أن تعانق شجرة في سبيل عمر أطول

الإنسان وجسور التواصل مع الطبيعة
جميل حاجب
August 27, 2022

أن تعانق شجرة في سبيل عمر أطول

الإنسان وجسور التواصل مع الطبيعة
جميل حاجب
August 27, 2022
Photo by: Mohammed Al-Mekhlafi - © Khuyut

منزل محاط بالأشجار ليس كمنزل في العراء؛ الأول يقال عنه جميل، والآخر يقال إنه بيت فقط. الأشجار تمنح الجمال، تمنح الموسيقى عبر جذب العصافير المغرِّدة ممّا يولِّد شعورًا مميزًا في الوجدان، ويجعل الحياة أكثر هدوءًا وانسيابًا. هذا إلى جانب الخدمات المألوفة التي تقدمها الأشجار، على سبيل المثال لا الحصر: الظل، الثمار، منع انجراف التربة، صد الرياح، إطلاق الأكسجين، بالإضافة إلى الطاقة، حيث يؤكّد باحثون أنّ الأشجار تمتلك طاقة، وينصحون الإنسان بالحصول على تلك الطاقة من خلال معانقة الأشجار للحصول على عمر أطول.

في سبعينيات القرن الماضي، اهتم الرئيس إبراهيم الحمدي بالشجرة؛ زرعها في الأرجاء، وخصص لها يومًا وطنيًّا، ولكن ذلك الرئيس المميز اغتيل واغتيلت معه الشجرة والمشروع الوطني بالنهوض والازدهار، ونجم عن ذلك أن ضعف الاهتمام، حدَّ الصفر، بزراعة الأشجار في الأماكن العامة وجوانب الطرق والحدائق التي كافحت للصمود بطاقة ذاتية وسقوط بعضها بين أيدي ناهبي الأراضي والضياع، وكانت العاصمة هي الأكثر تضررًا، فرغم اتساعها المهول إلا أن لا أشجار، لا اخضرار هنا وهناك.

من ميزات الإنسان اليمني القديم أنه كان يعرف ماذا يفعل، حيث نظر بإعجاب إلى الطبيعة وصنع جسور التواصل معها، فعاشا معًا في انسجام دون المساس بشكل قاسٍ ومفرط في تشكيل اللوحة، بل حاول إضفاء الجمال لها من خلال لمسات واعية، بحيث حقق التوازن المرجو، وجلب المصلحة

وهنا يحضر الفقد لصنعاء الجميلة، صنعاء البساتين والأعناب في سبعينيات القرن الماضي والعقود السابقة لها، وتحضر أيضًا طبيعة الإنسان في صورة أقل جمالًا وهدوءًا، بحيث تبدو بشعة وملائمة للشحوب والتغول، وما حدث ويحدث من صراع دامٍ وتشتت يعكس رغبة هذا الإنسان الذي ترعرع في حاضنة بيئية جدباء وخانقة، وفي دهاليز فكرية دينية مشوهة وعديمة النفع كتلك القادمة في الأثواب القصيرة واللحى يعكس عدم رغبته (أي الإنسان اليمني)، في التمسك بالحياة، هذا الواقع المريض لم يقتصر على العاصمة فحسب، بل شمل أرجاء اليمن، بَيْدَ أنَّ لا أحد يعي أنّ ضمن أسباب هذا التشتت والشعور بالضياع ومحاولة إيجاد فرصة للعيش عبر فوهة البندقية، يكمن أيضًا في ضياع البيئة وضياع مكوناتها الطبيعة، وفي مقدمتها الأشجار.

دون بيئة جميلة

ودون أشجار خضراء مزهرة، ومثمرة

تغدو الحياة سقيمة.

(2)

من ميزات الإنسان اليمني القديم أنه كان يعرف ماذا يفعل، حيث نظر بإعجاب إلى الطبيعة وصنع جسور التواصل معها، فعاشا معًا في انسجام دون المساس بشكل قاسٍ ومفرط في تشكيل اللوحة، بل حاول إضفاء الجمال لها من خلال لمسات واعية، بحيث حقق التوازن المرجو، وجلب المصلحة، فقد زرع الحقول بمختلف الغلال محققًّا الاكتفاء الذاتي، ودافعًا الفائض للخارج ليجني أيضًا المال، وقد اشتهرت اليمن كبلد منتج زراعيًّا إلى جانب الارتقاء الحضاري في بناء المدرجات والسدود والعبارات. ومن اللائق هنا أن لا ننسى شجرة اللبان التي حظيت بمكانة مرموقة عبر العالم القديم، وعلاقتها بالرموز المقدسة، وما يجلبه البخور من حالة روحية خلاقة وفوحه العاطر، ولا تزال الذاكرة الإنسانية تحتفظ بذلك التقدير، ودروب البخور عبر الصحاري لَشاهدٌ على ذلك المجد والحضور الأنيق لشجرة اللبان، وسواها من الأشجار الرائعة. أضف هنا السمسم، هذا المنتج الصغير والجميل، وابتكار المجتمع للمعاصر واستخراج الزيت الطبيعي والصحي منه. قصب السكر كان يزرع أيضًا بوفرة إلى جنب شجرة البُنّ ذائعة الصيت، التي غطت مساحات وأودية كثيرة في عموم اليمن، تلك الشجرة لم تكن فقط تجلب الرفاهية المادية للمجتمع فحسب، بل الشعور المتعاظم بالجمال عبر اللون الأحمر الفاتح والغامق، وهو يغطي تلك الأرجاء، خلال تفتح زهرة البُنّ، ولكن بالوصول إلى العقود القليلة الماضية، اختفت تلك الشجرة التي كانت بمثابة داعم قوي للاقتصاد اليمني التقليدي، وبمثابة رمز للعطاء والاعتزاز، حتى كادت تنقرض إلا من بقع صغيرة في خارطة الوطن، كيافع وبني حماد وحراز. 

يتملكني الشعور بالغضب لذلك المآل، ولعدم التفكير -مجرد التفكير- بأبحاث عن أسباب هذا المآل الحزين لشجرة البُن، ودراسة كيفية بعثها من جديد. أحب هنا أن أشير إلى جانبٍ رائع رافقَ حياة اليمني إلى ما قبل عقود، وتخصصت به المرأة؛ وهو تخصيص حديقة صغيرة جوار المنزل تسمى "حوطة" أو "حويّة" لزراعة الشجيرات العطرية المتعددة، وزراعة الفلفل الأخضر والطماطم لسد حاجات المنزل، وكذلك زراعة الدباء، وهي شجرة متسلقة وثمارها كبيرة ومجوفة، تستعمل في حفظ الألبان ومشتقاتها.

إنها عميلة تتعلق بالوعي الجيد، وبالوعي غير الجيد الذي حطّم كل ذلك المنجز. 

ما يهمّنا اليوم لكي نقيم الحالة غير المستقرة للمجتمع وتلك التشوهات المرافقة لسلوكه، هو أن نلتفت إلى ما حولنا، لنرى ما أحدثناه خلال عقود من الإهمال في اللوحة المكانية والطبيعية التي نحن جزء أصيل منها. ذلك يعتمد أولًا على وجود ركائز أخلاقية ومِن ثَمّ سياسات استراتيجية ذات جدوى، وهذا ما فعلته وتفعله كثير من الشعوب؛ فهناك دول تنتج البُنّ وما زالت، وتحافظ على مكونات الطبيعة والبيئة. من يعيش على جزء من هذا الكوكب ينبغي أن يحترم سواه من السكان غير البشريين؛ أعني الأشجار الصغيرة منها والكبيرة، المثمرة وغير المثمرة.

•••
جميل حاجب
شاعر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English