حاتم الجوهري ونظرية إعادة التوظيف

الثقافة لا الحضارة هي الرهان ومحك التحدي
أ.د. قاسم المحبشي
November 17, 2020

حاتم الجوهري ونظرية إعادة التوظيف

الثقافة لا الحضارة هي الرهان ومحك التحدي
أ.د. قاسم المحبشي
November 17, 2020
© شهدي الصوفي

   ضمن العدد التاسع عشر من مجلة الفكر المعاصر الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتابة، قبل أربعة أسابيع، لفت نظري مقال الدكتور حاتم الجوهري، المنشور في ملف "الظاهرة الحضارية الآن: محددات القوة والتدافع للمستقبل". وهو الملف الذي كان لي ورقة بحثية فيها عن: "صدام الحضارات أم حوارها؟". دراسة الدكتور حاتم بعنوان "الحضارة والتراث: سياسة ثقافية جديدة لإعادة التوظيف؛ إطار نظري ونموذج تطبيقي"، قرابة عشرين صفحة من القطع الكبير من ص ١٥٧ إلى ص ١٧٩. تنطلق من الأزمة الراهنة التي يعيشها كل العالم المعلوم بسبب فيروس كورونا كوفيد-١٩، إذ لم يحدث في تاريخ الاجتماع الإنساني منذ حواء وآدم وأنت طالع، أن توحد العالم كله كما وحده اليوم فيروس كورونا! "فمن الذي كان قبل بضع سنوات يعرف ماذا يدور في الصين؟ ومن الذي كان يتوقع أن فيروسًا مجهريًّا يمكنه أن يربك المشهد العالمي من رأسه حتى أخمص قدميه؟ ومن الذي كان يتخيل أن مكة المكرمة تخلو من الزائرين وكذلك المسجد النبوي الشريف؟ ومن الذي كان يخطر بباله أن المساجد والمدارس في بلاد العرب والإسلام تغلق أبوابها في عز النهار؟ ومن الذي كان يتخيل أن أمريكا بكل جبروتها ترتعد فرائصها من فيروس كورونا؟ ومن الذي كان يتخيل أن ينتشر وباء فيروسي من أقصى شرق الكرة الأرضية إلى أقصى غربها في بضعة أيام؟ مع كورونا تساوت جميع الحضارات وانتهت أساطير الاختلاف بين الغرب والشرق والشمال والجنوب والمركز والهوامش؛ إذ بات العالم كله معلّقًا بين قوسين، في لحظة فنومنولوجية لا سابق لها، وذلك هو التحدي الذي يواجه جميع شعوب ودول الدنيا. 

     والسؤال الملحّ الآن هو ماذا بوسع العرب اليوم فعله في مواجهة هذا التحدي؟ هذا هو السؤال الذي حاولت ورقة الدكتور حاتم الجواب عليه. لا شيء يمكن انتظاره غير إعادة توظيف التراث باتباع سياسات جديدة. التراث بوصفه ذلك الكنز الثقافي الزاخر بكل عناصر وفعاليات القوة والحياة بما يشتمل عليه من المكونات الثقافية والتاريخية الحية المنتقلة من جيل إلى جيل، ومن الماضي إلى الحاضر، وتكون لها خاصية التأثير في قيم الحياة والأفكار والمفاهيم والتصورات والعلاقات والممارسات، فهو مستودع الهوية المتوارثة منذ آلاف السنين. 

    هكذا كتب في مستهل ورقته: "يمكن القول إن هذه الدراسة تطرح فرضية وغاية جديدة في مقاربة التراث وعلاقته بالحضارة، تتمثل في: الإدارة الثقافية للتراث وتعظيم دوره الحضاري، من خلال العنوان الجامع: "إعادة توظيف التراث" لخلق النمط الثقافي المصري/ العربي مجددًا في عالم ما بعد "جائحة كورونا" وتجاوز أثر "المسألة الأوروبية"، وفق سياسة ثقافية جديدة بالعنوان ذاته، تتخذ منهج "تشكيل النمط" الثقافي سبيلًا، وتتجاوز مرحلة الدراسات الوصفية التي ارتبطت بتوثيق التراث ورصد سمات "النمط". بما يجعل هدف البحث من هذه السياسة الثقافية هو إعادة خلق وتكوين الهوية الجماعية المصرية/ العربية واستعادة سماتها المتفردة، في خضم عالم يبحث عن النماذج الحضارية الصاعدة فيما بعد الجائحة" [ينظر، حاتم الجوهري، مجلة، الفكر المعاصر١٩، ص١٥٨- ١٥٩].

    ولا غرو أن هذا الطرح الجديد لجدلية الحضارة والتراث ينتمي إلى حقل الدراسات الثقافية التي أزهرت في السنوات الأخيرة على تخوم العلوم الإنسانية والاجتماعية.

    وهي نسق من الدراسات جعلت من الثقافة بما هي القوة الإبداعية في التاريخ علمًا وأدبًا وفنًّا، رهانها الرئيس؛ نعم هي الثقافة التي تبقى بعد نسيان كل شيء! وهي مستودع الممكنات ومورد الإبداعات. والتراث هو عمودها الفقري بوصفه خلاصة تجارب الحياة والممارسات في مختلف المجالات، في الزراعة والعمارة والصناعة والفنون الشعبية والأزياء والقيم والعادات والتقاليد والأعراف والعلاقات والقيم والرموز، وكل ما يتصل بحياة الناس بوصفهم أعضاء في المجتمع. تضمنت الورقة نقدًا منهجيًّا عقلانيًّا لعملية التحديث العشوائي التي حاولت محاكاة النمط الأوروبي الغربي بكل حذافيره، كما انتقدت النظرة الرومانسية التقديسية للموروث والتراث بحافز الحنين للماضي الأصيل!

تضم إعادة التوظيف المباشر للتراث، مجموعة العادات والعناصر الثقافية التي يمكن اختيارها، وإعادة دمجها في الحياة المعاصرة، وقد يشمل هذا، مجموعة من الأكلات الشعبية وتقاليدها وإعادة تقديمها في ثوب معاصر جديد بالاتفاق مع سلسلة مطاعم محترفة وطهاة بارعين، مع الحرص على تقديمها في شكل جديد

  "في حقيقة الأمر، وبمزيد من التدقيق، فإن مقاربة إعادة إنتاج التراث ومنهج الدراسات الوصفية التحليلية التي تقوم على القدرة الذاتية للتراث وعناصره في الاستمرار والتطور ورصدها، سنجد أنها ترجع في الأصل إلى السياق الأوروبي عند العالم الفرنسي "بيير بورديو" حول إعادة الإنتاج الذاتي للتراث ونسقه في أوروبا، من ثم سنجد أن "إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم"، هذا عنوان كتاب "لبورديو" كتبه بالاشتراك مع "جان كلود باسرون" [المنظمة العربية للترجمة 2007]. 

    نعم أخفقت عملية المحاكاة ونظرية إعادة الإنتاج للتراث، وهذا ما يستدعي طرح نظرية جديدة حان وقتها هي نظرية "إعادة التوظيف للتراث"؛ التي تتمحور حول خلق وتشكيل بدائل جديدة للناس وتقديمها لهم من قبل الدولة في سياسة ثقافية تستهدف استعادة وخلق الطابع الحضاري المميز للبلاد في فترة ما بعد "جائحة كورونا"، ويجب على هذه البدائل التي ستشكل النمط الثقافي/ الحياتي الجديد، أن تؤدي وظيفية نفعية للناس يسهل معها قبولها والتكيف مع النمط الثقافي الجديد، حيث إن مجموعة "البدائل الثقافية يُقصد بها مجموعة العناصر الثقافية التي يطرحها المجتمع كبدائل تؤدي الوظائف نفسها"، وتتكون عناصرها على النحو التالي:

إعادة التوظيف المباشر:

    ويضم مجموعة العادات والعناصر الثقافية التي يمكن اختيارها، وإعادة دمجها في الحياة المعاصرة لوجود وظيفة مباشرة يمكن أن تقوم بها في الحياة المعاصرة، وقد يشمل هذا المجال مثلًا، مجموعة من الأكلات الشعبية وتقاليدها وإعادة تقديمها في ثوب معاصر جديد بالاتفاق مع سلسلة مطاعم محترفة وطهاة بارعين، مع الحرص على تقديمها في شكل جديد، وما قد يتطلبه ذلك من إضافات وتعديلات على العنصر الثقافي الأصلي ليواكب الوظيفة الجديدة واشتراطاتها الآنية في العصر الحالي، وتضم الفنون الشعبية، الأزياء، الأطعمة، الطب البديل وغيرها. 

اعتماد الصناعات الثقافية والإبداعية التراثية:

    وهنا في نطاق إعادة توظيف التراث سوف نعطي للصناعات الثقافية تعريفًا يربطها بما يهمنا في مجال التراث وعناصره المختارة لإعادة التوظيف، وكذلك سنُعرّف الصناعات الإبداعية في نطاق إعادة توظيف العناصر التراثية أيضًا، وسوف نترك باقي التعريفات والنطاقات الأخرى لسياقاتها، وإن كان من الممكن التداخل مستقبلًا وفي مرحلة تالية. فهنا –كمرحلة أولى- سنربط الأمر بالعناصر الثقافية التي تهتم بالعلاقة بين الخامات المحلية المتوفرة وبين الحرف اليدوية الشعبية المرتبطة بها، والعمل على استعادة وتعزيز الحرف التي تفعّل الخامات الطبيعية الموجودة بمجموعة البيئات المحلية، وتحويلها إلى صناعة واسعة عن طريق المشاريع الصغيرة ذات خط الإنتاج المتجانس، لتقدم خطًّا إنتاجيًّا عريضًا وكافيًا لخلق طلب كبير. تشمل الدمج بين حرف تراثية عدة واستحداثها بشكل مبتكر ومعاصر على اعتبار أن تاريخ الفنون أصلًا قائم على الدمج والاستعارة بين وحدات مختلفة الأصل والمكان والزمان، ليعطينا في كل مرحلة روحًا جديدة، حيث يمكن التركيز "على أسلوب النمو من خلال التقاليد. هذا الأسلوب هو عبارة عن صهر جزيئات من القيم الجمالية لأعمال التراث بعد دراستها دراسة عميقة، مع جزيئات من الحسّ الفني المعاصر المبني على التجربة والمران في عملية الإبداع الفني"، فمثلًا، يمكن الدمج بين صناعة البُردي الثقافية النمطية، وتحويلها لصناعة إبداعية تشتهر بمنتجاتها، عن طريق دمجها بفن الخط العربي والزخرفة الإسلامية".

السياسة الثقافية الجديدة لإعادة توظيف التراث ستراعي الاستفادة من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالنشاط الثقافي التي وقعت عليها الدول العربية، بحيث يمكن تكييف النطاقات الثلاثة للنظرية، لتدخل ضمن بروتوكولات تلك الاتفاقيات جزئيًّا أو كليًّا

فنون الأداء والاتصال الجماهيري المباشر:

    نظرًا لعلاقته بالمجال العام والاتصال الجماهيري المباشر، وتشكيل الوعي والثقافة من خلال مجموعة من الآليات المتكاملة المباشرة، وفيه يعود دور التراث في علاقته المباشرة مع الناس من خلال الساحات المكشوفة والمسارح الصغيرة والمهرجانات المتنوعة لفنون الطهي والتذوق، حيث سيشمل في تعريفه معظم الفعاليات التي تقدم للجماهير من خلال العناصر الثقافية المختارة، لتوظيفها في فنون الأداء الجماهيري، بهدف الجذب والترويج وإعادة النحت والتشكيل المباشر للوعي وذاكرة الإنسان المعاصر. وهذا أكثر المجالات الثلاثة استحقاقًا للعمل في الإدارة الثقافية للتراث. 

دمج مجالات إعادة التوظيف في البروتوكولات الدولية المعنية

    السياسة الثقافية الجديدة لإعادة توظيف التراث ستراعي الاستفادة من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالنشاط الثقافي التي وقعت عليها الدول العربية، بحيث يمكن تكييف النطاقات الثلاثة التي ذكرناها سابقًا لمشروع إعادة توظيف التراث، لتدخل ضمن بروتوكولات تلك الاتفاقيات جزئيًّا أو كليًّا، خاصة اتفاقيات اليونسكو المبرمة عام 2003، لصون التراث الثقافي غير المادي، واتفاقية 2005، لحماية التنوع الثقافي، ومعايير الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وشروطها، واتفاقيات الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي؛ "كل ذلك يعتمد على السياسية الثقافية للدول التي تهدف بكل وضوح إلى التدخل من قبل الدولة ومؤسساتها الثقافية لإعادة تشكيل النمط الثقافي/ الحياتي السائد في مصر والبلدان العربية، وتجاوز إطار الدراسات الوصفية أو التحليلية التي تقف عند رصد سمات النمط الثقافي وخصائصه لقطاع جغرافي لإطار التراث والعادات والتقاليد الموروثة. وفي هذه الحالة تعمل الدولة كمركز لصنع وتشكيل النمط السلوكي/ الثقافي/ الحياتي/ الهوياتي، مقدمة النموذج الذي قد تندرج فيه وتساعد في عمله وتشكيله، المؤسسات غير الحكومية. فدور الدولة هنا يكون هو الأساس ومركز وماكينة صنع النمط الثقافي ونحت ملامحه، فهنا "تعتبر السياسات الثقافية أحد مسؤوليات الدولة بالأساس، ففي أغلب الأحيان تكون الدولة هي المطبّق لتلك السياسات". 

    تلك لمحة سريعة عن مشروع إعادة توظيف التراث المصري العربي بتفعيل السياسة الثقافية للدول العربية بوصفها- أي السياسات الثقافية- مجمل الخطط والأفعال والممارسات الإدارية والمالية التي تهدف إلى سد الحاجات الثقافية لبلد أو مجتمع ما.

    وهكذا تنفتح الدراسات الثقافية على طيف واسع ومتنوع من المجالات الاجتماعية.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English