لغمٌ أطاح بذراع فنّان زخارف جِبسية

مأساة يرويها مغترب وقع مع رفاقه فريسة لثلاثة ألغام
فوزي المنتصر
February 25, 2022

لغمٌ أطاح بذراع فنّان زخارف جِبسية

مأساة يرويها مغترب وقع مع رفاقه فريسة لثلاثة ألغام
فوزي المنتصر
February 25, 2022

لم يكن مسعد (30 سنة) يتخيل أنه سيعيش يومًا ما فاقدًا لأهم عضو وظيفي في جسده، وهي يده اليمنى، لكن ذلك ما حدث له. 

يقول -ومسعد اسم مستعار بناء على طلبه- إنه بعد غربة عمل مضنية وشاقة، في جنوب المملكة العربية السعودية، استمرت لما يقارب العامين، قضاها بعيدًا عن أهله، قرر العودة إلى اليمن، في زيارة عائلية لفترة لا تزيد عن شهر حسب تقديره، وهي الفترة التي تم تحديدها على بطاقة إقامته عند تأشير خروجه من أحد منافذ السعودية.

هو من حدّد فترة إجازته بشهر، على أمل أنه سيعود بعد ذلك إلى عمله، ومن أين له أن يعرف حينها أن أطراف النزاع في وطنه باتوا يترصدون المارة من المدنيين، ويزرعون الألغام في الطرقات! ثلاثة ألغام لم تفسد –فقط- خطة مسعد في الإجازة والعودة لعمله في الغربة، بل تسببت له بإعاقة دائمة بفقدان ذراعه الأيمن الذي يعتمد عليه بصورة أساسية في عمله. كانت إصابته بانفجار اللغم الثالث في الوقت الذي كان يقوم فيه بدور المنقذ لسائق السيارة التي كان على متنها.

يحكي مسعد لـ"خيوط"، قصة إصابته وبعض رفاقه العائدين من المملكة العربية السعودية؛ كانوا على متن ثلاث سيارات: اثنتين من طراز "فورشنر" والثالثة من طراز "هايلوكس"، وعندما وصلوا إلى مديرية حريب بمحافظة مأرب، في طريقهم صوب صنعاء، انفجر اللغم الأول بسيارة الـ"هايلوكس" التي كان على متنها. يقول: "الحمد لله، لم يُصَب فينا إصابات بليغة غير السائق، إذ أصيب بستة كسور في رجله، وكانت إصابات باقي الركّاب خفيفة".

ويتابع مسعد: "حاول سائق إحدى السيارتين الـ"فورشنر"، أن يقترب منا لكي نسعف سائقنا المصاب، لكن لغما آخر انفجر بها، ثم بعد ذلك حاولت إخبار سائق السيارة الثالثة بألا يقترب منا أكثر، تجنبًا للدوس على لغم آخر، كون تلك السيارة هي الأخيرة التي يمكننا عبرها إسعاف المصابين". لكن سائق السيارة الثالثة تجاهل التحذير واقترب نحو السيارتين، وما لبث لغم ثالث أن انفجر بها. في ذلك الانفجار أصيب مسعد بشظايا في يده اليمنى، وبعد وقت قصير، توافد بعض المسافرين ونقل أحدهم مسعد بسيارته إلى المستشفى الريفي التابع لمديرية حريب، فيما نقل آخرون رفاقه المصابين إلى صنعاء ومدينة مأرب.

أسوأ ما في الإصابة التي تسببت بإعاقته، عندما يجد نفسه عاجزًا عن تأمين احتياجات أفراد أسرته، وهو يعتقد بأن الغياب عنهم أفضل من أن يرى احتياج زوجته وأطفاله للآخرين في ظل وجوده في ركن البيت بلا فائدة

صدمة تفوق التحمل

 لم يطرأ على بال سعيد أثناء إصابته ونقله إلى المستشفى الريفي، أن إصابته تلك قد تنتج عنها مضاعفات يمكن أن تصل إلى بتر ذراعه، كونه -كما قال- كان يتوقع أنه من الممكن التعامل مع الإصابة طبيًّا والتشافي منها. ويضيف: "أفقت في المستشفى الريفي من عملية التخدير، على سماع خبر تحويلي إلى المستشفى العسكري بصنعاء. كان ذلك بمثابة صدمة نفسية أكبر من صدمة الانفجار". حاول حينها "قدر المستطاع"، ألا ينظر إلى يده، ولكنه لم يستطع، وعندما نظر إليها، رآها "شبه مستوية" مع ما كان يحملها. "تم تشريحها بالكامل، من المرفق وحتى الرسغ، وكانت تلك الصدمة الأشد إيلامًا، والتي ما زالت آثارها باقية في نفسي ولن تزول". يقول مسعد، مستعيدًا اللحظة التي أجهش فيها بالبكاء، كونه أدرك حينها أنه سيفقد ذراعه إلى الأبد، وفعلًا تم بترها في المستشفى العسكري بصنعاء، وكانت تلك صدمته الأخيرة.

يبدي مسعد ندمًا وتحسرًا بالغَين بذهابه إلى المستشفى الريفي، ويعتقد بأنه لو كان ذهب إلى مستشفى لديه كفاءات وخبرات وتجهيزات طبية أفضل، لما فقد ذراعه. يقول إنه وافق على بتره كملاذ أخير لتجنّب ما هو أسوأ من المضاعفات، وأنه دفع ثمن الفشل الذي مُنِي به الأطباء في المستشفى الريفي، حيث أخبروه أنه كان عليهم احتواء نزيف داخلي، ونتج عن ذلك أيضًا، تسممٌ كان يُخشى أن ينتقل عبر الدم إلى القلب، ما أجبرهم على تحويله إلى صنعاء.

الحاجة للتأهيل من أجل حياة جديدة 

يقول مسعد، أن أسوأ ما في الإصابة التي تسببت بإعاقته، هو عندما يجد نفسه عاجزًا عن تأمين احتياجات أفراد أسرته، وهو يعتقد بأن الغياب عنهم أفضل من أن يرى احتياج زوجته وأطفاله للآخرين في ظل وجوده في ركن البيت- "كجسد بلا روح" كما وصف حالته. فشعوره بالعجز الذاتي هو بمثابة صدمة نفسية إضافية تعزز ضعفه في كل وقت تداهمه مثل هذه الأفكار.

وهو يعتبر أن إعاقته هي بحد ذاتها إعاقة لأسرته بجميع أفرادها، كما يفكر كثيرًا باختلال دوره بصفته رب أسرة يرى نفسه فاقدًا دوره وكفاءته في تقديم الدعم والمساندة والإرشاد؛ لا بد أن ينتج عن ذلك، الكثير من الاختلالات الأسرية، والاحتياجات الأسرية، المادية والعاطفية، بما في ذلك، الاضطرابات النفسية التي سيعكسها هو على أفراد أسرته، لكنه رغم ذلك، منفتح على الاستجابة لإعادة التأهيل إذا ما توفرت بصورة تعيد إليه دوره في رعاية أسرته.

لكنه، في الوقت الراهن، كما يقول، لا يستطيع التظاهر بالتفاؤل مهما حاول؛ لـ"أني فعلًا مصدوم نفسيًّا وأرى نفسي عاجزًا ذاتيًّا، وخصوصًا عندما أرى واقعنا في ظل الحرب التي لا ندري متى نهايتها، والتي خلفت الكثير من الصعوبات، مثل غلاء الأسعار وانعدام الرواتب وقلة الفرص، التي تشكل بالنسبة للشخص العادي السليم الكثير من الصعوبات". ذلك ما يقول مسعد إنه يدفعه غالبًا إلى الشعور بخيبة الأمل على نحو يفاقم من واقعه المعيشي والنفسي.

يرجح مسعد أن استعادة قدرته على العمل وتأهيله، هو أو غيره من ذوي الإعاقة، ولو بقدر ضئيل جدًّا، يمثل جزءًا رئيسيًّا من تعافيهم؛ لأنهم يعتبرون البطالة إنكارًا لذواتهم وحقهم في المشاركة الأسرية واتخاذ القرار

مخاوف من المستقبل

تقييم مسعد لذاته وقدرته الوظيفية المهارية، جعله يدرك مدى صعوبة المواءمة والتكيف الذاتي مع متغيرات الحياة، ما فاقم نسبة شعوره بالرهبة والخوف حيال مواجهة المستقبل المجهول. إذ يغدو المستقبل بالنسبة إليه كابوسًا يعيشه يوميًّا، إلى جانب قلقه الدائم وحياته غير المستقرة وشعوره بالاضطراب: "حاليًّا فقدت قدرتي فعلًا على ممارسة مهنتي السابقة كعامل في الجبسيّات التي كنت استغرقت سنوات لأنمّي مهاراتي فيها؛ وبدون اليد اليمنى، انتهى كل شيء، من الصعب العمل في هذه المهنة الشاقة". ويضيف متسائلًا: "لك أن تتخيل أني لم أجد عملًا أستطيع أن أمارسه وأنا على إعاقتي هذه، فكيف سيكون حالنا، مهما حاول البعض أو الأقارب أن يقدموا لك يد العون والمساعدة، فذلك لن يستمر طويلًا".

ما يؤرق مسعد بعد إعاقته، بل ويرهقه، هو أنه غير قادر على تحقيق أبسط أحلامه، الذي يتمثل في بناء منزل شعبي صغير مستقل به في قريته، وهو ما كان يأمل أن يبدأ في الادخار من خلال عمله في الغربة من أجل تحقيقه خلال السنوات المقبلة، خاصة بعد أن استطاع خلال غربته في العامين الماضيين، تسديد كافة الديون التي كان قد استلفها عند الزواج وعند شراء الفيزا، للعمل والإقامة في السعودية.

يقول: "كنت أترقب الوقت الذي يمكنني فيه سداد ديوني، لكي يمكنني بعد ذلك، البَدء في توفير وادخار ما يكفيني لبناء منزل خاص بي، وكنت هذه المرة، قبيل إعاقتي بأيام، قد أكملت سداد كافة الديون، لكن فرصة بناء منزل أصبحت مستحيلة الآن". وهي مستحيلة فقط، إذا لم يتمكن مسعد من التكيّف مع إعاقته. فهو يضطر -كما يقول- إلى الاختفاء باستمرار وعدم الخروج أو حضور المناسبات الاجتماعية التي اعتاد عليها، ويشعر دائمًا بأن مظهره بعد عملية البتر يسبب له الإحراج أمام الناس، وهو ما يجعله يرفض الذهاب إلى الأماكن العامة. ويردف: "أشعر بأن الناس ينظرون لي بشفقة، وأن مظهري بعد البتر أدى إلى ازدياد لفت انتباه الناس إلي، وهذا يجعلني أفضّل عدم الخروج إلا بشكل نادر جدًّا، لأنني أصبحت اهتم بنظرات وعلامات وجودهم أكثر من حديثهم". وهو يدرك أن هذا التوجّس من الآخرين، يفاقم حالته النفسية والأفكار والمشاعر التي تؤرقه.

ومع ذلك، فهو يأمل أن يستطيع تركيب طرف صناعي تعويضي ليده المبتورة، لكي يمنحه التناسق المفقود في جسده، لعل ذلك، حسب اعتقاده، يمنحه بعض الثقة في صورته الجسدية التي تسبب له الإحراج حاليًّا. كما أنه يدرك الصعوبة في أن يساعده الطرف الصناعي في استعادة القدرة الوظيفية لذراعه كما كان في عمله السابق، والذي يغلب عليه رفع الأحمال الثقيلة، وممارسة أعمال مهارية وحركية دقيقة جدًّا. ويستدرك: "لكن على الأقل يمكن أن يعوضني المظهر شبه الطبيعي، الذي بدوره سيمنحني الثقة للخروج من المنزل وتقبل ذاتي؛ وذلك لعله يساعدني في التكيف مع المجتمع، والبحث جاهدًا عن أي عمل جديد أستطيع من خلاله توفير احتياجات أسرتي؛ وحينها سأكون قد شغلت فراغي ووحدتي، وذلك وحده كفيل بأن يحسن من حالتي النفسية".

ويرجح مسعد في ختام حديثه، أن استعادة قدرته وتأهيله، هو أو غيره من ذوي الإعاقة، على العمل، ولو بقدر ضئيل جدًّا، يمثل جزءًا رئيسيًّا من تعافيهم؛ لأنهم يعتبرون البطالة إنكارًا لذواتهم وحقهم في المشاركة الأسرية واتخاذ القرار، وخصوصًا إذا كانوا أرباب أُسَر يحتاجون للقيام بالكثير من المهام لرعايتها.

* تحرير خيوط

•••
فوزي المنتصر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English