حيوية الصورة ومحدودية المشافهة

الثقافة العربية وشيطنة الفن
محمد علي اللوزي
September 18, 2022

حيوية الصورة ومحدودية المشافهة

الثقافة العربية وشيطنة الفن
محمد علي اللوزي
September 18, 2022
Photo by: Hamza Mustafa - © Khuyut

.الصورة أمضى تعبيرًا وأشدّ حضورًا، وأقوى دلالة. الصورة فعلٌ يدين، كما هو يرتقي، وهي توهّج وتوقُّد للمعنى العميق في دمعة طفل، أو بكاء أرملة، أو حسرة مُسِنّ. الصورة تنجز المعنى وتكشف أبعاد الحقيقة وإلى أين تؤدي. كما أنّها شاهدٌ على العصر وتعبيرٌ عن مُنجَز إنسانيّ، أو انتهاك حقوق وحريات. تفعلُ الصورةُ ما تعجز عنه مؤلفات ومليون خطبة في مساجد الأرض. الصورة انتقالٌ وتنقُّلٌ وحوارٌ مع الآخر، تؤثر وتصيغ موقفًا بأسرع ممّا تقوله الكلمة. لذلك تُبنى عليها رؤى وتصورات وخطب حماسية وبيانات وحذاقة سياسية. الصورة محرك للفعل الإنساني، وشاهد عصر، وانتماء إلى ما يجب، كما هي تحوّلٌ سلبي وإيجابي، وفعل نازي، وصرخة ضمير، وعمق إنسانيّ.

للصورة حضور مدهش. تجعلنا نهرع إلى الفرح، وإلى البكاء والآهة وإسدال الستار على نزيف جرح وفتح نافذة أمل. هكذا الصورة في عصر الفضاء المفتوح، لا حدود لها. هي لغة المشترك البشري، وهي الدليل على ما فينا منّا وعلينا. وهي نبت أيديولوجيا وفوضى وفعل أخلاقي ورقي إنساني.

الصورة لغة اللغة، مستودعها، زهرة المعنى، روعة المجيء، ولب الانتظار. هكذا هي تحصيلٌ مرّ لوجع أو حزن، كما هي إيقاع حركي لحياة ومستقبل. الصورة تدين شعوبًا، تكشف عن نازيتها (إسرائيل) نموذجًا. كما هي تعبير عن سموّ وكفاح ونضال وتوهُّج، وغدٍ يريده الإنسان (فلسطين) نموذجًا.

للصورة تداخلات عديدة تربكنا وتقلقنا وتجعلنا أيضًا نزهو ونفرح ونغامر ونقامر ونقول الكلام الذي يصيبه نزقنا. الصورة تكشف عن سجّان متعالٍ قامع، كما تلون الحياة بالجمال.

الصورة أبلغُ نطقٍ من الحروف، أكثر اقتدارٍ على مخاطبة المشاعر وعلى البوح والاحتجاج والرفض والقَبول. الصورة يعجز أمامها كلُّ خطباء الساسة، ورجال الدِّين مهمّا كانت بلاغتهم وخطاباتهم حماسية منطقية أو هادئة.

الصورة ضمير الإنسان في الإنسان. لكنها عند العرب أقل معنى. وتكاد تكون مغيبة. تاريخنا العربي لم يحفل بالصورة كفنّ يسمو بالإنسان. اعتمدَ ثقافة المشافهة؛ لذلك تاريخُه جلُّه مرويات وعنعنة. لعله برع في الشعر كثقافة مشافهة أيضًا، واهتمّ بالخطابة وتجويد الحرف وزخرفته والتفنُّن فيه. لكنه لم يمدّ البصر إلى الفنّ بذائقة عالية لم يكن يهتم بالصورة، لوحة جدارية، أو نحت، وقلَّ نتاجه لذات السبب في السينما والمسرح. وكل ما يتعلق بالصورة وهي حاضرة في العقل والوجدان. (القول) لدى العربي مقدَّم على الحفريات واستنطاق المعنى والتبصر له في المكان. السياق اللغوي هو الذي يسير فيه وينقحه، فيما هو باهت تمامًا في صناعة الشكل وفي إتقان الدلالة وخلق سيميائية في الأحفورات، أو في جغرافيا التكوين المعبرة عن وجوده وتواجده كفاعل ومنتج وبارع في التصوير.

الأشدُّ ألمًا أنّ ثمّة مُحرَّمًا جرى زمنًا طويلًا وما يزال، لدى الكثير من المتشددين حيال التصوير، فقد جعلوا من الفنان شيطانًا ليتشيطن معه المكان وتتصحر الحياة. لذلك ثقافة العربي لا تساعده في تأمل الصورة، في فاعليتها، في قدرتها على خلق رفض وقَبول واحتجاج وتأثير في اليومي. كما لا يفقه معناها كمساحة حرية وتعبير أشد كثافة وتركيزًا وقوة تمكُّن، من المروي في سياق ماضوي، هذا الماضوي المروي ربما أعاق القدرة على التنشيط الفكري، وعلى التجدد والانطلاق في فضاء الروح واستكناه الحلم، وجعله ماثلًا في الصورة بكل أبعادها وتجلياتها، وما تكشفه من مخزون هائلٍ بين الإنسان والمكان. وإذا الصورة تحريكُ وجدانٍ، وتنشيطُ فكرٍ، وكشفُ أبعادٍ مُهمّة فيما يتعلق بالحياتي ومسار تحولاته، لا تقدر عليها ثقافة (القول) وجزالة اللفظ، والمعاني المفروشة في الطريق التي قال عنها (الجاحظ)، وإنّما الشأن في تخيّر اللفظ.

لا شيء في ثقافة العرب أو على الأقل، في بطون كتب التاريخ، ما يَشِي بالحديث عن الصورة، عن التشكُّل، عن استنطاق مكامن الحَجَر، والفراغ، والبياض. الصورة هي القابعة هناك في صخرة أو فضاء، الفنان الريادي يستحضرها، يخلق توليفة غريبة بديعة مع الجغرافيا، يشكّلها، يجعل منها روحًا تتوقد جمالًا ونشاطًا.

الصورة أغزرُ فائدة ونضجًا واكتمالًا من المتخيل الكلامي. إنّها تجسيد معنى، تشكيل حياة، إضاءة روح. أخفق العرب حيالها وقد مضوا في مجمل نتاجهم نحو المرويات وجعلها حجّة على من بعدهم، وأنها منتهى ما وصل إليه العربي الذي ألف استبداد اللفظ، واعتقال العقل، والمضيّ نحو تخوم أخرى، خارج مناشط الإبداع وتجلياته وقدرته على منح الإنسان رافدَ ثقافةٍ حاضرة تمد البصر في خطوط اللون، وفسيفساء الحجر، وروعة التناغم بين الإزميل والروح والفعل الدلالي. لعلّ العربي أكثَرَ من غيابه في هذه العوالم فأنتج فنونًا أخرى، لكنها غير قادرة على كسر (التابو) إن لم تكن قد جعلته قوة قمع لأجيال، حتى لاحقة. يحتاج المثقف العربي إلى أن يقف أمام ثقافة المروي، ومفارقته مع الصورة وينتمي للمكان، قوة استبصار وحياة وفعل إرادة.

•••
محمد علي اللوزي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English