هشام علي والكتابة المتعددة والمغايرة (1-2)

عن المثقف وحدود الوظيفة العامة
محمد عبدالوهاب الشيباني
December 2, 2021

هشام علي والكتابة المتعددة والمغايرة (1-2)

عن المثقف وحدود الوظيفة العامة
محمد عبدالوهاب الشيباني
December 2, 2021

حتى مطلع العام 1987، لم يكن هشام علي بن علي معروفًا بما فيه الكفاية، في أوساط المثقفين اليمنيين، في جنوب البلاد أو شمالها، وإن كان معروفًا في الأوساط العلمية في كلية التربية العليا بعدن، حيث كان يعمل مدرِّسًا في أحد أقسامها العلمية الدقيقة (قسم الفيزياء)، منذ تخرجه من جامعة بغداد في العام 1980. والقلة القليلة يعرفون أنه صاحب كتاب ذي بعد ثقافي، يحمل اسم "الثقافة في مجتمع متغير"، أصدره، قبل ذلك بثلاث سنوات، وضمَّنه مجموعة مقالات مختارة، نشرها في الدوريات والصحف، أبكرها ذلك الذي نشره في مجلة "الثقافة الجديدة" بعنوان "ظاهرة الثقافة في مجتمعات متأخرة" في العام 1978.

قال لي أحد الأصدقاء المنشغلين بقضايا الثقافة والإعلام، إنه حينما تم تعيين هشام علي مساعدًا لنائب وزير الثقافة والإعلام في العام 1987، تساءلنا كثيرًا عمن يكون هذا الشخص الذي أتى به الدكتور محمد أحمد جرهوم، وزير الثقافة والإعلام حينها، من خارج الوسط الثقافي والإعلامي، ومن خارج معادلة أحداث يناير الدامية. وإن كنا نعرف شقيقه الأكبر الشاعر والصحافي المعروف مختار علي بن علي، لكننا بعد فترة وجيزة، بدأنا ندرك قيمة الرجل، وأفقه الثقافي المتفرد غير المقولب بشعارات الأيديولوجيا.

على مدى ثلاثين عامًا، من ذلك التاريخ، بقي هشام يشغل موقع وكيل وزارة الثقافة دون أن يمتصه هذا الموقع، بل إنه زاده توهجًا وإنتاجًا فكريًّا؛ لأنه كان يعي الحدود الرفيعة بين الوظيفة العامة ودور المثقف في الحياة العامة، والتي لخصها، بقوله:

"المثقف الذي يؤمن بدوره الحقيقي كمثقف، لا يلتزم حدود الوظيفة العامة، وإن كان للوظيفة متطلبات وشروط، ربما تؤثر في الأداء الفكري للمثقف؛ لأنها تأخذ من وقته وجهده الكثير، لكن الدور الذي ينبغي أن يقوم به المثقف في المجتمع [يجب] ألَّا يتأثر بالوظيفة، لأن الوظيفة قد تكون إحدى الوسائل لعزوف المثقف عن الحياة العامة، وبالتالي إذا استسلم لهذا الشرط فإنه يخرج عن مهنته الأساسية كمثقف، وعن دوره في المجتمع"(1).

خلال ثلث قرن، كان له حضوره المختلف، ولصورته كمثقف "ثقل كبير على صعيد الفكر والتنوير والإنتاج ذي القيمة المعرفية، وهو [بذلك] غاير اعتيادًا دأب عليه الغالبية من أصحاب هذا الشأن في اليمن، مما جعل مغايرة ظهوره معادلًا موضوعيًّا لمغايرة إنتاجه، فكانت المعادلة لصالحه حتمًا، ولن تقف به السبل عند هذا الحد، بل سيتخذ المغايرة والتغيير نظامًا شموليًّا ومنهجًا إجرائيًّا له كمثقف(2).

وُلد هشام علي بن علي في مدينة الشيخ عثمان بعدن في العام 1952، ورحل في العاشر من ديسمبر 2017، بصنعاء، عن 65 عامًا. وقت رحيله كانت الحرب في ذروتها، والتي رآها، بمبصرات القارئ ونباهته، خليطًا من حروب اليمنيين مجتمعة، وهي بصورتها الدموية هذه "تستعيد كثيرًا من الحروب التي مرت بها اليمن خلال القرن الماضي، منذ بدايات الحركة الوطنية ضد النظام الإمامي وضد الاستعمار؛ حروب الثورة والثورة المضادة، حروب الملكيين والجمهوريين، حروب اليمين واليسار، حروب الشمال والجنوب، حروب الجبهة الوطنية والنظام الحاكم، وغيرها من الحروب الطائفية والقبلية والأيديولوجية. الحرب الراهنة جمعت كل هذه الحروب التي مرت بتاريخ اليمن، منذ بدايات الثورة ضد الإمامة والاستعمار حتى قيام الوحدة..."(3).

قبل رحيله بأشهر ثمانية فقط، كان شاهدًا على:

"دعوات الانفصال والإمامة والطائفية، والحلم بعودة الاستعمار وغيرها من الدعوات الماضوية، كأن [المتحاربين] يعلنون براءتهم من تاريخ الثورة والوحدة والتغيير، ويدعون للعودة إلى يمن القرن التاسع عشر، بكل أشطاره وسلطناته وإماراته وطوائفه وقبائله، وغيرها من مظاهر التفكك والتفتيت التي حاولت الثورة تغييرها وبناء يمن واحد موحد"(4). 

لم يعد قارئ اليوم، غير المتخصص وربما السياسي، شغوفًا بمادة عنوانها "لينين وظاهرة الثقافة"، لكن قد تستهويه عناوين مثل "غرامشي وتنظير العلاقة بين المجتمع والثقافة". ومثل المقاربات الأخيرة، صارت بانفتاحاتها واحدة من ملامح الكتابة الثقافية عن هشام خلال العقود الثلاثة التالية.

دأبه الطويل أنتج حالة مختلفة للمثقف غير المستكين، الذي باستطاعته إحداث الفارق والمفارق بواسطة الكتابة المتجددة؛ أما اشتغالاته المتنوعة على موضوعات فكرية وبحثية وتاريخية مختلفة، فقد وسمته بالمثقف الوحيد في المؤسسة الرسمية. بمثابراته أنتج اتصالًا واعيًا بالحالة الثقافية بتجلياتها القائمة. كتب في السرد والتاريخ والنقد والثقافويات، بوعي تنظيري مجتهد، لُمّت أكثرها في قرابة خمسة عشر مؤلفًا، نحاول هنا تقريبها، بكثافة عرضية، لأهميتها وجودتها العالية. 

***

تحيل مفردات كتاب "الثقافة في مجتمع متغير"، الصادر في العام 1984، القارئ إلى المزاج الكتابي الضاغط الذي طبع توجهات المشتغلين في حقل الثقافة آنذاك تحت اللافتات الأيديولوجية، فكان مثل غيره من الكتابات التنظيرية، تعبيرًا حيًّا عن المرحلة التي استوجبت مثل هكذا اشتغالات. استخدام أدوات المنهج المادي في تحليل الظواهر الثقافية والفكرية، وما رافق ذلك من استخلاصات شعاراتية جاهزة، أفقد -في أحايين عديدة- الأفكار المعالجة، الكثير من حيوية التلقي بمقاييس القراءة المتحققة الآن، فلم يعد قارئ اليوم، غير المتخصص وربما السياسي -حسب اعتقادي- شغوفًا بمادة عنوانها "لينين وظاهرة الثقافة"، لكنه بالتأكيد قد تستهويه عناوين مثل "غرامشي وتنظير العلاقة بين المجتمع والثقافة"، أو "المثقفون ومواجهة التأخر". ومثل المقاربات الأخيرة، صارت بانفتاحاتها واحدة من ملامح الكتابة الثقافية عن هشام خلال العقود الثلاثة التالية.

في كتاب ثانٍ أسماه "فكر المغايرة؛ مقاربات أولية في الحداثة والنقد"، وصدر عن وزارة الثقافة 1990، سيتخفف كثيرًا من حمولات الأيديولوجي وضغوطاته المنهجية، متتبعًا مسارات ثقافية لم تعد مقارباتها أخطاء يقينية، بفعل التحولات العاصفة التي شهدها العالم. لهذا سيكون مقال "خطاب الثقافة" في الكتاب، موجِّها حيويًّا في تفكيك يقينيات الأيديولوجي، لصالح النقد الثقافي المدرسي. صحيح أن هذا الكتاب سينقاد إلى موضوعات الأدب في الغالب، لكنه سيؤسس لصاحبه توجهًا تنظيريًّا سيلازمه في معظم كتبه التالية. أما أخطر موضوعات هذا المؤَلف، فهو الذي حمل الكتاب عنوانه "فكر المغايرة؛ قراءة في بيانات الحداثة العربية"، لمقارباته الذكية لمفردات تشير إلى رغبة التحول في مجتمع مكبل بالتقليد والمحافظة. أما الخوض في موضوعات النقد وقراءاته، فكانت تنويعات على الفكرة الرئيسة المُشتغل عليها على نحو "أوهام المعاصرة " و"الظواهر الجديدة في الشعر اليمني" و"النقد العربي والاتجاهات المعاصرة". 

فعل الكتابة- الرواية عند هشام، هو التعبير الكتابي الواعي لتحولات المدينة وريادة الطبقة الوسطى في قيادة المجتمع إلى أفق العلاقات ما بعد القروية والقبلية، رغم أن الريف وقضايا المهاجرين الريفيين ظل هو المشغل الحي لفعل الكتابة.

في كتابه "الخطاب الروائي في اليمن- 1998"، والذي يعتبره تجميعًا لإشارات متنوعة ومتعددة لمقاربة هذا الجنس الأدبي الوليد في أدبنا المعاصر، ينطلق من السؤال شائع التردد: هل لدينا رواية في اليمن؟! أما الإجابة عن سؤال مثل هذا، ستكون بقوله إن تطور الرواية في العقود الأخيرة يشير إلى نمو هذا الفن، سواء من حيث الكم أو من حيث البناء الكمي. ولأن الرواية هي التعبير الجلي لتطور المجتمع الحديث أو ابنته كما يقال، فهي تعبر عن تحوله من جماعة مغلقة وكلية ومتماثلة وثابتة، إلى مجتمع مركب ومتفجر، مكون من طبقات وفئات وأفراد ومصالح ومشاريع متعارضة ومتصارعة. وتبدأ الرواية، كعمل إبداعي، عندما يفقد المجتمع سكونه التقليدي وتراتبيته وهامشية قواه. في هذا الكتاب يتتبع التحولات النوعية للكتابة السردية، ابتداء من رواية "فتاة قاروت"، التي أصدرها في "جاوة" الإندونيسية المهاجر اليمني أحمد عبدالله السقاف أواخر عشرينيات القرن العشرين الماضي، واعتبرها الكثيرون الممهد الأول للكتابة السردية، التي ستتثبت كفعل ريادي عند محمد علي لقمان، صاحب رواية "سعيد" التي أصدرها أواخر الثلاثينيات في مدينة عدن، وأفرد لها هشام مادة أساسية في الكتاب بعنوان: "سعيد وبداية الكتابة الروائية في اليمن". أما في رواية "صنعاء مدينة مفتوحة" لـمحمد عبدالولي، سيطرق هشام العمل من باب الفضاء الروائي الذي يعرف بأنه الحيز الزماني الذي تتمظهر فيه الشخصيات والأشياء ملتبسة بالأحداث تبعًا لنوعية الجنس الأدبي ورؤية الكاتب الفلسفية. وفي زمن السرد في الرواية ذاتها، الذي أفرد له فصلًا مستقلًّا، اعتبر الازدواجية القائمة وفعل الكتابة- الرواية عند هشام، هو التعبير الكتابي الواعي لتحولات المدينة وريادة الطبقة الوسطى في قيادة المجتمع إلى أفق العلاقات ما بعد القروية والقبلية، رغم أن الريف وقضايا المهاجرين الريفيين ظل هو المشغل الحي لفعل الكتابة.

في كتابه "عبدالله محيرز وثلاثية عدن"، أعاد هشام التعريف بمتلازمة عدن وعبدالله محيرز- أستاذ الرياضيات المهووس بالتاريخ، والذي استطاع تجسيم الصورة الأنصع عن المدينة كجغرافيا وتاريخ، أثّثهما الإنسان بتطويعه الطبيعة القاسية، لخلق أجمل مدن المشرق، الذي كان حلم الإقامة فيها ترفًا ذات يوم. فمن خلال "قلعة صيرة" و"صهاريج الطويلة" و"باب عدن"، سيتمدد تاريخ المدينة سهلًا طيعًا، خارجًا من بطون الكتب ومخطوطات المؤرخين ومدونات الرحالة، بفطرة لا يمتلكها سوى عاشق مثل محيرز، الذي ذرع جبالها ووديانها مشيًا على القدمين حين كان طالبًا يلتمس الهدوء والسكينة في "أبو الوادي" أو عند "معجلين" أو في "رأس معاشيق"، وحين بلغ مبلغ الشباب، فانحدرت به خطواته نحو الأودية غير المأهولة في "جولد مور" أو سار متتبعًا آثار الوادي الكبير في "الحسوة" و"رباك " أو في "العماد" و"الشيخ عثمان". وحين اجتاز مصبات الأودية عند البحر، راح يتتبع اتجاه الماء القادم من الشمال، فعبر الضالع متجهًا إلى (قعطبة) على ظهر حمار كان دليله الوحيد لعبور الطريق من الجنوب إلى الشمال، حينما كانت الحدود الوهمية مصطنعة بفعل السياسة.

لم يكن اختيار عبدالله محيرز عدن، كموضوع للبحث والتفكير والكتابة التاريخية، ينطلق من المناطقية الضيقة أو الأفق المحدود، وإنما هو نهج للتفكير العلمي الذي يبحث في الجزئيات ليكتشف الكليات، كما يقول.

(يتبع)

_________________________

(1) ينظر كتاب "أجنحة الكلام وفضاء الأسئلة"، أحمد الأغبري، ص 386.

(2) الثقافة والمثقف عند هشام علي، صلاح الأصبحي.

(3) و(4) ينظر حوار أجراه القاصّ وجدي الأهدل- كتاب هشام علي بن علي؛ كاتبًا ومفكرًا وإنسانًا، ص 184.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English