الحرب وآثارها البيولوجية والديموغرافية

في رواية رستم عبدالله "أرض المومياء"
عبده منصور المحمودي
July 29, 2022

الحرب وآثارها البيولوجية والديموغرافية

في رواية رستم عبدالله "أرض المومياء"
عبده منصور المحمودي
July 29, 2022

بعد بِضْعِ سنواتٍ من صدور روايته الأولى "مدينة الموتى"، عن دار فكرة، القاهرة، 2017م. يقَدّم الكاتب اليمني رستم عبدالله، صورةً من التقاء الماضي بالحاضر، في عمله الروائي الثاني "أرض المومياء"، حيث يتفاعلُ ماضي الحضارة اليمنية القديمة، مع حاضر اليمنيين البائس، في أتون حربٍ، لم تتوقف منذ استعارها في مارس/ آذار 2015م.

لقد كان النزوح واحدًا من أبرز تداعيات هذه الحرب، بما فيه من كارثيةٍ ومعاناةٍ ومفاجأةٍ مأساوية؛ لذلك فقد احتفت به الروايةُ في كثيرٍ من محطّاتها، يقول سعيد، الشخصية الرئيسة في العمل: "لا أدري! ولا أكاد أصدق كيف خرجنا، ونجونا من أنقاض الركام، والدمار المحيط بنا، أنا وأمي وإخوتي، كان كل ما شاهدناه هو أمواج من البشر الهادر، تنزح دون أخذ أي متاع، أو أثاث يذكر سوى حقائب شراعية صغيرة، وأكياس حشرت بها بعض الأسمال -على وجل- ما يستر الجسد قادم الأيام القاتمة"، (ص: 6). 

لقد نزح سعيد وأسرته، من تعز إلى مأرب، فكانت زيارة الأماكن الأثرية واحدة من المسارات التي استدرجتْه إليها. ومن هذا المنحى، تخلّقت قصة المومياوات اليمنية، ذات المحورية الرئيسة في الرواية، حيث تعاطى معها العمل، منذ لحظة الموت، التي داهمت حياة الملك "بعثتر بن عسب إل"، أحد أشراف قبيلة "يرسم"، ومع تفاصيل التحنيط التي أُجريت على جثته. 

امتد هذا التعاطي السردي، إلى العصر الحديث، فقدّم موقفًا أكاديميًّا، ظهرت فيه شخصية البروفيسور هوارد رد - أستاذ ثقافة المومياوات المصرية القديمة بجامعتي: كاليفورنيا أمريكا، وجامعة يورك بريطانيا- وهو يشرح لطلبته تاريخ التحنيط، فتحدثه طالبتُه هيلين روث، عن مومياء يمنيةٍ محنطة، رأتها في جولتها السياحية مع والدها إلى اليمن. أثار حديثها فضوله، وأغراه بالسفر إلى اليمن، للوقوف على هذا الإرث الحضاري ودراسته.

تتسارد قصةُ المومياوات، في الواقع المعاصر، بخصوصية الحرب فيه، والتي انعكست آثارها الكارثية على كائنات هذه القصة؛ ففي العام 2017م، تحدثت وسائل الإعلام عن "تعرض مومياوات متحف جامعة صنعاء للتلف؛ نتيجة انقطاع الكهرباء وتوقف أجهزة التبريد، وضبط قياسات الرطوبة، والحرارة، وصعوبة وصول كثير من السلع والأدوية لليمن"، (ص: 62). وعن نشاط بكتيريا هذه المومياوات، بتوصيفها "بكتيريا قاتلة وخبيثة تعود لثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، ظلت في حالة سبات ونوم طيلة عقود، وفي حالة موت أو تجمد شديدة حتى حصل ذاك الانقطاع التام للكهرباء، والذي بدوره عطّل أجهزة حفظ المومياوات؛ فانزاحت عن جسمها البرودة التي تبقيها ساكنة من أن تثور وتهيج وتنتشر بشكل مخيف"، (ص: 31). ثم تظهر -على إثر ذلك- شخصية جواد، فني الآثار وأمين مستودع الآثار في متحف الآثار بجامعة صنعاء، كأول ضحيةٍ لهذه البكتيريا، تم إسعافه إلى المشفى، ومعه انتقل الخطر إلى مختبر التحليل الطبي، فكانت الكارثة التي شُكِّلَتْ لجنةٌ عاليةُ المستوى، للتعاطي معها.

لقد استأنست الروايةُ بأنسقةٍ موضوعية وعلمية، في معالجتها لعراقة التحنيط اليمني القديم، لكنها لم تسلم من التداعيات الوجدانية المتدفقة من الذات الساردة، التي وضعها هذا التدفق في منصة المحامي المسهب في مرافعاته، فوجد الحشو في تموضعها هذا مساحةً لحضوره، لكنه حضورٌ لم يصل إلى أن يتعثر به القارئ

مات جواد، ولحقت به الممرضة حياة، وبعد أيامٍ قليلة من السيطرة على الكارثة، تُوفِّي أحد أفراد طاقم المكافحة بجلطةٍ مفاجئةٍ في الدماغ، وبعد يومين تُوفِّي فردٌ آخر من الفريق نفسه بسكتة قلبية مفاجئة، وبعد شهر جُنّ رئيس فريق المكافحة، ومرّتْ أربعة أشهر فقُتل أحدُ أفراد الفريق الثاني بطريقة عشوائية، كانت النتائجُ تُرْفعُ إلى اللجنة أولًا بأول، فدبّ الرعب في أعضائها، وأطَلّتْ في أذهانهم فكرة لعنة الفراعنة، التي يصاب بها لصوص المقابر والآثار، (ص: 64).

تصل الرواية بمصير النازح فيها ورفقائه، إلى معركتهم مع كائناتٍ غير مرئية (الجِنّ)، انتصروا فيها انتصارًا غير مكتملٍ؛ فقد توقفت سرديةُ العمل، عند ملاحظة النازح -الراوي- شبحًا بدا له أنه قائدُ تلك الكائنات.

الفضاء السردي 

يتنَوّعُ الفضاءُ المكاني في هذا العمل، منها: تعز، مأرب وصحراؤها وبعض جبالها الأثرية، متحف جامعة صنعاء، المشفى، المحويت وجبالها الأثرية، جامعة كاليفورنيا - أمريكا.

أما الفضاء الزمني الرئيس، فقد كان السنوات الخمس التالية للحرب اليمنية المندلعة في 2015م. مع تضمينه استرجاعاتٍ تاريخيةٍ، قديمةٍ وحديثةٍ، متعلقةٍ بالمومياوات اليمنية. فمن القديمة، ما يعود إلى قبل الميلاد. ومن الحديثة العام 2009م، زمن وصول البروفيسور إلى صنعاء، والعام 1983م، تاريخ اكتشاف مومياوات في المحويت، وتاريخ تأسيس متحف الآثار في جامعة صنعاء. وإلى ذلك، تضمّن الفضاءُ الزمني إشاراتٍ تاريخيةً أخرى، كعام 1922م، في مصر؛ والذي مات فيه أربعون عالِمًا بلعنة الفراعنة في حادثة القناع الذهبي. ومثل ذلك ورد العام 1942م، حينما فُقِد شخصان سويسريان في الجليد، عثرت السلطات السويسرية في عام 2017م، على بقايا مجمدةٍ منهما، محنطة في جبال "ديابلريتس".

وتفضي مقاربةُ الزمن التدويني الذي كتبت فيه الرواية، إلى تحديده في العام 2020م؛ استضاءةً بما ورد في العمل، من إشارةٍ إلى أنّ الحرب قد دخلت عامها الخامس، (ص: 58).

تقنياتٌ سردية

لقد كان النازح سعيد غالب، هو الشخصية الرئيسة في الرواية، كما ظهرت عددٌ من الشخصيات الثانوية، استلزمتْها مسارات العمل وخطوط الحكاية فيه. وعلى لسان سعيد -الراوي العليم المشارك- وردت الأحداث وتفاصيلها؛ فهو شابٌّ يمني تخرج في كلية الآداب جامعة تعز، شعبة تاريخ اليمن القديم، يضطلع برواية الأحداث لناشرٍ عربي، سالكًا أسلوب التناوب القائم على قَطْعِ القصة، والانتقال إلى قصةٍ أخرى، ثم العودة إلى القصة التي سبق أن انقطع سردُها. وقد أثارت هذه النسقية السردية نوعًا من التشويق في رواية الأحداث المتنوعة بين: تفاصيل نزوح سعيد ومغامراته، وجهود البروفيسور، وكارثة بكتيريا المومياوات، وتجربة الحب بين عزام وبين المخبرية حياة، وبراعة الطبيب الدباغ في تفاصيل التحنيط القديمة، والمعركة الأسطورية مع الكائنات غير المرئية.

لقد استأنست الروايةُ بأنسقةٍ موضوعية وعلمية، في معالجتها لعراقة التحنيط اليمني القديم، لكنها لم تسلم من التداعيات الوجدانية المتدفقة من الذات الساردة، التي وضعها هذا التدفق في منصة المحامي المسهب في مرافعاته، فوجد الحشو في تموضعها هذا مساحةً لحضوره، لكنه حضورٌ لم يصل إلى أن يتعثر به القارئ، إذ حالت انسيابية الصياغة دون ذلك. 

وفيما يتعلق باللغة السردية، فإنّها لم تخرج عن العربية الفصحى، شاملةً مشاهد الحوار، وفي ذلك إحالةٌ على تدخلات الراوي في الصياغات القولية، التي أوردها على ألسن الشخصيات. ويبدو أنّ ورود الصياغات القولية، على ما هي عليه، من سماتٍ لغوية محكية، متسقةٍ مع بيئة الشخصيات، هو ما كان سيتناسب أكثر مع صيغة التنسيق الكتابي، التي استقام عليها تدوين العمل، متضمِّنًا الحوارَ بالنسق المعتاد للصياغة المباشرة لا الصياغة المصقولة إلى الفصحى.

وقد أتاح العمل، لتقنية الاتكاء على الفانتازيا والرعب، حضورًا جوهريًّا فيه؛ استثمارًا لما وجده مناسبًا من الخيال الشعبي، فيما يتعلق بالجن وجدلية رؤية الإنسان لهم من عدمها. ويمكن القول، إنّ هذه التقنية الفنية سمةٌ أسلوبية، يتنامى تبلورها بشكلٍ قصديٍّ لدى الكاتب، ليس في هذا العمل فحسب، وإنما ابتداءً من عمله الأول "مدينة الموتى"، الذي كانت هذه التقنية نسقًا فنيًّا مهيمنًا على أحداثه، من بدايته حتى نهايته.

الخطاب الروائي

لقد اشتغلت الرواية على خطابٍ روائيٍّ ذي رؤيتين: الأولى إدانةُ الحرب، وكارثيتها، وآثارها التدميرية، التي شملت الإنس والجن. وبذلك، تسمو غاية هذه الرؤية، إلى قيم السلام، والتعايش الإنساني النبيل.

أما الرؤية الثانية، فقد كانت انتصارًا للحضارة اليمنية القديمة، والتحنيط المتقن فيها، وبشكلٍ يدعو إلى إعادة النظر، في التنظير الذي يحدد تاريخ التحنيط وأسبقيته وفقًا لمعطياتٍ ليس من بينها معطيات الحضارة اليمنية، التي لم تنَل حقَّها من البحث والدراسة. وبذلك فغاية هذه الرؤية حثُّ الدارسين، على استثمار هذا المنحى الخصب والبكر والواعد، استثمارًا فيه إمكانيةُ الوصول إلى نتائج مغايرة للتنظيرات السائدة. 

 إن هذا العمل يُمَثِّلُ -من حيث موضوعه- إضافةً نوعيةً إلى السردية اليمنية المعاصرة، وإلى سردية الحرب منها بوجه خاص، بما فيه من محوريةٍ سرديةٍ متعاطيةٍ مع كثيرٍ من تداعيات الحرب. وبما فيه من صمودٍ للذات الإبداعية في وجه الكارثة، غير منهزمةٍ ولا مستسلمة، باحثةً عن الانتصار في هُويتها الجغرافية المخذولة بوحشية الواقع ولا إنسانيته؛ لائذةً بالتاريخ المشرق، مُتَشَبِّثةً بالحضارة اليمنية القديمة ومآثرها الزاهية.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English