النص متخففًا من البطولة (2-2)

عن اليسار في اليمن وسلطان زيد وحكاياته
محمد عبدالوهاب الشيباني
December 24, 2020

النص متخففًا من البطولة (2-2)

عن اليسار في اليمن وسلطان زيد وحكاياته
محمد عبدالوهاب الشيباني
December 24, 2020

 إعادة تحليل المحتوى النصي لكتاب "محطات من تاريخ حركة اليسار في اليمن؛ تجربة خاصة" كمسرودات حكائية، هي الوسيلة الأكثر نجاعة لاستبصار جملة المؤثرات في تكوين صاحبها الثقافي والسياسي؛ والتي صارت مع مرور الوقت -كشهادات نصية- وثيقة حيوية بامتياز، تُبرِز الصورة العامة للحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في اليمن بتنوعاتها الخصبة، وأقلها إعادة تجميع نثارات الجغرافية في صورة كلية متعددة الأبعاد خلال ستة عقود، تبدأ من القرية المعزولة وتنتهي بصنعاء، بعد تطواف وإقامة في العديد من عواصم ومدن العالم.

  مرحلة القرية ستتكثف نصيًّا كصورة، تصح أن تُسقَط في تشابهاتها ومظاهر الحياة فيها مع أي قرية يمنية في المحيط الجغرافي. اسم القرية "محيلقة" في منطقة العزاعز بمديرية الشمايتين محافظة تعز؛ أما اسم موضع البيت "دار الكولة" المطل على واد خصيب، فاسمه "الماض". 

  في القرية يتظهر الأب، وهو قاضٍ وفلاح "متخرِّج من المدارس الدينية "بزبيد"، والضليع في أحكام الشرع واللغة العربية، والمتأثر بالإمام الشوكاني، وزميل رجل التنوير والإصلاح السياسي الأستاذ أحمد محمد نعمان. أما الأم ناعمة بنت زيد "المحبوبة لدى نساء القرية والقُرى المجاورة، لطالما كانت شغوفة بمعرفة قضايا الشرع، كالزواج والطلاق والأرش وبيع وشراء الأراضي"، كما يرد في النص. 

  غير أن المهم في سيرة ما قبل عدن، التي عرضنا لبواكيرها في الجزء الأول "هو تصويره لتكوينه التعليمي المبكر في مِعْلَامة القرية، والتي يقول عنها:

  "ألحقني والدي بالكتاتيب لتعلُّم القرآن والقراءة والكتابة لدى فقهاء تقليديين، كنا نحمل ألواحنا وغذاءنا إلى "المِعلامة" التي كانت عبارة عن "ديمة" تقينا من أشعة الشمس؛ التراب وحده فراشنا، وأكلنا كان فطائر "كدِر" نتناولها ظهرًا مع الماء مجتمعين في وجبة تسمى "العواف"، "يبارك لنا الفقيه ويذهب ليأكل لوحده نفس ما نأكله. نذهب كل يوم قبل طلوع الشمس، ونعود قبل غروبها، وفي يوم الخميس ندفع بعض البُقش (نقود) يسمى "الخُمَّوسْ"، يسمح لنا في هذا باليوم بالانصراف في وقت مبكر. لم يكن يكتفي والدي بتعليمنا هذا، ففي المساء يمنحنا -إخوتي وأنا- جزءًا من وقته، ويراجع معنا اللغة العربية والحساب والجمع والطرح والضرب. كنتُ من محبي الاطلاع، أتذكر عندما كنت في الثامنة من عمري وجدتُ في مكتبة أبي كتاب "طبائع الاستبداد" للكواكبي، اطلعت عليه وعرفت بعد ذلك لماذا كان أبي يكره ظلم الإمام والمستبدين، ويبغض التعسف ونظام الجباية الذي يقوم به المخمّنون، والعُكْفة، وأصحاب التنافيذ، وما كان يُسمى حينها "عساكر البقاء" المسلطين على الفلاحين، وكانت تحتوي مكتبته على كتب أخرى لرفاعة الطهطاوي والإمام محمد عبده وخالد محمد خالد، وصحف لحركة المعارضة، كصحيفة الجماهير، وإصدارات مصرية يحصل عليها من عدن بطريقة سرية".

  ما يهمنا من هذا المجزوء هو الصورة الواضحة والقريبة للعلاقة النافرة بين الفلاح والعسكري، التي صارت في أدبيات حركة الأحرار الباكرة تجسيمًا مختزلًا في نصوصية "الأنَّة الأولى" التي صاغها الأستاذ النعمان أواخر ثلاثينيات القرن العشرين الماضي، لتصير عنوانًا للمظلومية الكبرى، المتجسدة في علاقة مركز الحكم ببقية مناطق اليمن الأسفل. أما وجود مكتبة بمحتوى عصري بقياس ذلك الزمن وفي القرية المعزولة، تعزز مساق القراءة التي تحيل إلى علاقة رموز الأحرار بالثقاقة ومبذولاتها، وتجسدها حالة الأب وعلاقته بالنعمان، كما يرد في النص. 

  بعد القرية ستأتي مرحلة عدن، التي ابتدأت مع عودة الخال إلى القرية، وأخذه للطفل البالغ ثماني سنوات، بعلم والدته وبدون علم الوالد، لكنه حين يعرف تاليًا أن الهدف من أخذه هو التعلم يبارك هذا الفعل. بعض تفاصيل المرحلة العدنية استوعبت في الجزء الأول، باعتبارها مرحلة تكوينية باكرة، ابتدأت بمدرسة النهضة في "الشيخ عثمان"، وانتهت بالمعهد الإسلامي في كريتر، وما تخللها من الإقامة في مقهى فارع ومسجد حامد والاتحاد اليمني.  

في العام 1961 وبعد تخرجه من المعهد الإسلامي انتقل للعمل كمدرس في منطقة "ميفعة" بشبوة، وبعدها في "بئر علي"، وحينما علم بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962، ترك عمله والتحق بركب اليمانيين الذائدين عن الروح الجديدة

  في المعهد الإسلامي سيتلقى تعليمًا نظاميًّا على أيدي مجموعة من المعلمين اليمنيين المرتبطين بحركة الأحرار اليمنيين، وبالأحزاب القومية الناشئة، التي بدأت تتغلغل في أوساط المتعلمين الشبان، ومن هؤلاء المعلمين: محسن العيني المتخرج حديثًا من فرنسا، وأحمد حسين المروني، وعلي السلامي، وسالم زين محمد، وقاسم غالب، وأغلبهم من حركة القوميين العرب. وبين التناقض بين مسمى المعهد بالإسلامي، وبين طابع نشاط معلميه، يقول: 

  "على الرغم من أن المعهد ذو طابع إسلامي ديني، لكن نشاط المعلمين المنتمين للحركة الوطنية كان حاضرًا وملموسًا، ولا يتوقف حديثهم عن الإمامة والرجعية، وضرورة صنع التغيير والتطلع نحو بناء وخلق حياة جديدة؛ في المعهد لم يكن هناك منهج محدد يُدرّس مواضيع معينة. مدرسونا الملتزمون بفكر وروح المعارضة هم الذين كانوا يصيغون المواضيع المقررة في هذه المناهج. كانت المذهبية تتلاشى وتنحسر فيما بيننا، والحال بأن تربيتنا الوطنية في المعهد لعبت دورًا إيجابيًّا في تشكل معاني ومبادئ حب الآخرين، فكنا نكبر، ونكبر باستمرار".

  أول لقاء له بالمفكر اليساري الكبير عبدالله عبد الرزاق باذيب، والذي سيصير بمثابة الأب الروحي له كان في أحد مقاهي الزعفران بكريتر في العام 1956، ويقول عن ذلك:

  "تعرفت على الأستاذ القدير عبدالله باذيب، والفنان التشكيلي عبدالجبار نعمان "عضو المنظمة المتحدة للشبيبة لاحقًا"، كان لهذا التعارف أثر إيجابي في تحفيز ميولي الفكري وإكسابي اتجاهات أدبية وثقافية معبِّرة عن معاني الالتزام، فكتبت العديد من المقالات والقصص القصيرة في جريدة الشعب لصاحبها ومدير تحريرها حسن البيومي، فيها لمحات قومية ووطنية وإنسانية معادية للإمامة، ومع التحرر والعدالة وضد التخلف والاستبداد، والمساندة لعبدالناصر وقضية فلسطين".

  في العام 1961 وبعد تخرجه من المعهد الإسلامي انتقل للعمل كمدرس في منطقة "ميفعة" بشبوة، وبعدها في "بئر علي"، وحينما علم بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962، ترك عمله والتحق بركب اليمانيين الذائدين عن الروح الجديدة:

  "تلقيت رسالة، مع الطائرة التي كانت تأتي مرة واحدة كل أسبوع من عدن، مبعوثة من الأستاذ علي عبدالعزيز نصر، يقول فيها: "ارجع سريعًا فوطنك يحتاج إليك"، فتفاعلت مشاعري الوجدانية مع موضوع الرسالة، وقررت العودة لتأدية واجبي الوطني؛ ولأن الخروج من المنطقة لا يتم إلا بموافقة سلطان الواحدي عُدتُ إلى ميفعة، وكنتُ قد كونت صداقة مع المسؤولين هناك، وعند مجيء الطائرة صعدت على متنها مُدعيًا البحث عن "عفش" (أثاث) مرسل لي من عدن للبيت تجهيزًا لوصول زوجتي، عندها غمزت لضابط المطار وقلت له: اسمع لدي مهمة وطنية، فقال لي: اذهب رافقتك السلامة، ولم يكن معي ملابس ولا مستلزمات أخرى، ومن عدن التي وصلتها بالطائرة سافرت إلى لحج ومنها إلى تعز".

  مثل كثيرين من أبناء اليمن الشبان في عدن ومناطق المحميات من العمال البسطاء والموظفين والعاطلين تركوا كل شيء وسافروا إلى تعز وصنعاء لتلبية نداء الواجب، والدفاع عن ثورة سبتمبر، لإيمانهم المفرط بأن فعلًا ثوريًا مثل هذا سيزيل عن بلادهم ركام وانغلاق السنين.

  وكان أول نشاط له في صفوف الثورة هو عمله في المركز الحربي بتعز، الذي كان وقتها المخزن الحقيقي للمدافعين عن الثورة، وعن طريق المركز مرّ عشرات الأسماء الذين صاروا علامات مضيئة في تاريخ اليمن المعاصر.

  "توافدت مجاميع كبيرة للتسجيل، كان البعض منهم أعضاء في "المنظمة المتحدة للشبيبة اليمنية الديمقراطية" التي يرأسها عبدالله عبدالمجيد السلفي، بالاتفاق مع المقدم محمد الخاوي، الذي كان يقوم بالدفع بهم إلى الحرس الوطني، بالإضافة إلى أعضاء قادمين من اتحاد العمال "المؤتمر العمالي" عبدالله الأصنج، ووصل حينها إلى تعز أيضًا من كانوا يوصفون بـ"الحُمر" أصحاب الهامات المرتفعة ذات الوزن والثقل الثقافي والفكري، وهم: الجاوي عُمر، والسقاف أبوبكر، وعبدالله حسن العالم، وحسين السقاف من موسكو، تاركين دراستهم وملتحقين بمسار موكب الثورة، ومدها بكوادر من الشباب، مثلهم مثل شباب البعث يحيى الشامي، وسيف أحمد حيدر، الذين وصلوا من القاهرة، كان يقوم الجاوي ورفاقه بمهمة الترجمة للخبراء السوفييت".

  بسبب الضغوط التي مارستها الاستخبارات المصرية والتضييق على الاتجاهات اليسارية وأنشطتها السياسية، تفاقمت الخلافات مع قيادة المركز التي عينها المصريون، وأفضت إلى تسريح العديد من الأسماء المؤثرة من الجيش، ومنهم سلطان زيد، الذي كان قد تبوأ مواقع قيادية حساسة في المركز الحربي، ويقول عن ذلك:

  "بعد فصلي من الجيش مباشرة أرادت أجهزة الأمن أن تأخذ مني المنزل، فكان لصديقي العزيز عمر الجاوي موقف شجاع في هذا الأمر، وكتب رسالة لمدير الأمن عبدالقادر الخطري شديدة اللهجة، يقول فيها: "كيف تسجنوا إنسانًا وتفصلوه من عمله، ثم تريدون طرده من منزله...إلخ".

لفت انتباهي أن أول لقاءات صاحب الكتاب برموز الحركة الوطنية المحسوبة على اليسار كانت في مقاهٍ؛ فلقائه بباذيب كان في مقهى في الزعفران بعدن في العام 1956، وبسلطان في مقهى في شارع 26 بتعز في العام 1963، أي أن المقاهي كانت تمثل فضاء مدينيًّا متقدمًا 

وعن النشاط السياسي لليساريين في المركز، يقول: 

  أتذكر في هذه المرحلة تشكلتْ حركة طلابية نشطة، كانت هناك خلايا ومجموعات سياسية ماركسية تعمل بالسر كحلقة أولى بالاتجاه الماركسي، التي كان قد أسسها عبدالله باذيب عند إقامته في تعز عام 1958".

  ويصف الخلافات العاصفة بين الاتجاه الماركسي والاتجاه القومي، التي غذَّتها أذرع المخابرات المصرية في المركز: 

  "حينها كان قد بدأ يبرز نوع من التشابه والانسجام النظري بين هؤلاء الماركسيين الذين كانوا على اختلاف مع مجاميع من حركة القوميين العرب، خصوصًا من كان لهم علاقة بالدولة والمخابرات المصرية، وكانت تحتدم بين أعضاء هذه التيارات نقاشات وحوارات حينما كانوا يلتقون في المجالس والمقاهي وفي المكتبات عند جلسات القراءة".

  ويستعيد أول لقاء له بسلطان أحمد عمر بقوله: 

  "أتذكر جلوسي في مقهى أسفل العقبة منتصف 1963، قرب البنك اليمني للإنشاء والتعمير حاليًّا، حينها دلف إلينا شاب أسمر أنيق ذو وجه مشع بالأمل والابتسامة البشوشة، قادم من بيروت ويدرس في الجامعة الأمريكية "قسم الدراسات الفلسفية"، هذا الشاب هو "سلطان أحمد عمر" ، وكان حينها أحد المسؤولين عن حركة القوميين العرب في اليمن، تبادلنا أطراف الحديث -بعد التعارف- حول حملة العِداء للاتحاد السوفيتي، وعن المركز الحربي الذي قام بتمويله السوفييت بمستلزمات وبرامج التدريب والأسلحة، وكيف أن المخابرات المصرية تستقطب بعض الشباب للتجسس على المركز والمتدربين فيه، وتبث دعاية بأنهم يقومون بحملة ضد الشيوعيين، وذكر الرفيق سلطان أنهم يعدون كشوفات بأسماء العملاء، لا غرابة من موقف الصديق العزيز سلطان في ذلك الوقت، فقد كانت الحركة القومية تضمر الكراهية والعداء للتقدميين".

  لفت انتباهي أن أول لقاءات صاحب الكتاب برموز الحركة الوطنية المحسوبة على اليسار كانت في مقاهٍ؛ فلقائه بباذيب كان في مقهى في الزعفران بعدن في العام 1956، وبسلطان في مقهى في شارع 26 بتعز في العام 1963، أي أن المقاهي كانت تمثل فضاء مدينيًّا متقدمًا في تلك الفترة.

 عن علاقته بالفكر اليساري يقول:

  "تأثري بالفكر اليساري بدأ في وقت مبكر في نهاية الخمسينيات في عدن، أثناء المرحلة المتوسطة، قرأت لكتّاب تقدميين: "الأم" لماكسيم جوركي، و"معذبو الأرض" لفرانز فانون، و"الشيخ والبحر" لأرنست هيمنجواي، و"البؤساء" لفيكتور هوجو. إلى جانب كتابات يسارية مثل "أحاديث الشباب" لسلامة موسى. وكان لوجودي في المركز الحربي واحتكاكي بالخبراء السوفييت والرفاق الماركسيين دور إيجابي في تطور مستوى ذلك التأثير".

  هذه بعض من مسرودات كتاب "محطات من تاريخ حركة اليسار في اليمن"، التي اشتبكت فيها سيرة المؤلف بمحطات من تاريخ الحركة السياسية المعاصرة في اليمن، كان فيها شاهدًا حقيقيًّا على مرحلة مهمة من تاريخ لم تزل الكثير من وقائعه وأحداثه مغيَّبة، لحسابات كثيرة عند من كانوا شهودًا وفاعلين فيها.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English