شفرة المعري في رواية (تقرير الهدهد)

مقبرة الذاكرة وجحيم الأحرار
بشير زندال
January 23, 2023

شفرة المعري في رواية (تقرير الهدهد)

مقبرة الذاكرة وجحيم الأحرار
بشير زندال
January 23, 2023

اهتمّت الشعوب بأدبائها ومفكّريها أيّما اهتمام، إذ نجد أسماء الجامعات وأسماء الشوارع، والمسارح الضخمة بأسماء كتّابها ومفكِّريها. كجامعة ديكارت في باريس، وجامعة بول فاليري في مونبلييه فرنسا. بالإضافة إلى الاهتمام بنتاجهم الفكري واللُّغوي، فنجد أعمالهم مقرَّرةً للدراسة في مختلف المراحل الدراسية، حتى إنّهم يقومون في الصفوف الابتدائية بإعادة صياغتها بما يتناسب مع المستوى العُمري لطلاب الابتدائية؛ لذلك لا نندهش إن عرفنا أنّ الأطفال في فرنسا يعرفون فيكتور هوجو أو لامارتين أو فولتير. بينما يعاني كتّابُنا ومفكِّرونا في التاريخ العربي من تهميش يتضح عندما تجد أنّ الجيلَ الحالي يجهلُ أسماء مُفكِّريه وكتّابه، إنّهم لا يعرفون ماذا كتب ابن رشد وما هي فلسفته، ولا من هو الحلّاج، أو ابن عربي، أو ابن سينا، ولا يعرفون (حي بن يقظان). 

ولولا أنّ المسرحية الشهيرة (مدرسة المشاغبين) ذكرت لفظة (مقدمة ابن خلدون)، لَمَا عرف بعضُ الشباب أنّ المقدمة هي لابن خلدون وإن كانوا لا يعرفون ما هي المقدمة ولا عن ماذا كتبت، ولا لماذا سميت مقدمة. 

تعتبر شخصية أبي العلاء المعري إحدى الشخصيات التي عانت من تجهيل وتعتيم شبه متعمد من تيارات دينية على مرّ تاريخ المعرفة باللغة العربية، وكان "رهين المحبسَين" قد بقيَ رهين الكتب أيضًا فلم تُحقَّق كتبه إلّا في طبعات قليلة، ولم تعطَ حقَّها من الدراسة والتعمّق في فلسفتها، وفي ثقافة هذا الشاعر صاحب (أقوى ذاكرة في التاريخ، بحسب صلاح فضل).

اهتمّ الروائيّ اليمنيّ المقيم في فرنسا، حبيب عبدالرب سروري، بهذه الشخصية التراثية العربية صاحبة المكانة الكبيرة جدًّا في الفكر العربي، بل والعالمي، وقد صدرت له عن دار الآداب رواية (تقرير الهدهد) عام 2012، قدّم فيها عملًا بديعًا بإمكان القارئ أن يرسم من خلاله صورةً شبه كاملة عن أفكار أبي العلاء المعري وفلسفته. 

تبدأ الرواية في مكانٍ كأنّه اللا مكان (مقهى الكوكبة في السماء السابعة والسبعين) مكان خرافي ليس على الأرض التي نعرفها، أو حتى السماوات السبع التي قرأنا عنها، سمّيَ المقهى بالكوكبة لأنّ هناك (ستة من أعظمِ مبدعي وعباقرة كوكبِ الأرض يرتادونه كلّ يوم: داروين، أينشتاين، كارل ماركس، فرويد، بيكاسو، وأبو العلاء المعري). يتم تكليف أبي العلاء المعري لكتابة تقرير (سيسمّونه: تقرير الهدهد) عن أوضاع العرب في العصر الحالي. 

يصل التكليف عن طريق (إس إم إس) يرسله (أمينيائيل) مدير مكتب (الأعلى جدًّا). وكان أمينيائيل هو الذي اقترح المعري لهذه المهمة، لأنّه معجب به. يعود أبو العلاء المعري إلى الأرض في أزمنة مختلفة لكتابة التقرير. 

كان المعري (حين نقرأ رواية تقرير الهدهد) مثلَ دافنشي (بحسب رواية شفرة دافنشي للروائي الأمريكي دان براون)، يدس أفكارًا مغايرة للأفكار الظاهرة في إنتاجه المعرفي، وإن كان دافنشي قد زرع شفرة في لوحة العشاء الأخير في كنيسة سانتا ماريا ديلي غراسي، في ميلانو إيطاليا. فالصورة تمثّل السيد المسيح مع حوارييه في العشاء الأخير، لكن دان براون اعتبر أنّ دافنشي قد رسم السيد المسيح مع مريم المجدلية وهما جالسان على هيئة "كأس". ليشكّلا الكأس المقدس، وأنّ أولادهما (معروف لدى كلِّ مؤرخي التاريخ أن المسيح لم ينجب أولادًا) هم من يحملون الدم المقدس في أجسادهم. 

يتناص حبيب عبدالرب مع هذه الفكرة في رواية تقرير الهدهد، حين يجعل المعري يدخل في قصةِ حبٍّ جميلةٍ مع "هند" التي تغيب إلى الأبد بعد أن حملت بابنته "نور". ستعود نور فيما بعد لتصبح إحدى أجمل الشخصيات في الرواية، وستتعلم على يديه، ستأخذ ذكاء أبيها وجمال أمها. يتناسل أحفاد هند إلى أن يصلوا إلى السارد الرئيس في الرواية (نبيل بدر سليمان التنوخي). وهو شخصية اخترعها الروائي وجعل منها حفيد أبي العلاء المعري من علاقته مع هند. ونعرف جيدًا أنّ المعري لم يتزوّج وليس له ذريّة، وهو صاحب الجملة الشهيرة: «هذا ما جنَاه أبي عليَّ، وما جنيت على أحد».

وكما في شفرة دافنشي استمرّت ذريّة المسيح إلى الآن، وتتستر الكنيسة الكاثوليكية عن هذه الحقيقة عن المسيحيين طوال 2000 سنة، تستمرّ ذريّة أبي العلاء المعري في إخفاء هذه الحقيقة مع احتفاظها بمخطوطات لرسائل هند إلى ابنتها نور، ونصوصٍ طويلة لنور سيسميها السارد نبيل سليمان (هوامش نورانية على رسالة الغفران)، أو (ما لم يكتبه أبو العلاء في رواية الغفران).

ربما كانت هذه الذرية السرية هي فلسفة المعري وآراؤه التي ظلّت مجهولة لدى شريحة كبيرة من المجتمع العربي. إنّها شفرة غاص فيها حبيب عبدالرب، فأوضح أنّ القراءة الظاهرة لرسالة الغفران تختلف جذريًّا عن القراءة الخفية لها. فالمعري في رسالة الغفران، كان يسخر من فكرة الأديان والرسالات السماوية، وهو القائل:

فلا تحسب مقال الرسل حقًّا  **  ولكن قول زور سطروه

وكان الناس في عيش رغيد  **  فجاؤوا بالمحال وكدروه

وأيضًا:

أفيقوا أفيقوا يا غواة، فإنّما  **  دياناتكم مكرٌ من القدماء

وأيضًا:

اثنان أهل الأرض؛ ذو عقل بلا  **  دين وآخر ذو دين ولا عقل له

فكيف لرجل بعمق وفلسفة المعري يتناول الأديان في لزومياته بهذه الصورة أن يقدّم في رسالة الغفران صورة الجنة والنار وكأنّ إيمانه بالمسلّمات الدينية لم يتزحزح، وكأنّه ليس هو من قال تلك الأشعار في اللزوميات.

سخر أبو العلاء المعري -في الرواية- من الجنّة ووضع فيها كل الشخصيات السلبية؛ شعراء نسوا شعرهم "من فرط انغماسهم في ملذات الجنة" (ص207)، فكلّهم صاروا سكارى لا يهمّهم إلّا الجنس والأكل، لا يتذكرون أبياتًا قالوها. وفي مشهد في الرواية تكتب نور في مخطوطها أنّ ابن القارح وجد أباها أبا العلاء المعري مع أمها هند "يلعبان في الجحيم الشطرنج بقطع من جمر"، وحين اندهش السارد نبيل سليمان كيف لنور أن تجعل أباها وأمّها يسكنان الجحيم ويلعبان بالجبر؟ تقول له أمه: "لعلك، يا حبيبي، لم تقرأ رواية الغفران، أو بالأحرى لم تفهمها!". لأنّ "الجنّة، من منظور أبي العلاء: مقبرة الذاكرة، والجحيم: وطن الأحرار" (ص 206). هنا إشارة واضحة إلى أنّ القارئ لا يمكن أن يفهم رسالة الغفران إلّا بفهم سياق الشفرات الساخرة التي دسّها المعري فيها.

لقد وضع كل الشخصيات الإيجابية في الجحيم؛ شعراء ما زالوا يحفظون أشعارهم في الجحيم، بدأ ببشار بن برد ثم امرئ القيس والأخطل والشنفرى وابن كلثوم وغيرهم من الشعراء الذين كان يحترمهم أبو العلاء. بل وتساءلت والدة السارد في حوار مع ابنها: "أتعتقد أنه سيقبل أن يسكن في الجنة مع ابن القارح والرعاع الذين أسماهم طرفة ابن العبد "الهمج والطغام" أم جهنم مع امرئ القيس وعنترة وصفوة الأحرار والمبدعين؟" (ص212). 

هي شفرة بحث عنها حبيب عبدالرب سروري في أعمال أبي العلاء المعري، وفكّك هذه الشفرة في خالدته رسالة الغفران. فاعتبر أنّ عبقرية المعري تتلخص في هذه الأبيات:

  1.  والذي حارت البرية فيهِ  **  حيوان مستحدث من جماد

الذي سبق به نظرة العلم وداروين، كما قلت، بثمانية قرون.

  1. اثنان أهل الأرض؛ ذو عقل بلا  **  دينٍ، وآخر ديّنٌ لا عقل له
  2. كذب الظن لا إمام سوى العقل  **  مشيرًا في صبحه والمساء

استدعى حبيب العديدَ من المفردات التي كان يستخدمها المعري في أشعاره، وخصوصًا في اللزوميّات (أصعب القصائد التي كتبت في العربية وأكثرها حكمة)، فاستخدم بكثرة مصطلح (الكتيبة الخرساء)، بل وجعله الكاتب الجملة المركزية في الرواية؛ لأنّ الكتيبة الخرساء ما هي إلّا المجتمع العربي الذي كان يصفه المعري بالأخرس. الكتيبة الخرساء التي أرقت الأعلى جدًّا فأمر أمينيائيل بإرسال أحد المقربين لكتابة تقرير عن أسباب تأخرها بين الأمم، كانت هذه الكتيبة الخرساء هي موضوع الرواية الظاهر، هذا المجتمع العربي الذي لم يتقدّم ولم يستخدم العقل كإمام في الحياة. كانت أيضًا جملة (لا إمام سوى العقل) التي أخذها الكاتب من إحدى أبيات المعري، دستورَ حياة يرى الكاتب أن لا حلّ إلّا بانتهاجه. 

"لا إمام سوى العقل" سيصبح فيما بعد عنوان كتابٍ لحبيب عبدالرب سروري، سوف يصب فيه خلاصة آرائه حول إشكاليات المجتمع العربي واليمني، ويعتنق فيه فلسفة المعري بأنّ العقل لا إمام غيره وبأنّ المجتمعات لن تتقدّم إلّا باستخدامه هو دون غيره. 

أمّا زمن الرواية فقد رسمه حبيب عبدالرب في خطٍّ معاكس لتقرير ابن القارح الذي أرسله المعري في زيارة إلى آخر الزمن لكتابة تقريرٍ له عن الجنة والنار ومن سكنها. بمعنى أنّ رحلة ابن القارح انطلقت من زمن المعري إلى آخر الزمان ونهايته في الجنَّة والنَّار. بينما انطلقت رواية حبيب ورحلة المعري فيها من نهاية الزمان في السماء السابعة والسبعين إلى زمن المعري، بل وإلى بداية الزمان مع الانفجار العظيم. 

واختلفت رحلة سروري عن المعري في أنّ الأخير رافَقَ ابن القارح في رحلته، بينما لم يرافق حبيب (أو أمينيائيل العاشق للمعري كحبيب عبدالرب) المعري في رحلته إلى الأرض أو (أمّ دَفْر) كما كان يدعوها المعري. 

بعد أن تنتهي الرواية، يعرف القارئ، الذي كان يجهل أبا العلاء المعري، لماذا وضعه حبيب عبدالرب في مقهى الكوكبة ضمن ستة هم أعظم شخصيات في التاريخ. 

لقد انتصرت الرواية لأبي العلاء المعري ولفلسفته وفِكره، وقدّم حبيب قراءة ما وراء السطور لعمل المعري الأشهر (رسالة الغفران). قراءة مغايرة للقراءة الظاهرة، قراءة يجب أن تشغل الناس دهرًا حين يغوصون كما فعل حبيب عبدالرب في أعمال المعري.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English