كمال الدين محمد (2-2)

قصة المايسترو البدين.. والموت المؤجل
نجيب مقبل
January 31, 2023

كمال الدين محمد (2-2)

قصة المايسترو البدين.. والموت المؤجل
نجيب مقبل
January 31, 2023

شاعرية القصة؛ (قصة المايسترو البدين) نموذجًا

إنّها إحدى قصص المجموعة القصصية (من يبني حديقة لأوسان) الملفتة للنظر في التناول اللغوي والتخيلي، وفي صناعة الأحداث العجيبة، وفي خلق واقع تخيلي مليء بأحداث تنتمي إلى اللامعقول فنيًّا، ولكنها دالة على الواقع الحيّ المعاش بترميز فنّي ومعرفيّ.

لا تدري وأنت تقرأ هذه القصة النموذجية: هل أنت أمام فنتازيا أم هلوسات حلم تتداخل فيه الأحداث دونما سياق مقنع حياتيًّا.

القصة تمضي إلى سردٍ غير واقعي لحفلة موسيقية أبطالها الرئيسون: المايسترو البدين، المرأة ذات المؤخرة الكبيرة، المتفرجون ذوو الكروش المندلقة، وآخرون ذوو الأكتاف المنهكة وذوو الأكتاف الأعرض.

والحدث الأبرز: السمفونية ذات اللحن الرتيب.

تتداخل فنتازيا تصوير الأحداث لهذه الحفلة بصور أشبه ما تكون بمشهدٍ سرياليّ يبحث عن ترميزٍ فنّيٍّ له، كي تصل إلى المعنى المعرفي وتصوّر لقابلية البحث عن تفسير للأحداث.

إذن، تفكيك النصّ والوصول به إلى معرفة لسياقها الحدثي يحتاج إلى قراءة فنية جمالية:

فالمايسترو البدين لا يؤدّي دورَه الطبيعيّ في قيادة الأوركسترا، ولا يمنح المتفرّجين غايتهم في السماع لسمفونيا بيتهوفن الغاضبة، بل يعدهم بسماعها بعد مقتل الحلم (مقتل موزارت)، وفي كل مرة يقول: الصبر مفتاح الفرج!

الحضور يتناوبون في عالم البلاهة والتذمر:

- منهم من اندلقت كروشهم، وأصحاب الأكتاف العريضة يستشعرون بضيق مساند المقاعد، وأصحاب الأكتاف الأعرض أوجعتها المقاعد الضيقة، أمّا المرآة ذات المؤخرة الكبيرة فقد بالت على الأرض حزنًا وكآبة! 

إذن، ضمن هذا المشهد اللاواقعي، تكمن الرغبة في طلب:

-  أنقذونا من هذا البطء القاسي.

-  أرهقنا النوم، عطشى على مقاعد ضيقة، تدغدغ أفئدتنا أحلام الاسترخاء الرخية البلهاء.

-  أطلقوا سيمفونية الغضب.

وتستمر الأحداث الفنتازيّة في تصاعدها، لتعلن عن وقوع التدمير (الحرب)، وصعود اللحن إلى السماء فيما المايسترو بعصاه يتباطأ.

 وينتهي المشهد بإدانة المايسترو الذي يكرّر مقولته: "الصبر مفتاح الفَرَج:"

-  جئنا لنسمع سيمفونية بيتهوفن الغاضبة، لا لسلسلة مفاتيحك الصَّدِئة.

لكن الأوركسترا الخليطة ما زالت تعزف: "أمان.. أمان"

 ما يعني واقعيًّا أنّ التجديد والحداثة والتغيير بعيد المنال.

-  وسيظلّ ذوو الأكتاف الأعرض يتكلّمون على المقاعد الضيّقة ويحلمون بمقاعد متّسِعة.

الحلم... هكذا تنتهي القصة - الفنتازيا.

هذه محاولة لتحليل النص، ونتساءل: كيف يمكن قراءة هذا القصة؟

الجواب: كما يقرأ الشعر بكليته معنى وجمالية.

يمكن قراءة هذا النص المذهل، المليء بأحداث لا تمت إلى تصوير وقائع حياتية مباشرة، ولكنها تعبّر عن واقع الحال: معرفيًّا وجماليًّا.

يمكن افتراض التفسير المعرفي للقصة، في التالي:

 - حياتنا واقعها رتيب وغير ملائم للعيش بهناء ورغد، بل فيه من مغالطات القائد الذي لا يستطيع أن يلبي حاجة الناس في (الغضب) أي الثورة على هذا الواقع المزري (سيمفونية بيتهوفن الغاضبة)، بل يعدهم بالثورة بعد جريمة قتل الأحلام (مقتل موزارت).

 - يتقاطع صعود اللحن مع معاناة الحاضرين، لكن السمفونية ما زالت مختلطة بلحن (أمان أمان) أي بـ(الرتابة والخدر والنوم...).

إلَّا أنّ الناس لا يزالون يحلمون بتوسيع رقعة عيشهم الكريم.

هذا هو التفسير المعرفي للقصة كما يخيّل لي من إمكانية قراءة الترميزات الفنية والدلالية في كنف هذه القصة، التي لا يمكن الوصول إليها إلّا من قراءة فنية وجمالية.

الوصول -إذن- إلى المعنى أو الدلالة في هذه القصة يتطلب أدوات معرفية وجمالية غير تقليدية، وأغلب الظنّ إلى أدوات تحليل شعرية.

ولعلّ الخيال -خيال الكاتب- هو من صنع هذا الواقع الفنتازيّ المذهل للقصة وأحداثها، فأنتجها على هذه الصورة الموازية للواقع الحياتي المعاش.

لم يعمد الكاتب إلى أن يصور واقع الحال الذي نعيشه كما يراه عيانًا، بل كما يراه تخيلًا وفي مشاهد تصويرية أقرب إلى اللامعقول، بخيال لا محدود، ونصٍّ شاعريّ ذي صور جمالية ودلالات معرفية.

وهنا تكمن شاعرية الكاتب القاصّ، كمال الدين!

أي الوصول إلى قراءة النص القصصي كقراءة النص الشعري: تحليلًا وترميزًا وتخيّلًا.

وهنا يكمن القاصّ كشاعر في قصته لا قصيدته!

لماذا كمال الدين شاعرٌ في القصة القصيرة؟

اللغة أداة ومعيار لصياغة الوقائع والأحداث والأقوال والأحاديث، والتخييل أداة ومعيار لصناعة الواقع المجازي النصي.

التلاحم بين المعرفي والجمالي هو قمة وأعلى درجات الصياغة - الكتابة.

والقصّ كفنٍّ من فنون الكتابة والحكي في أشكالها المتعددة: القصة القصيرة - القصة الأقصر - الومضة، والرواية بألوانها المتعددة التوثيقية والفنتازية والواقعية...إلخ، أخذت من أسباب التجديد والتحديث في الأسلوب والتناول للوصول إلى حالة دلالية تفسر وتبرّر لماذا تُكتب القصة أو الرواية على هذا النحو.

منذ صدور رواية (مئة عام من العزلة) لغابرييل غارسيا ماركيز، تداخل في النص مفهومي: الواقعي/ التخيلي، الموضوعي/ الفنتازي، السردي/ التقاطعي، الماضي/ الحاضر.

تداخلت في الكتابة فنون كثيرة، كفنّ المونتاج، والتقطيع الزمني والمكاني...

بل تداخلت الشعرية كأداة من أدوات الشعر بالنثرية كأداة من أدوات القص، وصرنا نرى الشعر المنثور، وقصصًا كالقصة الومضة وروايات الفنتازيا، وصار النصّ مسرحًا للعب على إيقاع الكلمة والتخيل، وتحطّمت الحواجز والحدود بين ما هو كتابة قصصية كنص نثري وبين القصيدة كنص شعري.

وهنالك من امتدّت يده لتغرف من الدفتين: ماء الشعر والقَصّ في كتابة واحدة، وبالخصوص في الفنّ القصصيّ، كما فعل القاصّ كمال الدين الذي أخلص لفنِّ القصِّ بكلِّ تجلياته وأدواته، فيما كانت عينه على اللغة الشعرية والتخييل الذي ينتمي إلى القصيدة أكثر منه القصة.

ومن هنا، كان اقتراحنا بتوصيف القاصّ كمال الدين بشاعر القصة القصيرة.

قد يوافقني القلة ويرفضه الأكثرية من المهتمين والنقّاد، لكن قراءة متمعنة لنصوص القاصّ كمال الدين قد تسامحني في اختيار هذا التوصيف.

هناك من يجيد استخدام اللغة في كتابة النص القصصي، إجادةً تقرّبنا من النظم المبدع في اختيار الألفاظ والسبك المبدع، ويشتغل على اللغة تلوينًا وتنميقًا وربما تخيلًا، ولكن هذا الاشتغال يكون فقيرًا من الناحية الشعرية المخيالية في اقتراف الكتابة.

بين القصّ والتخييل، وبين الواقعيّ والمجازيّ، هنالك مجازات في اختيار الوقائع وتلبيسها لبوسًا تؤدّي إلى عالَمٍ شعريّ معرفيّ وجماليّ هو الفيصل في شعريّة النصّ القصصيّ.

وهذا ما حاوله كمال الدين؛ أن يمزج الوقائع الواقعية، والصور المخيالية في النص، بحيث يكون الاشتغال على اللغة، ليس كهدف لذاته، وإنّما لهدفٍ آخر هو صناعة توافق جماليّ ومعرفيّ يتجلّى من خلال الكلمات المكتوبة.

لم يختَر القاصّ كمال الدين كتابة القصة/ الومضة التي هي -في نظري- سهلة على التمازج بين الشعري والنثري، وبين الفكرة وتخيلها، في أقصر الكلمات عددًا وبلوغًا لهدف التوصيل أو الانتقال من النص إلى القارئ.

بل جعل من القصة المتوافرة على عناصرها الأساسية من القص والحكي والحديث المرسل، والنص شبه الطويل والوقائع الواقعية أو المتخيلة مادةً للدخول في عالَمِ نصٍّ شعريّ ومخياليّ بامتياز. 

الشعرية هنا، قد تأتي من صناعة الفكرة اللامعة أو التوجيز الختامي لفكرة هي أبعد ما تكون من الوقائع بصلة.

فضلًا عن استخدام لغة شاعرية في أكثر من حين أو موقع في النص، أو من سرد واقعة أو حديث لإحدى الشخصيات، لكن هذا الاستخدام ليس إجباريًّا لإحداث الصدمة الشعرية، بل هي من بنات كلماته وأفكاره الحية.

أعرف أنّ كمال الدين كان أكثر قراءة لشعر الشعراء الشباب المجايلين أو التابعين بعدهم، وقد كان قارئًا ذواقًا للنصوص الشعرية للشعراء الشباب؛ شوقي شفيق، ومحمد حسين هيثم، ونجيب مقبل، وعبدالرحمن إبراهيم، وجنيد محمد الجنيد، والقائمة طويلة من الشعراء الشبّان.

ولكأني كنتُ أستشعر غيرة القاصّ كمال الدين من هذا المخيالي والشعري في نصوصنا، الذي هو جزء من بنية القصيدة. نكتشف ذلك حين كان يقرأ النصوص الشعرية معجبًا أو ناقدًا، وإعطاء المعنى الجمالي لما تتناوله القصيدة التي بين يديه، لم يكن بعيدًا من عالم الشعر والشعراء.

إلى جانب ما يختزنه من تخيلات ماكرة صنعتها الطفولة من حكي الجدّة الأميرة، ومن نمط شاعري في السلوك الشخصي لشخصية كمال الدين الحياتية واليومية، فقد كان أميل إلى الهدوء والتأمّل والعيش بعيدًا عن نثرية الحياة المادية، مضافًا إليه غزارة قراءته باعتباره فأر قراءة.

كما أنّ لدي من المعلومات ما تؤكّد أنّ القاصّ كمال بدأ حياته الإبداعية بكتابة نصوص شعرية رأى أنّها لا ترقى إلى مستوى القصيدة. فأهمل هذا المسار الشعري، وبقيَ في كينونته القصصية يبثّها في نصوصه القصصية التي وجد فيها ضالته في اجتراحها غير متناسٍ ماضيه المهمل كشاعر (عاثر) لم يكن له نصيب من أن يكون له مكان في عالم النص/ القصيدة، إلّا متذوقًا ومتابعًا ومهتمًّا، أو ناقدًا لمثالبها أو مجليًا لجمالياتها.

وهذا التواصل الإبداعي في حياة كمال الدين، بين القصيدة والقصّ، انتقل إلى عالمه القصصي، فترجمه هو بلغة القصّ نصوصًا قصصية ذات نكهة شعرية تضاهي أو تتجاوز ما يكتبه الشعراء من حيث الفكرة الواضحة والسرد الأنيق والخيال الغامر في اللغة وسرد الوقائع والأحاديث والأقوال.

مات كمال الدين محمد وحيدًا مصدومًا من مجتمع تصدع وتهالك قيميًّا وحضاريًّا، وبعيدًا عن أسرة عاش في كنفها، وتملكه الندم على القرار الذي أراده ولم يحبه: أن ينجو بأولاده من الواقع الموحش الذي خلفته حرب 1994، وقيمها ما قبل حضارية، ليعيشوا حياة حضارية في عاصمة الضباب، ليعاني بعدها بين دفتَي الرغبة والألم.

صدمة حضارية وموت مؤجّل للقاصّ 

تداعيات حرب صيف 1994، وتوابعها المادية، ومفاسدها القيمية، مثّلت صدمةً حضارية لكلِّ من عاش هذه التجربة القاسية.

ولعلّ كمال الدين أحد ضحايا هذه الحرب بل من ضحاياها الأُوَل، فقد هزَّته مشاهد الاقتحام لمدينة عدن التي كانت متماسكة قيميًّا ومجتمعيًّا حتى في أحلك الظروف.

آباء وأبناء عدن والجنوب ملتزمون بحدود الامتثال للدولة حتى في غيابها، أمّا أبناء (حرب 1994م) فقد كانوا يُقادُون إلى ثقافة، بل لاثقافة جديدة: هي الفيد والتعدي والانتهاك، وتسهيل السلطة وإغواءاتها لضعفاء النفوس لأن يدخلوا في هذا النفق المظلم الذي صار ثقافة مرسخة حتى يومنا هذا.

أصيب المواطن والمثقف بهذه الصدمة الحضارية، وكان كمال الدين كأحد أبناء المدنية ومن النخب المثقفة ممّن اهتزّت أركان قناعاته، بل اهتزت أركان منزله من هولها.

وكواحد من العائلات العدنية، فكّرت عائلة القاصّ كمال الدين، في الرحيل عن المكان المنتهك، والقيم المتصدعة بما تراه أمام أعينها.

وبالفعل استجاب كمال الدين موضوعيًّا لسفر عائلته وأولاده، على أن يلحق بهم، ولكنه لم يفعل!

أركان بيت كمال لم يهتزّ بل تصدّع كليًّا برحيل الأسرة، فيما بقيَ الأب في حالة المراوحة في المكان الذي لم يشأ أن يغادره. 

ظلّ كمال الدين الإنسانَ الرقيق المرهف الإحساس المصدوم معنويًّا وحضاريًّا، يعيش حياته تائهًا بين اللاقرار، والاعتكاف الشخصي، ومرارة غياب بيته وسكانه من العائلة الصغيرة.

وزاد من غربته المكانية غربته العاطفية عن الوصول إلى الأبناء.

ويمكن القول بأنّ كمال الدين مات معنويًّا عام 1995م، عندما غادرت عائلته إلى عاصمة الضباب في اللجوء الإنساني، وتركته وحيدًا في مكان موحش كإنسان متهالك نفسيًّا ومعنويًّا.

وفي ظنّي أنّ الفخ الذي سكنه كمال الدين، يمكن تفسيره في العيش بين متناقضين، هما:

- الإمتاع الذاتي المتشبع بقراره الأول في تسفير أولاده إلى الغرب، حيث المستوى المعيشي والتربية والتعليم العالي، ونجاحه بأن يجعل أولاده خارج هذه الوحشة والتوحش الذي ساد البلاد والعباد بعد حرب 1994م، وشعور الخيبة الذي تحوّل إلى ألم في الضمير من هذا القرار، بأن هذا الخيار كان ثمنه أن يفقد حضن الأبوّة الدافئ والعيش المشترك تحت سقف واحد.

وظلّ كمال الدين في دورانه البندولي، بين الإمتاع والخيبة، زمنًا يطول ويمتدّ يومًا بعد آخر ويأخذ منه سلطان العيش الهنيء، بل يتركه داخل ذاكرة مثقوبة لا تعرف الرضى في قرار اتخذه بقناعة متراوحة وفشل في إكمال نسخته بالذهاب والالتحاق بركب الأسرة واقتنع بالعيش في ذهان تذكاري يسحبه من شاطئ الحياة الواقعية إلى لجاج بحر تذكارات مترامية الأطراف.

وبين الذاكرة المثقوبة والذهان التذكاري، أضاع عمره دون اتخاذ الخيار الذي يمنحه الاستقرار النفسي والطمأنينة الحياتية، والخروج من فخّ نصبه بنفسه ولم يتمكن من معرفة باب الخروج منه.

وفي هذا الذهان التذكاري، أضاع كمال الدين العمر الجميل واليراع اللامع والتعايش الواقعي مع الوضع الجديد، واختار صومعة الاعتكاف بعيدًا عن الناس والقلم والورقة، مع التيه العظيم.

وممّا زاد توهانه في تحديد الخيار الأمثل، أنّ الوضع المحيط به يزداد سوءًا وقرفًا، وحياة مستجدة ومتعفنة تأتي من عمق التخلف، من قيم الفيد والبلادة الحضرية وانكماش الرقعة المدنية التي جلبتها وحدة 7/7.

فتارة يقول لك: "أحسن شيء عملته أنّ أولادي يتربون في بيئة مدنية وحضرية".

وخلفَ هذا الكلام المعسول ألمٌ كظيم وحنين قاسٍ على زمن المنزل الأول والعائلة السعيدة باكتمالها في أول العهد، العهد الذي ولّى مع رحيل العائلة بدونه.

ولذلك كنتُ أخشى بل أتجنب ذكر أيَّ معلومة يتعلق بذكر أيّ موضوع عائلي يتعلق بأولادي وبناتي وأسرتي أمامه، لأنّ أيّ مجازفة أو سهو في سرد مثل هذا الحديث قد يكون طعنة نجلاء في صدر أبٍ كليم ! 

أتذكر لحظة احتضار الوالد محمد -والد كمال الدين- وأنا أمامه، فقد رأيت عينيه تكلمني بعد أن فقدَ النطق والحركة، كانت حركة عينيه تقابلني وتتجه إلى موضع كمال الدين.

عرفت أنّ خالي -أبا كمال- المحتضر في سرير الموت مشغول بمصير كمال بعد رحيله ويوصيني بالبقاء إلى جانبه في محنته.

فهو يعرف العلاقة الأسرية والإبداعية التي تجمعني بكمال، ويعلم بالتقارب والتماثل الروحي والمعرفي الذي نشكّله معًا.

ولكني أعترف أنّني لم أكن على قدر المسؤولية في تنفيذ هذه الرغبة/ الوصية، فقد شغلتني يومها مشاغل ومحن الحياة، وكانت زياراتي له على لمم.

هكذا أخذتنا الحياة وكمال الدين لم يحدّد خيارًا للخروج من صومعة التيه العظيم.

كمال الدين.. الوصية الغائبة 

توقفت ساعة الحياة والإبداع في داخله وتردّد في منطقة اللاقرار.

سقط سقف المنزل الذي بناه بيديه الأبويتين، وانهارت علاقة التواصل الأسري، وأجبر على الطلاق عن الحياة والناس وربما مع الإبداع.

فمات وحيدًا مصدومًا من مجتمع تصدع وتهالك قيميًّا وحضاريًّا، وبعيدًا عن أسرة عاش في كنفها، وتملكه الندم على القرار الذي أراده ولم يحبه: أن ينجو بأولاده من الواقع الموحش الذي خلفته حرب 1994، وقيمها ما قبل حضارية، ليعيشوا حياة حضارية في عاصمة الضباب، ليعاني بعدها بين دفتَي الرغبة والألم:

الرغبة في أن ينجو بأولاده من هذا التخلف القادم، وطمس هُويته ومدنيته، وبين ألم الاشتياق للوَصل مع عائلته وأبنائه.

طوال 26 عامًا، ظلّ كمال الدين معلّقًا بحبل مشنقة هذا التجاذب التراجيدي الذي أفقده بوصلة الحياة والإبداع.

تداعيات هذه الحرب قتلت شاعر القصة القصيرة كمال الدين، الذي ظلّ على مدى هذه السنوات يقاسي الحنين والاكتئاب النفسي والاعتكاف القاسي، والحلم بعودة الأولاد، وعودة (جودو) الحضاري والمدني المغيب الذي لم يعُد أبدًّا.

كان هذا هو مشارف القتل المعنوي، ورصاصة الرحمة التي تأخّر إطلاقها 26 عامًا، حتى إصابته ذات موت مؤجل لرجل منسيّ ومغيب عن تاريخه الشخصي والإبداعي، إلّا ما تبقّى من بنات أفكاره وفلذات كلماته وخيالاته التي جسّدها شعريًّا في قصصه الجميلة والمفارقة عن باقي قصص أبناء جيله.

 وما زال البحث جاريًا عمّا تناثر من إبداعه.

•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English