اللِّحية التوافقية

في رمزيتها الذكورية المتصدّرة قضايا المرأة
د. نهى الكازمي
March 12, 2022

اللِّحية التوافقية

في رمزيتها الذكورية المتصدّرة قضايا المرأة
د. نهى الكازمي
March 12, 2022

قد يظن الشخص للوهلة الأولى أن اللحية فقط هي مظهر ديني عبَّر دائمًا عن رجال الدين في مختلف الديانات والاعتقادات، لا سيما الدين الإسلامي، غير أن هذا المفهوم قد اختلف في الآونة الأخيرة، عندما تعددت أوجه اللحية واختلفت وفقًا للأهداف التي تخدمها، مع التأكيد على أن اللحية هي المعبر الخارجي عن الهوية الدينيَّة، لا سيما في المجتمع العربي. 

غير أن دهاليز اللحية تحتمل أبعادًا أوسع من وقعِ الورع الذي يظنه المُلتحي في نفسه، حيث تسمح اللحية لصاحبها بالعبور من بوابات أولها الظن بمثالية اللحية، مرورًا بتحقيق النرجسية الذاتية، وانتهاءً بتوافقية غير مستحبة من الفئة الصامتة على علو اللحية في تراتبية السلم الاجتماعي على الأصعدة جمعيها. غير أن هذا النوع من اللحى من السهل اكتشافه، وتتبع أثر شعيراته المتساقطة في أروقة المساجد، والجامعات، والشوارع العامة، وبين الكتب التي تبيح المحظور الاجتماعي وتزيّنه. وهذه اللحية على خطورتها، أقل خطورة من اللحية التوافقية في بُعدها الثقافي! نعم هناك لحية توافقية، كما هو موجود رئيس توافقي، واللحية التوافقية هي: اللحية التي تُجمع عقول كثيرة على قبول رأيها اعتقادًا بتلحّيها الضمني، وتتنكر هذه اللحية مرتدية البنطلون والقميص، وتُطِل برأسها في المنتديات والأروقة والمؤسسات الثقافيَّة، وغالبًا ما تُظهر مواقف خجولة عند التعاطي مع التفسير المزاجي والفردي للمُعطى الديني المنافي للواقع الاجتماعي، وتتحرّج عند الحديث عن التفسيرات البعيدة عن سلطة الركز.

تتفيَّأ هذه اللحية بالقَبول التوافقي بين المتثاقفين في المجتمع العربي على مختلف توجهاتهم، وبالأخص عند أولئك الذين يجيدون فن التزحلق، ويمتلكون من قاموس اللغة العربية نصيبًا لا بأس به من ألفاظ الكُدية التي استخدمت في المقامات العربية. وحقيقة فإن أثر هذه اللحية ليس قائمًا على مظهرها، كما في اللحية الدينيَّة، لكن في إحكام سيطرتها على توجيه الظواهر الاجتماعية المتعلقة بالمرأة، وتوسع تأثيرها ليشمل قطاع الشباب والمرأة بمعزل عن توجههم الفكري، وهو ما لا يتحقق مع اللحية الدينية التي يتصل تأثيرها المُباشر بالاتباع فقط. 

تمتلك هذه اللحية سلطة القرار الفعلي، ففذلكة صاحبها تُمكِّنه من العبور من أبواب العلمانيين، والمُتأسلمين بالسهولة نفسها، على العكس من اللحية الدينيَّة التي لا تمكن صاحبها من ذلك. واللحيتين يجمعهما شيء واحد، هو حب امتلاك سلطة القرار وإعطاء مساحة لحرية الرأي الآخر، شرط أن لا يتجاوز ذلك رأيها المُقدس، وكيف ذلك وهي لحية رجُولية نبتت شعيراتها بدقة وتقارب، وأخذت خبرتها لتحدد مكانها على الساحة الثقافيَّة!

تُمارس اللحية التوافقية الدور الذكوري نفسه الذي تمارسه اللحية الدينيَّة، وإن بدت تخالفها من حيث التوجه، خصوصًا فيما يتعلق بالمرأة. فالمرأة هي الإشكاليَّة الحقيقيَّة للِّحية، وعلى مر العصور وعلى اختلاف الأديان، فدائمًا ما مارس المُلتحي دوره التسلطي مطمئنًا، على تاء التأنيث الساكنة؛ لكون الأخيرة ساكنة. 

قضية المرأة غدت أداة تتحكم بها اللحية التوافقية؛ فمظلومية المرأة هي الوسيلة الأكثر تربُّحًا لها، فالمرأة هي الوسيلة وهي الهدف في الوقت نفسه، وقد يختلف موقعها، ولكنها الأنا الأكثر تأثيرًا على وجود اللحية التوافقية

لا تتوقف اللحية عند ممارسة نفوذها على المرأة في البيوت والأزقّة والحارات، لكنها تمتد إلى الرغبة الجامحة في الانفراد بسلطة القرار ضد كل امرأة خارج بيت الحريم، متجاوزة بذلك سقف الوعي المُقنن الذي يسمح لها بالحدود الدنيا في الحديث مع المرأة.

ولا ضير من أن تفتح اللحية مجالات أخرى لتدلف من خلالها ولتتحكم في سلطة القرار، ما دامت الحاجة لذلك؛ فلم يعد الطرح الديني لقضايا المرأة مُجدِيًا ومؤثرًا في الإعلام مثلما كان في السابق.

وكان يجب أن تجد اللحية اتجاهًا آخر تتجسد من خلاله، فاتخذت من النسوية ميدانًا لها، وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته في اليمن منذ بدء الصراع، حيث شهدت الساحة اليمنية تنافسًا محمومًا بين من المؤسسات، والأفراد لطرح قضايا المرأة من منطلقات واتجاهات اتسمت بالتشابه حد التطابق في التعاطي مع الظاهرة والمعالجات المطروحة. مما أفقد قضية المرأة -وفقًا لعرض اللحية التوافقية- مصداقيتها، وعمّق الهُوّة بينها وبين واقعها، وغدا التأثير الفاعل في قضايا المرأة منوطًا بتوجه ذكوري محض، حتَّى وإن بدا الوجه المُصدّر للقضية هي المرأة نفسها؛ وذلك لأن اللحى المتسترة تصرخ في كل اتجاه ثقافي تُحدد القضية المراد تقديمها، وتحدد أدوات معالجتها مسبقًا، وفق إسقاطات لا تتفق وخصوصية المجتمع في اللاوعي الموجه. 

إن قضية المرأة غدت أداة تتحكم بها اللحية التوافقية؛ فمظلومية المرأة هي الوسيلة الأكثر تربُّحًا لها، فالمرأة هي الوسيلة وهي الهدف في الوقت نفسه، وقد يختلف موقعها، ولكنها الأنا الأكثر تأثيرًا على وجود اللحية التوافقية. 

تقول الناشطة والعارضة هرنام كور (السيدة ذات اللحية): "من الرائع ما يُمكنك فعله عندما تكون أصيلًا، من الرائع ما يمكنك فعله عندما تكون صادقًا مع نفسك فحسب، أنا امرأة ذات لحية في حين من المفترض أن تكون اللحية أمرًا رجوليًّا، (...) أعتقد أن كثيرًا من الرجال ينظرون لي؛ لأن لحيتي تكون أحيانًا أفضل بكثير من لحاهم". 

لا يتطلب الأمر أن تكون المرأة ذات لحية، مثل هرنام كور، لتعبر عن قضيتها العادلة، لكن عليها أن تبحث عن الأصالة في طرح قضاياها العادلة، انطلاقًا من معاناتها هي، لا كما يجب أن تكون عليه من وجهة نظر اللحية التوافقية، وهذا يتوقف على مدى معرفتها لجوهر قضيتها العادلة وتصديرها، وفق منظور ومعالجة حقيقية ومنطقية، وليس شرطًا أن تحمل صكًّا مُوقَّعًا من اللحية التوافقية.


•••
د. نهى الكازمي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English