حُلم تنازعته البندقية ومشروع الابتلاع (2-2)

ما الذي تبقّى من (22 مايو)؟
خيوط
May 23, 2023

حُلم تنازعته البندقية ومشروع الابتلاع (2-2)

ما الذي تبقّى من (22 مايو)؟
خيوط
May 23, 2023
خيوط

نحاول في "خيوط"، من خلال هذا الاستطلاع، استخلاص آراء عيّنة من النخبة السياسية والثقافية اليمنية في أهم حدثٍ مرّ في تاريخ اليمن المعاصر بتوحيد شطرين -في جغرافية واحدة- حُكِمَا لسنوات طويلة بسياستين متباينتين فرضتها استقطابات الحرب الباردة وواقع التجزئة، غير أنّ هذا الحدث "الحلم" تحوّل إلى مشكلة سياسية متراكمة تعترض كل مساعي استعادة الدولة بسبب الحرب وفوضى الانقسام ومُستنبتات سلطات الأمر الواقع في طول البلاد وعرضها.

لماذا تعثّرت دولة الوحدة، وكيف تُقرأ مسارات مستقبلها في ظلّ التفكيك المريع لحال الدولة، وكيف تُسرِّع مشاريع التقويض من هذه الحالة؟ 

هذا هو مضمون فكرة الاستطلاع الذي ننشره على قسمين: الأول اتصل بآراء عينة من الرعيل الأول، الشاهد على كثير من تحولات السياسة وجدلها في اليمن المشطور وتاليًا الموحد، والثاني بآراء عينة من الجيل الشاب المنخرط في قضايا الشأن العام، وشاهد حي على سنوات الجمر والرماد.

(2-2)

خطاب مفخخ بأطماع الماضي وأزماته

د. عبدالحكيم باقيس

لقد كانت مشكلة الوحدة اليمنية منذ لحظة بداياتها (الرومانسية) أنّها جاءت نتاج ثقافة نظامين هرعا إليها باتجاه بعضهما بشكل اندماجي انغماسي، الأول نظام شمولي انفرادي جنوبًا، والآخر نظام استحواذي مخاتل شمالًا، وكلاهما غير مؤهل لاستحقاقاتها وقتئذ، فضلًا عن عدم استنادها لآليات وبرامج واضحة، فكان من الطبيعي أن يتم وأدها في صنعاء، قبل رفضها في عدن، أسوة بغيرها من القيم كالديمقراطية والحريات السياسية والتنمية والمجتمع المدني وكل الطاقات التي تم إفراغها من مفهوماتها الحقيقية عند الممارسة الفعلية، وبعد أن تحولت إلى مجرد خطاب مفخخ بأطماع الماضي وأزماته، وليست جسرًا رومانسيًّا للعبور نحو المستقبل، كما تم خداعنا بخطاباتها، وقد كان الجنوب أول ضحاياها، ثم تحوّلت اليمن بأكملها إلى ضحية في ظلّ ورطتها التاريخية الآن.

لكن الزاوية المضيئة الوحيدة في "سنوات الوحدة"، هي مساحة التعبير بعد الكبت، على الأقل في مجالات الكتابة وحرية الرأي، وانتقاد الأوضاع العامة، وإن كانت لمجرد التنفيس السياسي، ولم تصل إلى مرحلة الـتأثير الحقيقي في الواقع والقرار السياسي، وتجنيب الوطن الحروبَ الكارثية. وربما يبقى "فائض" حرية التعبير والرأي والإبداع هو ما يُخشى عليه الآن، بعد أن صارت النخب الثقافية والفكرية تفقد هذا الفائض شيئًا فشيئًا في مرحلة ما بعد 2015.

(*) أستاذ بجامعة عدن.

هل يمكن القفز على كل تاريخ اليمن السياسي؟

لمياء يحيى عبدالرحمن الإرياني(*)

نقترب من الذكرى الثالثة والثلاثين لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية واليمن لا يزال يعاني من حزم متعاقبة من التمزق والتشرذم والحروب. تأتي هذه الذكرى وشبح انفصال جنوبنا يكبر ويتصدّر واقعنا، خاصة في الآونة الأخيرة مع التوجهات الإقليمية الداعمة له، فتبدو ملامحه قريبة، ليصبح واقعًا جديدًا لليمن، مسهمًا في إضعافها وإنهاكها أكثر وأكثر.

السؤال الملِحّ والمتكرِّر، لماذا تعثّرت الوحدة حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، وأين كانت الإخفاقات والزلات؟ وهل يمكن أن يتسرّب الحلم بغضون ثلاثة وثلاثين عامًا فقط، متجاوزًا المراحل التي بذلها رجالات اليمن منذ منتصف القرن الماضي، مرورًا بكل المراحل والمحطات التاريخية للسعي الى الوحدة لعقود من الزمن؟ هل يمكن أن تنتهي الوحدة هكذا بالقفز على تضحيات كل الذين سعوا إليها من القاعدة إلى قمة الهرم السياسي؟

لا شك أنّ الوحدة عانت فيضًا من التحديات والأزمات التي حالت دون ترسيخ جذورها في الأرض، لعل أهمها: ضعف السلطة المركزية وافتقارها للقوة؛ مما أدّى إلى خلق بيئة خصبة مغرية للجماعات الانفصالية الطامعة بالسلطة، وتلك الرافضة للوحدة، والأخرى المتضررة والخاسرة بسببها، فكلما كانت السلطة المركزية قوية، أمكنَ للوحدة أن تصمد وتستمر، والعكس صحيح؛ وهو ما حدث. كما أنّ عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في اليمن، بسبب ضعف قدرة الدولة المركزية على تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وضعف تأسيس بيئة صلبة للممارسات السليمة للديمقراطية والتعدّدية السياسية، واعتماد انتهاجها قبل تأسيس قويّ لها، ونظرًا لغياب دولة العدالة والمواطنة المتساوية وسيادة القانون- كلّ هذا أفرز مظالم متعددة، وجدت في الانفصال حلمًا للخلاص.

 كما أنّه لا يمكن أن ننسى أن كل ما نتج عن حرب 1994، من ممارسات تجاه المدنيين والعسكريين الجنوبيين الذين أُحِيلوا إلى التعاقد بمنهجية عبثية غير مدروسة، وإقصاء شرائح لها حقٌّ وطني بالمشاركة، ساهم بقوة في تنامي الشعور المضادّ تجاه الوحدة، بالإضافة إلى التعقيدات القانونية وتعدّد القوى المتصارعة واختلاف مصالحها الذاتية العابرة للمصلحة الوطنية لليمن الواحد الموحد القوي، والتي لعبت أدوارًا مؤثرة في جرّ فكرة الانفصال إلى مربع الاحتمالية الممكنة.

ولا شك أنّ تماهي الهوية الوطنية الجامعة، وتجذر الهويات المناطقية والقبَلية، ودعم بعض دول الجوار لانفصال الجنوب اليمني عن اليمن الأم، خاصة خلال سنوات الحرب الأخيرة من خلال تشكيل وتقوية جماعات انفصالية ودعمها بالسلاح والمال والتدريب والإضعاف المتعمد للشرعية اليمنية، لتبقى اليمن مجزأة وهشة وغير مؤثرة ولا فاعلة في المنطقة، برغم مواردها المتعددة وكل مقوماتها الجغرافية والتاريخية التي لو أُتيحت لليمن ستجعل منها قوة مهمة في المنطقة، كل هذا أسهم في تعثّر الوحدة وقدرتها على الصمود، بالإضافة إلى ضعف الموقف الدولي المساند للوحدة اليمنية وغياب مواقفها الحازمة تجاه ما يحدث لليمن من مساعٍ عديدة وحثيثة لشرذمة اليمن وتقسيمها إلى دويلات، وليس إلى دولتين فقط، وهو ما يلوح في الأفق، للأسف الشديد، لكل من يقرأ المشهد اليمني في الآونة الأخيرة. 

واليوم، وبعد مرور ثلاثة عقود ونيف على الوحدة، وفي ظلّ ضبابية المشهد المتعلق بها، فإنّنا كوحدويّين نخشى من احتمالية إعلان الانفصال الذي سيقود إلى حروب متعددة بين الوحدويين والانفصالين، وكذا بين القوى الانفصالية المتعددة ذاتها، وسيُلقي باليمن في هاوية مرعبة لا خلاص سهل منها، كما نخشى العودة إلى فكرة وحدة فدرالية ستكون حتمًا هشة -إذا لم يتم إعادة النظر في تشكيل أقاليمها بما يضمن الدمج بين مناطق شمالية وجنوبية في بعض الأقاليم، لحماية الوحدة وضمان تجذرها– وهذه الوحدة الفدرالية في ظلّ الظروف الراهنة بكل تفاصيلها لن تصمد، وستقود إلى مطالبات جديدة بالانفصال الكلي.

مستقبل وحدتنا مقلق وضبابيّ، وبحاجة إلى استفاقة وطنية لا غفوة بعدها.

نحن بحاجة إلى وقفة جادّة –بجهود وطنية وإقليمية ودولية- تجاه الوحدة والاعتراف الصادق بكل أخطاء مسارها وكلّ مسبِّبات الإخفاق في تأصيلها كهوية يمنية جامعة، ووضع الحلول الواقعية، والبدء بالمصالحة الوطنية وجبر الضرر، لعلنا ننجح في إنعاشها وإعادتها للحياة، لتتمكّن اليمن من نفض غبار كلّ هذه المعاناة والكوارث والحروب، وتتحوّل إلى دولة لها ثقل في المنطقة، كما يجب أن يكون. 

(*) ناشطة مدنية – رئيسة سابقة للمجلس الوطني للأمومة والطفولة.

من نفق "التواهي" إلى النفق المظلم 

عبدالرحمن أحمد عبده(*)

تعثّرت الوحدة اليمنية في خطواتها الأولى، بل ومنذ الإعداد الفعلي لها، قبل 22 مايو 1990م؛ فالحزب الحاكم في الشطر الجنوبي، خرج من أم الكوارث 13 يناير 1986م، وبالتالي كانت خطواته الأولى هرولة غير محسوبة بالاندفاع نحو وحدة اندماجية فورية، بقرار من أمينه العام علي سالم البيض، بالضدّ من موقف قيادات حزبية في (الاشتراكي اليمني)، التي ارتأت فيدرالية وخطوات انتقالية قبل الاندماج، مع الشطر الشمالي من البلاد، الموحدة بالفعل، تاريخيًّا وشعبيًّا ووطنيًّا واجتماعيًّا.

ولعل اتفاق 30 نوفمبر 1989م، الذي طلع به علي سالم البيض وعلي عبدالله صالح، من نفق التواهي، في عدن، يومَها، مثّل مفاجأة لقيادات الحزب الاشتراكي، كما كانت مفاجأة للرئيس صالح، الذي لم يتوقّع ذلك، وكانت البداية من (النفق) المُضاء، لتدخل البلاد لاحقًا في (النفق) المظلم؛ ما يعني تجاوز كلّ المحاذير من خطوة كتلك، وإغفال خطوات سياسية تدريجية، كان يجب أن تُتخَذ، قبل الوحدة، تؤسس على الأخذ بالأفضل لدى منظومَتي الحكم في الجنوب والشمال، حينها، وهي النصيحة التي رفعها ساسة ومثقفون يمنيون، وكانت هنا العثرة الأولى.

ومن العثرات الملفتة، القبول باشتراط الإقصاء السياسي، قبل إتمام الوحدة، كما حدث لتيار الرئيس علي ناصر محمد، والمؤسف أنّ ذلك جاء بطلب الحزب الاشتراكي، الذي تأثر لاحقًا من تداعيات ذلك.

شواهد عديدة أكّدت أنّ (صالحًا) ومنذ البداية، كان يبيت لإقصاء (الاشتراكي) وابتلاع الجنوب، وهو ما حصل بعد حرب 1994م، فقد كان يقف على رأس منظومة حكم سياسي ديني وعسكري وقبَلي معادٍ لتوجه (الاشتراكي) ونظام (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، وهي المنظومة التي عززها صالح وبدأ بإجراءات وصلت حد تصفية كوادر الاشتراكي والجنوب، في صنعاء.

والعثرة الأكبر كانت بعد حرب 1994م، حينما تسلَّم صالح ورجال منظومته جنوبَ البلاد بأراضيه وثرواته، وضرب كلَّ ما كان إيجابيًّا وأفضل جنوبًا، فضلًا عن تسريح آلاف الكوادر الجنوبية من العسكريّين والمدنيّين والأمنيّين؛ الأمر الذي خلق موقفًا لدى قطاع واسع في المحافظات الجنوبية، يقف بالضد من (الوحدة)، رغم نبل غايتها، وهو الموقف الذي ظلّ يتنامى، حتى وصل إلى مرحلة العدائية ضدّ كلِّ ما هو شمالي.

مثّل الحراك الجنوبي السلمي 2007م، ولاحقًا ثورة الشباب الشعبية، الفرصةَ الأمثل لإنقاذ البلاد، والخلاص من فساد منظومة حكم صالح الفاسدة، غير أنّ من ركب موجة الحراك والثورة، والتدخلات العابثة، بدعم من دول خارجية، أحبط آمال اليمنيّين، حتى حكومة الوفاق الوطني؛ اتجه التجمُّع اليمني للإصلاح للاستحواذ على المناصب في تركيبتها، فيما كان حزب الحاكم صالح، الذي خلعته الثورة، يبيت للانقضاض عليها، وكانت الصدمة، التي خيبت آمال الوحدويين.

كل تلك التطورات مثّلت ضربات قاتلة في قلب الوحدة، التي كان اليمنيّون يأملون منها إحداث تطورٍ جوهريّ في حياتهم ومعيشتهم، وما زاد الطين بلة هو انقلاب صالح وحزبه مع جماعة الحوثي، في سبتمبر 2014م، ليس فقط على الشرعية الدستورية، بل انقلاب على الدولة والمجتمع، رغم ما تحقّق في مؤتمر الحوار الوطني، الذي انتصر أولًا لفكرة وهدف الوحدة، وتصدّى للانتصار لقضية الجنوب وصعدة وغيرها.

غزو جيش وميليشيا صالح والحوثي، وما تلاه من تداعيات على المشهد اليمني، ودخول المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في حربها تحت شعار دعم الشرعية، والزحف نحو تعز، ومِن ثَمّ جنوب البلاد، وتحديدًا نحو عدن- عزّز ثنائية الجنوب والشمال، واستغل دعاةُ الانفصال الأمرَ، بمبرر دعوتهم للخلاص من (الشمال المستعمر)، ليتعمّق بذلك الشرخ الاجتماعي أكثر فأكثر.

ومن خلال وقائع الحرب منذ انطلاقها العام 2015م، كان ملاحظًا تسكين المواجهات العسكرية على الحدود الجغرافية السابقة بين شطري اليمن، ما يعني تكريس الفصل بينهما ميدانيًّا، ولا أعتقد أنّ قيادات الدولة ونخبها السياسية لم تدرك الأمر، فتغاضت عنه، وكانت هذه عثرة كبرى أخيرة، تتسق ومطامع ومصالح خارجية واضحة المعالم.

حرب الثماني سنوات، المستمرة، منخفضة التصعيد حاليًّا، كرّست حالة التشظي والانقسام الجهوي والمناطقي، وعزّزت الممارسات العنصرية والإقصائية، في البلاد، في ظلّ تفكك الدولة، وارتهان قياداتها ونخبها للخارج؛ الأمر الذي يشي بنشوء كيانات منفصلة عن بعضها، إن لم يتم تدارك الأمر، بالاتفاق على نظام فيدرالي للدولة.

من الواضح أنّ الأمر خرج عن سيطرة اليمنيّين، ومستقبلُ الوحدة رهن التطورات، خارج إرادتهم، ولن تعود البلاد، كسابق عهدها، غير أن التعويل يظل، حاليًّا، على وحدة شعبية وطنية لليمنيين، وليس على وحدة نظام سياسي، وحدة تهيِّئ مستقبلًا، لإنتاج نخب جديدة نقية، تعيد لملمة البلاد.

(*) كاتب صحفي.

"لوبيات" تحمي مصالحها، ومنخرطة في خدمة أجندات خارجية

شفيع العبد(*)

مشروع دولة الوحدة حمل عثراته وإخفاقاته معه منذ اللحظات الأولى للتوقيع عليه بين طرفيه، اللذَين انشغل تفكيرهما بمواقعهما ومصالحهما الذاتية على حساب العام، وتجاهلَا المشكلات العالقة لدى كلِّ طرف منهما، والتي أدّت في جوهرها إلى إقصاء طيف واسع من القوى السياسية التي تعاملا معها كخصوم يجب نبذهم خارج الجغرافيا.

كما أنّ النوايا بين الطرفين لم تكن صادقة وقتها مع المشروع الوطني، وسعى كلّ طرف لالتهام الآخر، وهذا ما تجلّى سريعًا وخرج للنور في صورة اغتيالات لعددٍ كبير من كوادر الدولة المدنية والعسكرية، والتنصُّل عن كثيرٍ من بنود الاتفاق، لعل أبرزها الأخذ بالأفضل في تجربة الطرفين، وما تلا ذلك من خصومة سياسية مبكّرة بينهما، وفشل كلّ المحاولات الرامية إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه من خلال وثيقة العهد والاتفاق.

على أنّ حرب صيف 94، توّجت كلّ ذلك الفشل، وانتصرت على مشروع الوحدة ولغة السياسة، ومن يومها ارتفعت أصوات عديدة بهدف إصلاح مسار الوحدة وإعادة الدولة إلى مربع المواطنة والتنوّع على قاعدة الشراكة الحقيقية، لكن المنتصر وقتها رفض كلَّ ذلك، وأضفى على نفسه لقب صانع الوحدة وحاميها العظيم.

في تقديري الشخصي، أنّ الوحدة كانت حلمًا عظيمًا ومسارًا نضاليًّا اختطّه اليمنيّون، لكنه اغتيل فعلًا على مذبح التوقيع الثنائي لرموز قيادتين كانتا الأسوأ في التاريخ اليمني، باعتبارهما غاصبي سلطة، ولم يمثّلا إرادة الناس؛ أصحاب المصلحة الحقيقية في الوحدة والمشروع الوطني.

اليوم، لم يعد للوحدة أثر، لا على المستوى السياسي ولا الشعبي، بعد أن تحولت كل القوى السياسية في البلد إلى مجرد (لوبيات) تناضل من أجل حماية مصالحها أو منخرطة في خدمة أجندات خارجية.

الحديث اليوم عن الوحدة اليمنية وضرورتها مدعاة للضحك والهزء في آن، في ظلّ غياب الدولة.

لم تعد هناك دولة قائمة في اليمن، البلد المهدّد بالتقسيم إلى دويلات وكانتونات مصالح، بعد أن تم مصادرة قراره السياسي والوطني.

المستقبل مخيف بكل تأكيد، وليس كما يُبشرون به، وأعتقد أنّ اليمني اليوم، جنوبًا وشمالًا، يعي المخاطر المحدقة به أكثر من أي وقت مضى، ولكنه وعيٌ ناقص إذا لم يتطور إلى أشكال نضالية منبعها ودافعها وطني بحت.

(*) كاتب صحافي وناشط - نائب أسبق لمؤسسة (14 أكتوبر).

منطق أبويّ متسلّط

يحيى الحمادي(*)

ما نشاهده اليوم من محاولات مستميتة للإجهاز على حلم الوحدة اليمنية، هو نتيجة طبيعية للعديد من الإخفاقات السياسية التي فشلت في الكثير من القضايا الوطنية الكبرى، وتعاملت معها بالمنطق الأبوي المتسلط، دون مراعاة الشراكة الوطنية، المتمثلة بالديمقراطية، والتبادل السلمي للسلطة، وتقاسم الثروة، والعدالة الاجتماعية؛ لقد تمثّل هذا التسلط بالعديد من السلوكيات والممارسات التي زعزعت مفهوم الوحدة في عقول الناس، ولعلّ أخطر هذه الممارسات كان في فتاوى التكفير، وإباحة الدماء، والحرب، ومصادرة الحقوق والوظائف، والتعامل مع الشريك بمبدأ الغلبة، كلّ هذا وغيره أوجد ثغرة كبيرة في جسد الوحدة، دخل منها المتربصون بها، وأجهز على ما تبقّى من آمال شركاء الوحدة، وجعلتهم ينادون بالتقسيم بدلًا من التقاسم، وإلى التشطير بدلًا من المشاطرة، أما الوحدة -كمنجز وطنيٍّ وجماهيريّ- فما تزال قائمة، لن تتعثر أو تتأثر بكل ما هو قائم اليوم من تفكيك وتجزيء وتجاذبات محلية وإقليمية، لأنّها -ببساطة- فكرة الجماهير وحلمهم، مهما عبثت بها أيادي الساسة وشوّهت وجهها الجميل.

(*) شاعر.

هشَّة وبثغرات قاتلة

نشوان العثماني(*)

قبل أن تتعثر هذه الوحدة، وُلدت هشة وبثغرات قاتلة.

كانت خطوة للأمام، كما يفترض، لكن بدافعٍ غلبت عليه توجهات العاطفة السياسية.

كانت خطوة نبيلة أيضًا، لكن كما لو كانت أقرب للمجهول.

توحد نظامان مختلفان في كل شيء تقريبًا، لشعب موحد الديانة والعِرقية واللسان.

كل الشعوب العربية موحدة الديانة واللسان في المعظم، ومع ذلك لم تتوحد سياسيًّا.

كان شعبنا جنوبًا ممتلئًا بعاطفة الوحدة، فاندفع لأجلها دون أي تفكير بالعواقب.

نحن دائمًا -عربيًّا- نحسن الاندفاع المضمخ بالشعارات، لكننا نفشل في بناء الدولة؛ دولة المواطنة.

هذا اللاتفكير أظهر لاحقًا هول الورطة.

الوحدة كانت نتاج أدبيّات وتوجّهات الحركة الوطنية، لكن هذه الحركة الوطنية لم تصمد طويلًا. من داخلها تشظت، ولم تصل السفينة إلى شاطئ الوحدة إلا لترتمي؛ كانت متهالكة.

هناك فارق العدد الديمغرافي، وهناك حتى خلل تناسب الجغرافيا.

كل هذا كان يمكن أن يجدي إن كانت الوحدة بشروط مختلفة، وتُحقَّق إلى ذلك تدريجيًّا.

لقد كانت سريعة ومرة واحدة بالكامل، فالتهمها غول ١٩٩٤ بالكامل ودفعة واحدة.

لقد فشلت هذه الوحدة بإقصاء الشريك الجنوبي من معادلتها، وما لحق به من توابع التفرد بالسلطة لاحقًا.

هذا الفشل كان يعني شيئًا واحدًا، وهو أنّ الوحدة في حالتها الطوعية قد انتهت، ودخلنا لاحقًا وحدة أخرى، وحدة بالقوة، وحدة "اشربوا من البحر" أو وحدة معادلة "الوحدة أو الموت".

ودليل انتهائها سياسيًّا هو إعلان فك الارتباط من قبل النظام الجنوبي ذاته الذي دخلها طوعيًّا. الإعلان الذي أذاعه الرفيق علي سالم البيض بنفسه، هو الذي وضع حدًّا للوحدة الطوعية على إثر تعرّضها للغدر بها من قبل الطرف الآخر.

الآن أمامنا خيار واحد، وهو احترام حقّ الجنوب في تقرير مصيره. أن نتجه أولًا إلى النظام الاتحادي الذي من المهم فيه أن يكون الجنوب إقليمًا واحدًا، له الحق خلال مدة زمنية محددة في تقرير مصيره بنفسه.

القفز على هذه القضية، وحلّها العادل لن يؤدّي إلّا إلى المزيد من عدم الاستقرار في اليمن والمنطقة.

القضية الجنوبية هي نصف المعادلة السياسية والحقوقية اليمنية.

(*) كاتب وناشط مدني.

حربٌ نزعت عن الوحدة مضامينها التوافقية الطوعية الوطنية

عيبان محمد السامعي(*)

لرائي اليمن الشاعر الكبير عبدالله البردّوني (1929 – 1999م)، وصفٌ أثيريٌّ لوضع اليمن أثناء التشطير، إذ يقول: "في اليمن توجد دولتان شطريتان، بشعبٍ واحد"! 

لكنّ حرب 1994م، الآثمة قلبَتْ هذه المعادلة رأسًا على عقب، فأصبحَت اليمن "دولة واحدة" بـ"شعبين"!

والمعنى في ذلك أنّ الوحدة قد تعثّرت في أن تتحوّل من فكرة سياسية ورغبة جماهيرية عامة إلى مشروع سياسي مُجسَّد في دولة المؤسسات الحديثة، وهو ما كان له انعكاسات خطيرة على مستوى تراجع الشعور الوطني العام تجاه الوحدة كقيمة وطنية. 

لقد مثلّت حرب صيف 1994م، ضربة قاصمة للمشروع الوطني الديمقراطي، ونزعت عن الوحدة مضامينها التوافقية الطوعية الوطنية، وحوّلتها إلى وحدة معمّدة بالدم، ومشفوعة بثقافة الفيد، والإقصاء، والتهميش. 

ليس ذلك وحسب، بل إنّه قد أدخلت اليمن في أزمات وحروب متناسلة، فكانت تخرج من أزمة إلى أزمة أخرى، ومن حرب إلى حرب أخرى.

وانبعثت مشاريع ماضوية كنّا نعتقد أنّ الزمن قد طواها وإلى الأبد، مثل: "الجنوب العربي" و"الهوية الإيمانية" والنزعات المناطقية والقبَلية في المناطق الوسطى، والغربية، والشرقية.

تقف اليمن اليوم أمام مفترق طرق، وباتت المخاطر التي تهدّد بقاءها ككيان وطني موحد أكثر من أيّ وقتٍ مضى؛ الأمر الذي يفرض على كلّ الوطنيّين في داخل البلاد وخارجها أن يتداعوا، وأن يُسارعوا إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كخطوة أولى لبعث الحياة في جسد هذا البلد. 

ولن يتحقّق ذلك إلا بإنهاء الحرب، والعودة إلى العملية السياسية التوافقية، والشروع في استكمال مهام المرحلة الانتقالية، وبناء الدولة الاتحادية الديمقراطية المدنية وفق مخرجات الحوار الوطني الشامل.

ذلك هو المسار الوحيد لتجاوز كلّ العثرات، فالدولة الفدرالية تحدّ من احتكار السلطة والثروة بيد أقليّة أوليغارشية، وتعيد توزيعهما بصورة عادلة بين مختلف مكونات المجتمع، وتخلق فرصًا متكافئة أمام مختلف المناطق وأقاليم البلاد للنهوض الذاتي والتنافس الحميد بينها، وإتاحة نظام إداري مرن يستوعب حاجات الناس المتجدّدة، وإشراك المواطنين في عملية صنع القرار بصورة خلاقة.

(*) كاتب وباحث.

الوحدة اليمنية.. مراكمة للإخفاقات

أمين العياسي(*)

في الحقيقة أنّ الوحدة نشأت متعثرة في الأصل، بفعل الإرث الثقيل الذي راكمه النظامان، شركاء الهروب إلى الوحدة، بغية التخلص من محمولات ذلك الإرث. النظامان التشطيريّان اعتقدا أنّ الوحدة ستكون بمثابة ملجأ يفران إليه لتجاوز إخفاقاتهما، وقارب نجاة يقيهما حالة الانهيار الوشيكة التي كانت تحدق بكليهما، ولذلك عبروا الواقع إليها بخُطَى غير مدروسة، مثقلين بجل العوائق والصعاب وكل الفشل الذي صاحب حكميهما لدولتَي ما قبل الوحدة، أضف إلى ذلك أنّ كلا النظامين كانا متربصين ببعضيهما، وهذا كله كان كفيلًا بأن يفجرها من الداخل، ويتوجها بحرب ضروس، شكّلت بابًا للولوج إلى الفرقة والشتات الذهني والوجداني لليمنيّين، نتيجة عملية الضم والإلحاق التي أعقبت الحرب من أحد أطراف الوحدة، الذي حاز الانتصار، وأثبتت سنوات ما بعد الحرب أنّه كان يتسنّم ركام المؤامرة على الوحدة، من يومها الأول، يوم إعلانها، حيث لجأ إلى ممارسات أقرب ما تكون إلى التنكيل والانتقام، فاستباح وأباح الجنوب كله، أرضًا وإنسانًا وإرثًا ماديًّا ومعنويًّا، بعد أن استباح دماء رجال الوحدة، وطاقات بنائها، في سلسلة من الاغتيالات، قبل تعميد ذلك بالحرب.

إنّ تعثّرات وإخفاقات ما قبل الوحدة شكّلت أرضية متينة لما بعدها من عثرات وإخفاقات على مختلف الصعد. كان للإخفاق السياسي الذي رافق عملية إجراءات إعلان الوحدة، الدورُ الأبرز في مجمل الإخفاقات والتعثرات على كافة المستويات الأخرى، باعتبار أنّ السياسة وكلّ ما يرتبط بها من إجراءات تتعلّق بتهيئة الوضع العام وترتب مناخات الانتقال السليم والموضوعيّ إلى فضاء الوحدة، تعمل على صياغة نظام إدارة الدولة بمقتضى الإصلاحات التي يجب أن تكون منطلَقًا وأساسًا راسخًا لبناء نظامها السياسي، الذي بدوره سيحوز مجمل قواعد الفعل السياسي اللازمة للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والتنموي الشامل وغيرها، على قواعد التوازن متعددة الأبعاد والأطر كتوازن السلطات، مثلًا، وتوازن القوى، التي تبدأ من مستوى التوازن الاجتماعي القائم على توازن أدوات القوة ذاتها، المتمثّلة بقوة السلاح، تساويًا، أو تجريدًا للجميع. هذا بديناميكيّته، سيؤسّس لتوازن فوقيّ على المستويين الاقتصادي والسياسي؛ كفاية وعدالة في الإنتاج والتوزيع للأول، ومطلق الحق للجميع مشاركة في السلطة والمسؤولية بمستوياتهما المختلفة، من مجلس القرية، وحتى رئاسة الدولة للثاني.

أما ما يتعلق بمستقبل هذه الوحدة، فهو في اعتقادي مرهون بمقدماتها كنتيجة، والتي أضحت تشير إلى حالة سديمية، غير معلومة المآلات، خصوصًا أنّه قد صار الفعل ومردوداته، وكذا كافة أوراق اللعب، وخيوط المبادرة بيد القوى الإقليمية، التي غدت تحكم وتتحكم بخطوات اليمنيّين، وترصد حركتهم وكل إجراءاتهم وهم منقادون لذلك كقطيع.

وعلى هذه الخلفيات والمقدمات، فلا مخرج يلوح في الأفق، وصولًا إلى أيّ صيغة من صيغ الدولة، ولو في شكلها البدائي، خصوصًا عقب تلغيم مؤتمر الحوار، وإفراغ مخرجاته من مضامينها، شبه المنتصرة لحق اليمنيّين، في دولة يمنية موحدة، يبنونها بأيدهم، ويصوغون نظامها بإرادتهم، تماشيًا مع تطلعاتهم ومصالحهم الجمعية، والواقع أنّ تلك المضامين تم تبخيرها في وضح نهار التوق إليها. قد أكون متشائمًا لكن هذا ما استقرَأتُه، على قاعدة حراك اليمن الحديث من أوائل الستينيات وحتى اليوم، في محطاته المختلفة والمتعدّدة، والتي كانت المؤتمرات، وبالذات مؤتمرات المصالحة، جزءًا منها، ابتداء من مؤتمر حرض، وانتهاء بمؤتمر الحوار الوطني الشامل. واحدة من نتائج ذلك الاستقراء، أنّ تلك المؤتمرات لم تكن لتعالج أوضاع اليمن وحال اليمنيين، بقدر ما كانت ترتّب أوراق الإقليم السنيّ، فما هو الحال الآن وقد غدت اليمن مسرحًا للعراك الإقليمي بكارثتَيه "الشيعي والسني" على حلبة رخوة، قد تودي بالجميع.

والحقيقة الثابتة أنّ الوحدة اليمنية راكمت سلاسلَ من الإخفاقات والتعثّرات، أكثر ممّا حقّقت إصلاحات ومنجزات، ولهذا كله أسبابٌ صنعته، ودفعت به إلى واجهة المشهد، تحتاج دراسة متقصّية، مستفيضة.

(*) كاتب.

•••
خيوط

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English