكن أن تجمع ولا تفرق، وتخلق صورة مشرقة عن الوطن".
وأكد القحوم: "تصلني الكثير من الرسائل التشجيعية وردود الأفعال الجميلة من قبل المتابعين بمختلف جنسياتهم وانتماءاتهم عما ننتجه وننشره من أعمال موسيقية، وهذا يؤكد أن الفن لغة العالم ورسالة أصيلة للتواصل والتقارب بين الشعوب مهما كانت اختلافاتهم".
سوق عمل مفتوح
بالإضافة إلى القيمة الإنسانية التي تمثّلها الفنون والموسيقى، فهي توفر قيمة مادية وفرص عمل مربحة للعاملين في هذا المجال؛ لأن جزءًا من الأزمات التي تعيشها البلاد هي أزمة البطالة وتدهور الوضع الاقتصادي، فيمكن بالاجتهاد والابتكار والتطوير أن تتحول المحنة إلى منحة، إذ يعتبر العمل في المجال الموسيقي سوقًا خصبًا ومتاحًا للاستثمار فيه.
وحول إمكانية ازدهار هذا السوق، أوضح الموزع الموسيقي محمد القحوم لـ"خيوط"، أن المجال الموسيقي يعتبر مصدر دخل رئيسي، ويمكن للكثيرين العمل فيه من خلال تنظيم الاحتفالات والمهرجانات أو التسجيل في الاستوديوهات، وإنتاج الأعمال الفنية المختلفة التي يمكن تسويقها وبيعها، فبلادنا غنية بالفنون الجميلة التي يمكن تقديمها للعالم، فالموسيقى تبقى لغة السلام ولغة الجميع".
البيئة الفنية في اليمن جديرة بتعاون الجهات الحكومية مع الفنانين والمبدعين من خلال تفعيل أدوار مكاتب وزارة الثقافة في جميع المحافظات، لخلق موسيقى وفنون إبداعية جديدة تسهم في تخفيف أعباء الصراع الذي أنهك كاهل اليمنيين. هذه القصة ينقصها فصل واحد لتكتمل؛ وقف الحرب، وإحلال السلام، وبناء دولة مدنية حديثة، كل ذلك كفيل بجعل اليمن قِبلة فنّية تأسر قلوب العالمين.