إنّه واحدٌ من روّاد ونجوم الفنّ اليمنيّ الغنائيّ، في جنوب اليمن خصوصًا. فنّان من زمن الكبار، أجادَ، وَجدَّدَ، وأضافَ، وأبلى بلاءً حسنًا، أعطى فأغنى. ومع أغانيه الحلوة، والشجية، تُحلِّق الروح إلى عَنان السماء، وأبعد، فهو يضعنا أمام فنٍّ جديد مختلف النكهة، وتجربة ثَريّة، ويغمرنا بمشاعره الإنسانية الدافئة.
محمد عبده زيدي (1944-1993)، من أجمل وجوه عدن الفنية على الإطلاق، والحديث عنه ذو شجون. غير أنّ المؤسف، هنا، أنه لم يتم إنصافه حتى الآن. فبعد عطاءات كثيرة قدّمها لليمنيين والوطن، غاب الفنّان الكبير عن الحياة، بلا ضجة، وأمّا أغانيه فلن تَغيبَ أبدًا.
كما أنّه كان يعشق كرة القدم، وكان أشدّ عشّاق فريق التلال العريق. أخذَ من شعراء كبار، غنّى كلماتهم بروح مُدهِشة، ومن أشهر أغانيه: "السعادة ذقتُها في قُربِك أنتِ"، و"يا زهرة في خريف عمري"، و"أحبك أحبك"، و"الدودحيّة"، و"يا حبيب العمر"، و"نسيت اللي اتفقنا عليه"، و"كم من حبيب فارق حبيبه"، والبقية كثيرة، ومعظم أغانيه متوفرة على شبكة النت.
هذا عندليب يمنيّ أسمر، وسيم، له وجه متناسق، ومظهر أنيق، وقلب زاخر بالفنّ والموسيقى والحب والحياة، وقد تألق في التلحين والغناء على نحو متفرّد، فهو الذي يعزف بذوق رفيع، ويُغنّي بهدوء وإحساس عميقَين، لا يخرج من فمه أيّ ضجيج، فهو ينطق الكلمات بسلاسة ونداوة، فلن تجد في أغانيه تصنُّعًا أو تشوُّهات تنفر منها أذواق عشّاق الطرب.
منذ وقت قريب، أصبحتُ مُغرَمًا بفنّ الزيدي، وها أنا ذا أقضي سهرات رائعة في كنف أغنياته المتنوّعة والمنعشة والخالية من الابتذال والشحنات الكئيبة. كل أغنية له، تنعشني، وتهزّ قلبي، وتضفي على وقتي مسحة من الصفاء والسعادة.
لذلك، كل يوم أبحث، على يوتيوب، عن المزيد من أغانيه المدفونة، أو عن تلك التي لم أسمعها بعد، فأحصلُ على الكثير منها، ثم أشغّلها بفرح، وأستمع لها وأنا كُلّي شغف وحُبّ.
الحقّ أنّ أغلب نتاجه الغنائي جدير بالاهتمام والاستماع والتقدير والكتابة. إنما ما يحزنني حقًّا، هو أنني لم أجد على النت كتابات تحتفي به، وتحكي سيرته الذاتية والفنية، وتُضيء مكانته من جديد، مكانته التي أصبحت ملقاة في مهب النسيان. والصدق أنني بحثت فلم أجد إلّا مقالَين فقط لا غير، وهما بالطبع غير كافيَين، إنما لا بأس بالمعلومات التي وردت فيهما.
فقد كان توقعي، قبل البحث، أنني سأجد أمامي دراسات ومقالات كثيرة تتناول سيرته، وتحتفل بنتاجه، باهتمام وتقدير، وتنفض الغبار الذي أحاط بهذه الشخصية الغالية، لكنني انصدمت عندما خاب هذا التوقّع الصادق.
فهذا الرجل النبيل، كان فنانًّا كبيرًا ومناضلًا ومهندسًا في الخطوط الجوية العدنية، حيث كان قد درس هندسة الاتصالات في القاهرة، وأثناء تواجده هناك استفاد من كبار فنّاني مصر في ستينيات القرن الماضي، ومن سوء حظه أنه لم يعِشْ طويلًا؛ فقَدْ أنهكَهُ مرضٌ عضال وهو في قمة عطائه، فتوقف عن الفنّ أربع سنوات تقريبًا، وعلى إثرهِ تُوفّيَ نهاية العام 1993، في عدن التي احتضنته طوال حياته، ولن تنساه.
الحقيقة أنّ جواهره الغنائية ولمساته الموسيقية لا يمكن نسيانها أو تهميشها أو محوها مع مرور الزمن؛ فهي من النوع الفريد، ومن نبع الجَمال الأصيل.
والزيدي من مواليد محافظة لحج، مديرية الحوطة، ولكنّهُ انتقل منذ صغره مع أسرته للعيش في عدن، وتحديدًا في حارة القاضي، في كريتر. وهكذا، عاش ودرس في مدينة عدن، وعشقها، وأعطاها أزهى نبضاته، وأروعَ إبداعاته، وتركَ فيها بصماته الاستثنائية غير القابلة للمحو.
فمن أغانيه وأفكاره وخلجاته، تفوحُ رائحة عدن الفريدة، الزكية. أيضًا، كان صاحب قضية ورسالة، فغنّى للوطن، للحرية والاستقلال واليمن الكبير، وأغانيه الوطنية عديدة، وتحمل أحاسيسه الجميلة، وما زالت تعيش إلى يومنا هذا.
هذا صاحب حكاية رائعة لا تنتهي، تجلّى فأبدعَ ألحانًا مميَّزة، وغنّى ففاضتْ منه أحلى الأغنيات، وأبهجَ أرواح النّاس من جنوب الوطن إلى شماله، وبقيَ دائمًا محافظًا على ابتسامته الصادقة، تلك التي تدلّ على صدقه الفنّي العميق؛ إنّه مزيج جميل من أصالة لحج وانفتاح عدن، كبير الروح والعقل والموهبة والأداء، وأهميته في فرادة أسلوبه، واتساع ثقافته، وتنوّع أغانيه وألحانه، واتزان شخصيته، ويكفيه مَجدًا أنّه من مطربي الزمن الجميل.
