اللغة والحروب

كيف استخدمها المتصارعون لحشد المقاتلين؟!
د. محمد أحمد الحاج
January 20, 2023

اللغة والحروب

كيف استخدمها المتصارعون لحشد المقاتلين؟!
د. محمد أحمد الحاج
January 20, 2023

إنّ الناظر في تاريخ الصراعات البشرية على مرّ العصور، يرى أنّ الصراع قبل أن يخرج إلى الواقع الفعلي، كان هناك اهتمام مستمرّ باختيار (الخطاب) الذي يمهّد السُّبُل أمام (الفعل)، وأنّ لكل عصرٍ (خطابه) الذي يسبق (فعله)، وعلى الدوام كان هناك من يصوغون لغة الخطاب، باعتبار أنّ الفكرة يجب أن تكون مقبولةً قبل تنفيذها، وعلى أساس الاقتناع وقَبول الفكرة. ومن هنا، كانت وما تزال، أهميةُ اللغة في أيّ صراع بين عدوّين أو خصمين، كما أنّ أهمية اللغة تتجلّى في حالات التعاون والحوار مثلما تتكشّف في حالات الحرب والصراع، ويحفل التاريخ بالكثير من الأمثلة الدالة على أهمية اللغة في إثارة الصراعات والحروب، إذ إنّ ذلك الصراع لا يتم بشكل تلقائي، وإنّما يتم من خلال عملية تمهيدٍ تلعبُ اللغة فيها الدورَ الحاسم لتهيئة العقول لقَبول فعل الحرب أو حالة السلام.

فاللغة من شأنها أنّها ترسي القناعات لدى كلِّ طرفٍ بعدالة موقفه إزاء موقف الخصم، ولعلّ من أهمّ وأبرز استخدامٍ للُّغة كسلاح قويّ لإدارة الصراعات؛ ما جرى من صراع بين العرب والصليبيّين طوال الفترة من أواخر القرن الحادي عشر الميلادي حتى أواخر القرن الثالث عشر الميلادي في العصور الوسطى، فقد بدأ الباباوات باستخدام اللغة لتهيئة الغرب الأوروبي لشنّ حربٍ صليبية ضدّ المسلمين، وقد استخدم الباباوات والقساوسة اللغة المناسبة للعقل الأوروبي آنذاك، فخلطوا في لغتهم بين الخطاب الدينيّ والخطاب السياسيّ بكلّ ما يحمله من إغراءات دنيوية في الغنائم والأسلاب، والأمجاد الشخصية، فقد لجأت الدِّعاية البابوية آنذاك إلى اللغة لإسباغ كلِّ الصفات الحقيرة والعدائية بسخاءٍ شديدٍ، ضدّ الإسلام والمسلمين، وبواسطة اللغة نسبت إليهم الدعايةُ البابوية –زورًا وبهتانًا- تعذيبَ المسيحيين في بلادهم بأبشع الوسائل، وتلطيخ الكنائس والمقدسات بكلِّ ما هو قذر ومدنس. وفي المقابل، فقد استخدموا اللغة لتصف المسيحيِّين بأنّهم شعب الله المختار، وبأنّهم البواسل والشجعان، كما وصفتهم اللغة بأنّهم جنود الرَّبّ، و(جيش المسيح)، وهكذا كانت اللغة عاملًا حاسمًا في نهوض أبناء الشعوب الأوروبية على الخروج بأعداد غير مسبوقة في ضخامتها ليقوموا برحلةٍ مسلّحةٍ طولُها ألفٌ ومِئَتَا ميل، لقتل العرب والمسلمين، بعدما كانت الأفكار قد رُسِّخت في أذهانهم بأنّهم يفعلون الصواب، وأنّ المسلمين يستحقون القتل والفناء، وفي المقابل كان المسلمون في دفاعهم عن أرواحهم ومقدّساتهم يستخدمون لغة تناسب الموقف التاريخي، فقام أهل العلم والفكر بنشر ثقافة الجهاد، ومكانة بيت المقدس في الإسلام، وكانت اللغة هي الحاضرة في الصراع الدائر بين الصليبيّين والمسلمين، وأصبحت هي الممهّدة لفكرة الدفاع ضدّ المعتدين، حتى انتهى الصراع بخروج الصليبيّين من بلاد العرب والمسلمين سنة 1291م.

وممّا هو جدير بالذكر، أنّ اللغة في عصرنا الحاضر تلعب دورًا مهمًّا في التشويه بالخصوم، والمناوئين للسلطة، كما امتدّ فعلها للخطابات الدينية المتطرفة، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، وأصبح سلاح اللغة، اليومَ، أقوى وأشدَّ وطأة من أيِّ سلاحٍ آخر في ميدان الصراع المعاصر، إذ يستخدمها الساسة وتجّار الحروب في إقناع شعوبهم بفكرة الحرب أو السِّلم، بل وأصبحت سلاحًا في إثارة الضغائن بين المجتمع الواحد، وأصبحت مسألة إقناع الشعوب بواسطة اللغة ضرورةً حتمية للوصول للسلطة، أو حتى تبرير أفعال الحاكم الظالم لسبب أو لآخر.

•••
د. محمد أحمد الحاج

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English