سيميوطيقا العنوان وفينومينولوجيا النص

في (هُم احتطبوا دمي) للشاعر/ محيي الدين جرمة
محمد العديني
April 30, 2023

سيميوطيقا العنوان وفينومينولوجيا النص

في (هُم احتطبوا دمي) للشاعر/ محيي الدين جرمة
محمد العديني
April 30, 2023

 يفصح عنوان المجموعة الشعرية: (هم احتطبوا دمي)، للشاعر اليمني محيي الدين جرمة، عن مفارقة شعرية سيميائية تكمن في الإشارة إلى الآخَر بضمير الغائبين المنفصل (هم)، كإشارة قصدية جهويّة مؤكدة انفصالها أو تباينها عن ذات الشاعر، وبروز الأخيرة (دمي) -في المقابل- ضميرًا مفردًا للمتكلم مضافًا إلى الدم/ دمها، في علاقة صراع أو عداء (احتطبوا) موجه من الآخر ضدّ الذات، علاقة محكومة دلاليًّا بجدليتي الغياب والحضور؛ الغياب: (هم) الحاضر بصفته القامعة، والحضور: (دمي) الغائب بصفته المقموعة. 

ومع مراعاة فاشية اللغة وعنفوانها الشعري واحتمالية دلالاتها وتشابكها وانفلاتها وبراغماتيتها وقابليتها للتلاشي وتبادل الأدوار، تنفتح تلكم العلاقة أو الجدلية السابقة على مستويين متعاكسين ومتعاقبين من الدلالة مرتكزين على الدلالة البؤرية للفعل (احتطبوا)، والتي تمثّل قنطرة دلالية حاسمة (تجميعية أو توزيعية) في مجرى سياقها اللغوي الخاص بعنوان المجموعة: 

المستوى الأول الظاهر: وهو المتجه من الآخر إلى الذات، والذي يشير إلى معاني ومضامين القطيعة والاغتراب والاستلاب والتدمير، وهو مؤشر أو علامة ثابتة وسائدة من منظور وضعه اللغوي، ومنظور الذات لعلاقة الآخر بها.

المستوى الثاني الباطن أو الخفي: وهو المتجه من الذات إلى الآخر، والذي يجسد الحركة الانقلابية الارتدادية المتعاقبة لدلالة العنوان ودلالة المستوى الأول، والمتضمن معاني البناء والمنفعة والتضحية والاستشهاد، كما يستفاد من دلالة الانتفاع المتكرر، وبالتالي البناء في الفعل (احتطبوا)، وكذا ارتباطه بالدم (احتطبوا دمي) الذي يرشحه لدلالة التضحية والاستشهاد، فضلًا عن تناصه ومحاكاته لقول المسيح (عليه السلام): "هذا دمي، اشربوه". 

 ويمكن الوقوف -باختصار- على أبرز أو أوضح الحقول الدلالية لجملة مفردات عنوان المجموعة وتبيين نشاطها الدلالي المؤثر عبر الجدول والرسم التوضيحيين التاليين:

 

    هم                   احتطبوا                  دمي 

-->----->        >-------->           >---------- >

انفصال                 عداء                        موت

غياب                   تضاد                       شهادة                     

ثبات                    إثبات                      حضور

نفي                    حضور                      ثبات

                       حركة                        إثبات

                                   

                                  احتطبوا 

                    هم                                    دمي

هكذا يبدو أنّ فعل الاحتطاب (احتطبوا) هو الحاكم أو الإيقاع المنظم لعلاقة الطرفين الدلالية ومصدر الحركية التصويرية المكتسبة في مشهدية ثباتهما وانفصالهما الظاهريين، وهو فعل نفي تمارسه الجماعة ضد الفرد أو الموضوع تجاه الذات؛ فالشروط الموضوعية لهذا النوع من الاتصال قائمة على العنف، عنف متكرر أشبه بطقس جماعي يمنح دلالته بعدًا ملحميًّا،  تعمدت ذات الشاعر نفيه في الإشارة المتصدّرة لضمير الغائبين وتثبيته في سياق الاتهام والإدانة والجناية عليها، فنفي النفي إثبات.

لتصبح فيما بعد شهادة الدم هي الحضور الكلي والإثبات المطلق للحظة عابرة للزمن: زمن الموضوع/ الآخر، زمن الجريمة والذات المقموعة، شهادة تؤرخ لزمنها الخاص في السبر والكشف الجمالي داخل اللغة، أي زمن الشعر/ القصيدة، المغامرة والمكاشفة الشعرية. 

هكذا تنتظم بلورات اللغة في تجلياتها الأكثر سطوعًا ومفارقة في وحدة رؤية الشاعر، الوحدة التي لا يعبر عنها بالضرورة أو في الظاهر فعل المساواة بين إرادته ورؤيته في قوله: 

 "نستقيم كما نريد

كما نرى"

وإنما فعل الوحدة الوجودية الباطن داخل اللغة:

 "أو نحب ورد الخال

 في خد الحياة كما نريد"*

وهي وحدة تنشأ في تصوري عن استراتيجية شعرية فينومينولوجية (ظاهراتية) لدى الشاعر تتحكم بمطلق تعاطيه الشعري مع اللغة: 

 "هم الألى احتطبوا بهار الظل 

في طين الغزالة"

في غمرة تلك الوحدة، لا يعود هناك مجال للتمييز بين القَبول والرفض، بين فعل الحب وفعل الكره؛ لأنّ التجربة مأخوذة برمّتها في أتون العشق المطلق لشعرية اللغة: 

"ولا لنكره أو نحب كما نشاء 

 ونستعيد الرند في جول من الفخار  

والريحان أعلى كل بيت

ولا لنقطف مشمش الكلمات 

من زهر الأكاسيا 

ونحل الأرض 

في شجر البعيد.."

لقد أدرك الفلاسفة السابقون على سقراط الوجود بوصفه تفتحا داخليا كتفتح الزهرة: 

"أريد أن أبقى صغيرًا 

مثل أعمار الزهور 

وأقطف الحلوى علانية"

لكن وعي الشاعر بواقعه ومأساوية الحياة عمومًا، تحول بينه وبين المضي بعيدًا في استغوار عوالمه الغيبية واستعادة براءته الطفولية، فهو يدرك حدود ذلك الواقع ومعوقاته، ويعي تمامًا أنّ استسلامه أو قَبوله بوجاهته ورضوخه لسلطته (الأفعوانية) (الشيطانية) مكلفة جدًّا، بل هو نوع من خيانة ذاته ووجوده، فلا بد من تجاوزه وكسر رتابته والخروج على منطقيته النسقية في اللغة ومفارقاتها المجازية السيميولوجية: 

"لأكبر كالصغار بلا حدائق 

أو لأسمو كالجراح 

على الجراح 

لكن الأفاعي 

لم يخلوا للمسافة حالها 

بيني وبين السجن 

والسجان

بين الله والإنسان 

بين الدين والدنيا

بين الدين والديناميت 

والشيطان..."

وكجزء من هذه المقاومة الشعرية، يستعين الشاعر بكنايات ومضامين تراثه المحلي وأساطيره الشائعة، كقوله: 

"والريحان على كل بيت" إشارة إلى عادة اليمنيين في وضع أصيص الريحان على أسطح بيوتهم، لأغراض جمالية، وربما أسطورية مرتبطة بطرد أو دفع الأرواح الخبيثة، وكقوله: 

  "زغردي

 يا "بنت صين الصين"، لي"

كناية عن البعد والمشقة والعنت التي يلقاها الشاعر في سبيله المفخخ بـ"الأفاعي". 

لكنه لا يتيح لاستيهاماته تلك مديات أفسح في صيروراتها الرمزية والرومانسية إلّا بالقدر الذي يكفي لمراوغتها أو روغانها الشعري، ويكفي لفضح أو كشف بطلان دعاوى رموزها في الواقع وتشوهاته محتميًا بذاته: 

  "إنّ الأساطير

  التي كنّا نردّدها تناستنا

  وأنستنا زهور الشام

  والأحلام

 والنوم الهنيء

 ومرغت حتى الهواء

 وشوشت حتى الرياح البيض

 في مطر الحقول 

 سأحتمي بي

 من ظلال الريح

 في ناي بلا أحد 

لكي أنأى عن الزيف الحقيقي" 

يواصل الشاعر التنقيب أو التنجيم في ذاته المتّحدة بلغته، يستبطن ممكناتها الاستعارية المتوافقة مع إرادته ورؤيته الفينومينولوجية والتي تتجلّى في قدرته على الإصغاء للأشياء والحوار معها وتركها تقول ذاتها عبر انزياحات ومفارقات شعرية مدهشة وترميز مكثف لدلالات اللغة، تتراسل فيه الحواس ولغاتها، ويتعانق المرئي باللامرئي، وتتداخل اللغة بما وراءَها، ولعًا بالكشف عن شاعرية اللغة وتجلية فصوصها: 

 "لي دواليب المخبأ في الشموس وفي المناجم 

          ... 

     سأحتمي بالزهر 

    في لبلاب ورد الاستعارة 

         ...

  أنا حجر اللغات 

 على سجية ما أريد 

  وما أرى..

 سوف لا أحتاج المطر 

 غير فهمي للعطور".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*واضح أنّ الشاعر يقصد إلى المشاكلة مع عنوان شعري آخر: (أرى ما أريد) للشاعر محمود درويش.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English