مرحلة في اليمن سادها التعذيب والإخفاء القسري

الحلقة السادسة من مذكرات القيادي الناصري حاتم أبو حاتم
August 30, 2022

مرحلة في اليمن سادها التعذيب والإخفاء القسري

الحلقة السادسة من مذكرات القيادي الناصري حاتم أبو حاتم
August 30, 2022

في الحلقة الماضية (الخامسة)، تحدّث اللواء حاتم أبو حاتم عن وقائع حركة 15 أكتوبر 1978، وفشل الانقلاب ضد الرئيس علي عبدالله صالح؛ في هذه الحلقة السادسة من مذكراته الحوارية مع "خيوط"، يتحدث اللواء أبوحاتم عن مرحلة ما بعد فشل الحركة واعتقال الناصريين وعمليات التعذيب والإعدام والإخفاء القسري، ومصير التنظيم الناصري بعد عام 1978.

حاوره: عبدالله مصلح

مرحبًا باللواء حاتم أبوحاتم، نود في بداية هذه الحلقة أن تحدثنا عن مرحلة ما بعد حركة عام 1978؟

أولًا، في الحلقة الماضية أنا أخطأت في بعض الأسماء، قلت بأن حمود ناجي هو عضو المجلس العسكري لحركة 15 أكتوبر 1978، والصحيح هو اللواء الدكتور حمود عبدالجبار، وليس حمود ناجي. أيضًا أنا ذكرت أن محمد المرزوقي كان عضو المجلس العسكري، ولم يكن كذلك، وإنما كان في غرفة العمليات ليلة تنفيذ الحركة. 

بالنسبة لمرحلة ما بعد فشل حركة 15 أكتوبر 1978، فقد قامت السلطة بشنّ حملات اعتقالات واسعة، شملت الكثير من العسكريين والمدنيين، فيما تمكّن البعض من الفرار ومغادرة العاصمة صنعاء، مثل: عبدالله سلام الحكيمي، وعبدالقدوس المضواحي، وعبدالغني ثابت، وغيرهم من المدنيين، وكذلك تمكّن عددٌ من العسكريين من الفرار، مثل: نصار علي حسين، وعلي عطيفة الميموني، وحاتم أبوحاتم، ومحمد حسن دارس، وغيرهم.

كم عدد الذين تم اعتقالهم؟ 

الذين تم اعتقالهم يتجاوز عددهم خمسة آلاف شخص من العسكريين والمدنيين الناصريين والبعثيين واليساريين الاشتراكيين، وتعرّضوا لشتى أنواع التعذيب، وتم إعدام العشرات منهم، وبعضهم تم إخفاؤهم، وبعضهم تم الإفراج عنهم.

برأيك؛ لماذا تم اعتقال الاشتراكيين والبعثيين، رغم أنّ جميع المنفذين لحركة الانقلاب من الناصريين؟ 

تم اعتقال البعثيين؛ لأنه كان هناك إشاعة تقول بأنّ البعثيين يخططون لتنفيذ حركة انقلابية، وأعتقد أنه كان هناك تنسيق بين الناصريين والبعثيين، لكنه تنسيق محدود جدًّا، وكان عبر الشهيد عبدالسلام مقبل، الذي تواصل مع البعثيين وقدّموا مساعدة للتنظيم. وهذا ما سمعته؛ لأنّ العمل وقتها كان سريّ للغاية، حتى إنّ الكثير من قيادات التنظيم الناصري لم نكن نعرفهم إلا بأسماء حركية، وليس بأسمائهم الحقيقية.

  • الهدف من إخفاء جثامينهم هو الإمعان في تعذيب أهاليهم، إلى درجة أنّ هناك زوجات يعتقدن إلى اليوم أن أزواجهن ما زالوا أحياء، وبعض أهالي المعتقلين تعرضوا لعمليات نصب وأُخِذت منهم الكثير من الأموال مقابل إعطائهم معلومات عن ذويهم المعتقلين، وفي نهاية الأمر لم يعطوهم معلومات، ولم يعيدوا إليهم الأموال

وأتذكر أنني بعد فترة طويلة التقيت بالأخ عبدالرحمن مهيوب (الله يرحمه) لأول مرة في منزل الأخ عبدالقدوس المضواحي، والذي عرّف كلًّا منّا بالآخر، وعندها تفاجأ عبدالرحمن مهيوب، وقال لي إنهم ظلّوا يعذبونه لمدة شهرين من أجل أن يعطيهم معلومات عن حاتم أبوحاتم الذي لم أكن أعرفه.

وماذا عن اليساريين الذين تم اعتقالهم؟

بالنسبة لليساريين كانت سلطة صنعاء تعتبرهم أعداء، خاصة بعد استقبالهم للناصريين في الجنوب، ابتداء من عبدالله عبدالعالم وغيره. ولهذا تم اعتقال اليساريين أو الاشتراكيين وتم إعدام ستة أشخاص منهم، وهم سلطان أحمد القرشي وجماعته.

ملاحقات وتعذيب

هناك من يصف عمليات تعذيب المعتقلين بأنها الأسوأ على مستوى الوطن العربي؛ فهل كانت هذه حقيقة أم يوجد بعض المبالغة؟ 

بالتأكيد تعرّض الكثير من المعتقلين لأبشع أنواع التعذيب، وأتذكر على سبيل المثال، المرحوم مطهر حسان، وكان صحفيًّا في مكتب رئاسة الدولة وتعرض للتعذيب بشكل قاسٍ، وفي كل مرة يتم تعذيبه حتى يغمى عليه من شدة التعذيب، ثم يعيدونه إلى رفاقه في المعتقل وهو في حالة غيبوبة، فيقوم زملاؤه برشّه بالماء، وأول ما يفوق يبتسم في وجوههم ويقول لهم: "كان هذا لازم يحدث من زمان".

أيضًا أتذكر شخصًا اسمه "الزجي"، عندما كان محمد خميس يقوم بتعذيبه في بركة ماء، قام بلطم (صفع) محمد خميس في وجهه حتى أسقطه في الماء، وكذلك المرحوم الدكتور عبدالمجيد الخليدي، وكان ينتمي للبعثيين، وقام بصفع محمد خميس ثم تعرض لتعذيب أليم.

أيضًا بعد فترة طويلة، ألقوا القبض على الأخ علي عبدربه القاضي، وسُجِن في دار البشائر، وتم إخراجه بطريقة ذكية وبعد إعطاء الرشوة للعساكر.

كيف تمت طريقة إخراجه؟

تم إعطاؤه "ملاية"، وقام بتقطيعها وربطها مع بعضها، وأمسك بها ونزل من نافذة الدور الخامس إلى خارج المبنى. 

هل حدثت حالات دهس بالدبابات لبعض المعتقلين، كما يقول البعض؟

لا أعلم أنها حدثت حالات دهس بالدبابات أو بغيرها، ولكنّ المعتقَلين تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب.

كم عدد الذين تم إعدامهم عقب فشل حركة 15 أكتوبر 1978؟

عدد الذين تم إعدامهم في الدفعة الأولى: 27 شخصًا؛ منهم 21 شخصًا من قيادات التنظيم، وعلى رأسهم أمين عام التنظيم عيسى محمد سيف، والأمين العام المساعد سالم السقاف، وأعضاء اللجنة المركزية أحمد سيف حميد، ومحمد أحمد إبراهيم، وعبدالكريم المحويتي، والمسؤول السياسي للتنظيم عبدالسلام مقبل، وغيرهم، إضافة إلى إعدام 6 يساريين، أبرزهم سلطان القرشي.

في الدفعة الثانية، تم إصدار الحكم بإعدام (75) شخصًا، لكنه لم يتم تنفيذ حكم الإعدام، وإنما صدر ما يسمى بالعفو عنهم، وتم إطلاق سراحهم.

هل جميعهم تمت محاكمتهم؟ أم هناك من تم إعدامهم دون محاكمة؟

المعتقلون العسكريون لم تعلن محاكمتهم، وبالنسبة للمعتقلين المدنيين، فقد تمت محاكمتهم محاكمة صورية، وكان القاضي غالب راجح هو من أصدر أحكام الإعدام، وكان محمد خميس المدعي العام، وتمّ الادعاء عليهم بافتراءات، وهي مسجلة وموثقة في شبكة الإنترنت، وكانت محاكمة هزلية تضمنت الكثير من الظلم والكذب والافتراءات، ثم تم إعدامهم بطريقة جماعية، وإخفاء جثامينهم.

ما هو الهدف من وراء إخفاء جثامينهم؟

الهدف من إخفاء جثامينهم هو الإمعان في تعذيب أهاليهم، إلى درجة أنّ هناك زوجات يعتقدن إلى اليوم أنّ أزواجهن ما زالوا أحياء، وبعض أهالي المعتقلين تعرضوا لعمليات نصب وأُخِذت منهم الكثير من الأموال مقابل إعطائهم معلومات عن ذويهم المعتقلين، وفي نهاية الأمر لم يعطوهم معلومات ولم يعيدوا إليهم الأموال.

ما الذي فعله التنظيم الناصري بشأن البحث عن مصير المخفيين قسرُا، وكذلك مصير الجثامين ومكان الدفن؟

التنظيم يهتم بقضايا الوطن ومشاركته في العمل السياسي، ولم يتم التفاهم مع سلطة صنعاء إلا بعد عام 1990، بعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وتهرب علي عبدالله صالح ونظامه من الإفصاح عن مكان إخفاء الجثامين.

نفهم من كلامك أنّ مكان إخفاء الجثامين ما زال مجهولًا حتى الآن؟

إلى الآن تقريبًا، المكان معروف بأنه في شارع الستين الغربي بصنعاء، وتحديدًا في المنطقة الواقعة بين منزل عبدربه منصور هادي ومقر مجلس النواب الجديد.

لكن القيادي الناصري عبدالله سلام الحكيمي، قال في إحدى مقابلاته إنّ الجثامين تم دفنها في معسكر الفرقة الأولى مدرع؟

أنا سمعت مثل هذا الكلام، ولكنني تأكدت بنفسي عبر أحد الضباط الذين كانوا حاضرين أثناء تنفيذ عملية القتل، وأكّد لي أنه تم نقل الجثامين إلى المنطقة الواقعة بين منزل عبدربه منصور هادي ومجلس النواب الجديد، وهناك حفروا لهم ودفنوهم.

كيف استقبلتم كناصريين خبرَ إعدام رفاقكم وقياداتكم، وأبرزهم عيسى محمد سيف؟

رغم حزننا الكبير على الذين تم إعدامهم، مواقفُهم البطولية أثناء فترة الاعتقال والمحاكمة كانت ترفع الرأس، فعلى سبيل المثال: الشهيد القائد عيسى محمد سيف ضرب أروع الأمثلة في التضحية والفداء، ورفض الهروب من صنعاء، وكان في منزلي، وطلبت منه أن يهرب معي إلى منطقة نهم، لكنه رفض رفضًا قاطعًا، وقال لي: "لا يمكن أن أهرب وهناك فرد واحد معتقل بسببي، فأنا سأتحمل المسؤولية كاملة وأنقذ بقية الإخوة المعتقلين"، وأثناء محاكمته كان يعلن في كل جلسة بأنه المسؤول الوحيد عن الحركة وأنّ الجميع أبرياء، وأراد أن يضحي بنفسه فداء لرفاقه، ولكن الظلم أبشع؛ وتم إعدامهم جميعًا!

وكذلك الشهيد عبدالسلام مقبل، كان صديقًا لعلي عبدالله صالح، وكان غالبًا ما يأخذه معه لمرافقته، وعندما تمت محاكمته أوعز علي عبدالله صالح للقاضي غالب راجح، بأن يجعل عبدالسلام مقبل يطلب العفو، ومن ثم تحويل عقوبته من الإعدام إلى السجن، وعندما قال له القاضي غالب راجح: "يا عبدالسلام، هل تطلب العفو؟"، أجابَه: "لا أريد أن ينالني إلا ما ينال هؤلاء جميعًا".

ومن أبرز المشاهد البطولية، أنه عندما تمت تلاوة النطق بالحكم بالإعدام عليهم، صفقوا جميعًا للموت، فهؤلاء هم أشجع الرجال في تاريخ اليمن. 

مرحلة الوساطات

بعد عمليات الإعدام للقيادات العسكرية والمدنية، هل تعرضت أنت ورفاقك للمطاردات والملاحقات من قبل السلطة في صنعاء؟

بعدما خرجت أنا من صنعاء ووصلت إلى البلاد، التفّ حولي جميع أبناء نهم وتضامنوا معي، ووقفوا إلى جانبي، وأتذكر أنه في اليوم الثاني من وصولي إلى نهم جاءت رسالة من الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر والشيخ سنان أبو لحوم، يطالبون فيها قبيلةَ نهم بتسليمي للدولة، فاجتمعوا أبناء نهم بالكامل، وقرروا عدم تسليمي، وأرسلوا رسالة جوابية للشيخ عبدالله والشيخ سنان، وقالوا لهما: "لن نسلم لكم حاتم أبو حاتم، حتى لو انتهى آخر رجل منا". 

ولهذا أصبحت منطقة نهم ملجأ لجميع أحرار التنظيم الناصري من الضالع إلى صعدة، وكانوا يأتون إلينا بالعشرات نتيجة المضايقات التي يتعرضون لها في مناطقهم.

استدعاني علي عبدالله صالح مرة ثانية إلى مأرب في عام 1986، تقريبًا، عندما بدؤوا يخططون لمشروع طريق الفرضة- الجوف، وعندما قابلته قال لي: "علينا أن ننسى الماضي، وبإمكانك أن تعود إلى صنعاء، وأنا سوف أعيدك إلى القوات الجوية". فقلت له: "إن القوات الجوية عِلْم، وأنت قد حولتني من مهندس طيران ممتاز إلى قاطع طريق ممتاز!".

وعلى سبيل المثال، أتذكر أنّ الأخ عبدالقدوس المضواحي عاد من الشطر الجنوبي وجاء إلينا في منطقة نهم، وجلس عندنا هو وأسرته، وكذلك المناضل الكبير علي الحبيشي الذي كان أركان حرب قوات العمالقة، والأخ علي عطيفة الميموني عضو المجلس العسكري، وغيرهم كثيرون.

فكانت مديريتَي نهم والجوبة عبارة عن ملجأ وملاذٍ لأحرار التنظيم في البلاد؛ لأنها كانت مناطق آمنة لا تستطيع السلطة أن تمسهم بسوء.

لماذا لم تستطع السلطة الوصول إلى نهم والجوبة في ذلك الوقت، رغم قربهما الجغرافي من العاصمة صنعاء؟

بعد مقتل الرئيس إبراهيم الحمدي، تراجعت الدولة في كثير من مناطق اليمن الشمالية، وخاصة في مناطق نهم ومأرب والجوف وصعدة وبقية المناطق الشمالية الشرقية. وحتى المحافظات التي كانت تتواجد فيها الدولة، كان تواجدًا شكليًّا فقط، فالمحافظ لا يستطيع الخروج من مركز المحافظة، وتقتصر مهامه حول توفير ميزانية ومرتبات للمشائخ أشبه بالرشوة.

كم بقيتم في مديريتَي نهم والجوبة؟

حوالي من ثماني سنوات إلى اثنتي عشرة سنة، لأنّ البعض عادوا إلى صنعاء في 1985-1986، ولكن العودة الحقيقية كانت بعد عام 1990، بعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية.

كيف تمت العودة إلى صنعاء؟ هل من تلقاء أنفسهم؟ أم عبر وساطات؟

عبر وساطات كان يرسلها علي عبدالله صالح، وأول وساطة كانت عبر الأخ مجاهد القهالي، عندما نزل الرئيس علي عبدالله صالح إلى محافظة مأرب في عام 1984، وكان برفقته مجاهد القهالي الذي رآني في الطريق المعاكس وتبادلنا إشارة السلام من بعيد، ثم لحقني مجاهد وأبلغني بأن الرئيس طلب منه أن يصطحبني معه إلى مأرب وذهبت معه الى مأرب. وأثناء المقيل سألني علي عبدالله صالح، وقال: لو كنتم نجحتم في انقلابكم، من كنتم ستقتلون من هؤلاء الموجودين؟ وكان بجواره الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، والشيخ سنان أبولحوم، وعدد من الوزراء والمسؤولين. فقلت له: "اعفني من الإجابة، يا فندم"، فقال: "ضروري تجاوب ولك الأمان". فقلت له: "إذا نجح الانقلاب كنّا سنقتلك أنت فقط"، فسكتَ، وأنا جلست قليلًا ثم استأذنت وغادرت.

هل تكررت الوساطات بعد عام 1984؟

نعم، بعد فترة اتصل بي مجاهد القهالي وأخبرني بأنه سوف ينزل زيارة إلى منطقة الجوبة بمأرب، وطلب منّا أن نلتقي به هناك في الجوبة، وفعلًا ذهبنا إلى الجوبة مع عدد من قيادات التنظيم، والتقينا بمجاهد، وقال بأنه مرسل من علي عبدالله صالح من أجل التفاهم معنا وعودتنا إلى صنعاء، وإصدار عفو عام، وبعد حوالي أسبوعين أرسل لي مجاهد رسالة وطلب مني أن نلتقي في بيت العذري بمنطقة أرحب، وفعلًا التقينا مع مجاهد، وكان معنا الأخ عبدالقدوس المضواحي وعلي عبدربه القاضي ومحمد العفيف وآخرون، وقال لنا مجاهد إنّ الرئيس علي عبدالله صالح يريد أن يلتقي بنا في صنعاء، ووافق الإخوة على مقابلة الرئيس في صنعاء، أما بالنسبة لي فقد رفضت دخول صنعاء، وقلت: أنا سأبقى ظهيرًا لهم في منطقة نهم باعتبارها منطقة حرة وملجأ للأخوة المشردين من جميع أنحاء الوطن، شمالًا وجنوبًا.

وأتذكر أنّ الأخ المناضل محمد العفيف تكلم أثناء اللقاء، فأذهل مجاهد القهالي، فسألني: "من هو هذا؟"، فقلت له: "هذا الأخ محمد العفيف السائق حق علي عبدربه القاضي"، فأعجب بكلامه إعجابًا شديدًا، ثم دخل الإخوة إلى صنعاء والتقوا بعلي عبدالله صالح، ووعدهم بأشياء كثيرة لكن لم يتم تنفيذها، باستثناء منحة للأخ عبدالقدوس المضواحي إلى بريطانيا، وظلت الأمور كما هي حتى قيام الوحدة اليمنية.

ثم استدعاني علي عبدالله صالح مرة ثانية إلى مأرب في عام 1986، تقريبًا، عندما بدؤوا يخططون لمشروع طريق الفرضة الجوف، وعندما قابلته قال لي علينا أن ننسى الماضي، وبإمكانك أن تعود إلى صنعاء وأنا سوف أعيدك إلى القوات الجوية. فقلت له: "إن القوات الجوية عِلْم، وأنت قد حولتني من مهندس طيران ممتاز إلى قاطع طريق ممتاز".

ماذا كنت تعني بكلامك عن قاطع طريق ممتاز؟

(يضحك) في عام 1985، سجنوا أحد مشائخ قبيلة نهم، وهو الشيخ درهم الشليف، وهو من رجال 13 يونيو، وبعدما رفضوا الإفراج عنه، قمنا بالتقطع لأحد السفراء أثناء نزوله من صنعاء إلى مأرب، فتقطعنا له واحتجزناه عندنا حتى تم إطلاق الشيخ الشليف، وفوقها تم توفير أربعين بئرًا ارتوازية للمياه عن طريق التعاونيات، وكان الأخ علي مقبل غثيم هو الأمين العام للتعاونيات، وكذلك اللواء محمد عروة كان مسؤول الحفريات، وتم الحفر وتركيب المضخات.

وماذا كان ردّ الرئيس علي عبدالله صالح بعد قولك له بأنه حوّلك من مهندس طيران ممتاز إلى قاطع طريق ممتاز؟ 

 قال لي: "خلاص، سوف نحوّلك إلى الطرقات (الأشغال)، وعندنا مشروع طريق مهم جدًّا وهو طريق الفرضة- الجوف، وسوف أكلم الوزير الكرشمي لكي تكون أنت المسؤول المشرف عن هذه الطريق، وأيضًا تتحمل أنت مسؤولية الجانب الأمني لتنفيذ الطريق". وفعلًا بعد أسبوعين، استدعاني الكرشمي لمقابلته، وتفاهمنا واتفقنا على البدء بعملية تنفيذ مشروع طريق الفرضة- الجوف، وتم التنفيذ ونجح مشروع الطريق بصعوبة كبيرة جدًّا؛ لأنّ الدولة لم يكن لها تواجد في محافظة الجوف، وواجهنا العديد من الصعوبات والعراقيل، حيث تعرض المشروع لبعض أعمال سرقة ونهب، وأيضًا تلغيم الطريق، وغيرها. 

وأتذكر أنه عندما بدأنا بعملية الزفلتة، تم تلغيم "الفرادة"، وهي آلة خاصة بالأسفلت، وعندها ضج الوزير الكرشمي وطلبَ من الرئيس أن يسحب المشروع، وأرسل لجنة برئاسة المرحوم عبدالعزيز عبدالغني، وعضوية الشيخ عبدالله دارس وعلي محسن الأحمر والوزير الكرشمي، وعندما قابلت اللجنة قلت لهم أنا سوف أكون أول من يضحي بحياته في سبيل هذا المشروع، الذي إذا نجح فسوف تبقى محافظة الجوف يمنية، وإذا فشل فهذا يعني التخلي عن محافظة الجوف، ثم اقتنعت اللجنة بضرورة مواصلة تنفيذ مشروع الطريق، ثم استدعاني الرئيس، وشكرني على ذلك. 

واستطعنا تجاوز كل العقبات، بفضل جهودنا جميعًا في الفريق المكلف بالتنفيذ، وكان مدير المشروع هو المهندس عبدالكريم الحيفي، وكان معنا أيضًا خبراء سوريون وفلسطينيون، وتم إنجاز المشروع في غضون ثلاث سنوات، من العام 1986 إلى 1989، وهو من المنجزات الكبيرة. 

•••

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English