يوم النشاط غير الصفّي، طالبة الأمس تُوثّق اليوم

هل سينظر العالم يومًا لأحلامنا؟
د. نهى الكازمي
February 8, 2023

يوم النشاط غير الصفّي، طالبة الأمس تُوثّق اليوم

هل سينظر العالم يومًا لأحلامنا؟
د. نهى الكازمي
February 8, 2023

منصة خيوط

في تمام الساعة التاسعة والربع صباحًا، وقفت أمام سور مدرسة (ريدان)، بمجرد أن تقف أمام بوابة مدرستك القديمة، تنفصل ذاتيًّا عن العالم الواقعي الذي تعيشه، تنسى تمامًا المُشكلات التي تُحيط بك.

تناهت إلى مسامعي أصوات وضحكات؛ إنّه يوم النشاط غير الصفّي. توقف الزمن فجأة، أراني هُناك في بهو المدرسة أشدّ رباط جزمتي، وأُعدل شريطتي البيضاء؛ استعدادًا لاستقبال ضيوف المدرسة؛ لأشرح لهم عن مجسم الأفلاج (القنوات المحفورة في الأرض لتجميع المياه)، الذي جهزته.

أعادني صوت الوكيلة إلى واقعي، أسمعها توجّه الجميع، ابتسمَتْ ورحَّبت بي، أخذتني إلى صفوف النشاط التي توّزعت لتحفّ المدرسة كلها: 

- أهلًا أهلًا. دخلت إلى الصف (جمعيَّة الاجتماعيات).

عند الباب تستقبلك رائحة البخور، وفتاتان ارتسمت على محيّاهما ابتسامة. قدّمتا لي ضيافة يمنية؛ قهوة ورطب. 

- "قهوة بيضاء، أو سوداء؟"، سألتني إحداهن.

- "بيضاء"، أخذت قهوتي وجلت ببصري في أرجاء الغرفة، تسلّلَت مرارة القهوة وحلاوتها لتخلق جوًّا من الانسيابيَّة، التي تتسق مع هذه الغرفة العجائبية، سرقتني الذكريات للحظات، ووقفت بي عند بيتنا في القرية، تذكرت جلستنا مع جدتي وهي تفتح (الجعبة)، وتفرش السفرة، وتقدِّم لنا الشموط (الخبز) والعسل البلدي. 

قدَّمت جمعيَّة الاجتماعيات عددًا لا محدودًا من ترف التراث المادي، وغير الماديّ، التي تزخر به اليمن.

مطبخ جدتي القديم 

في الوقت الحاضر، انتشرت ثقافة استخدام الأدوات المنزليَّة القديمة، بكيفيتها؛ أدوات صحيَّة، أثبتت أنّها الأفضل في طهي الطعام. 

"انظر من نحن! نحن الحالمون؛ نحن من سيجعل الحلم واقعًا؛ لأنّنا نؤمن به"، قدمن أنفسهن وأحلامهن لنا، مثلن أمامنا، تبادلن النظرات وصفق صوتهن عاليًا، تمتمت معهن بصوت مكتوم، لست أدري هل سينظر العالم لهن يومًا!

يحفلُ المطبخ اليمني، بتنوّعٍ على صعيد أدوات وطرق الطبخ التقليدية، وتنوع المأكولات، ولكل مُحافظة خُصوصيتها واختلافها عن المحافظات الأُخرى، إلَّا أنّ هذا الأمر لم يلقَ اهتمامًا يُعوّل عليه من قبل الجهات المختصة. 

على الطاولات، رصّت الطالبات كوزًا، ومطحنة حجر، ما زالت الأُسر اليمنيَّة لا تستطيب أكل "السحاوق" في المناطق الشمالية، و"البسباس والشتني" في جنوب اليمن، إلَّا إذا كانت مطحونة بالمطحنة الحجَر؛ وذلك لأنّها تحتفظ بالنكهة والقوام المناسب، أفضل من طحنها بالخلاط الكهربائي، لا سيما في شهر رمضان حيث تُطحن الدّجرة؛ لصنع الباجية (الفلافل) على المطحنة الحجر، كما تُسحق الحوائج (البهارات) بعد تسخينها على النار.

بالإضافة إلى المطحنة، عرضت الطالبات الجِعنان، (إناء يُستخدم في حفظ الحقين، والحليب)، والـ"مخمو" (إناء مصنوع من الطين) يُطبخ فيه اللحم، ويجهز فيه السمن، والكبير منه يأتي بقامة متر وأكثر، ويُطلق عليه في بعض المناطق "دفلة".

وتُستخدم "الجعبة" لحفظ الخُبز؛ والحجم الكبير منها تُسمى "تورة"، يُحفظ فيها اللحم المشوي، والمُخلم (خبز مُخمر يُقدّم عادة مع اللحم المشوي، والمرق في أبين وشبوة). 

 إنّ استخدام أدوات الطبخ القديمة والصحية اليوم، لا يُعدّ ترفًا يرفل به اليمنيون، لكنها حاجة ارتبطت بشح الموارد الأساسية، وغلاء أثمانها، وانعدامها، وهو يختلف عن العودة لاستلهام الإرث القديم للمطبخ التقليدي من قبيل البحث عن بدائل صحيّة، فالأخيرة ترتبط برفاهية العيش، وحريَّة اختيار نمط الحياة المُناسب. 

قُراع عدن

ولأنّنا في الصباح، فقد حرصت الطالبات، على تقديم قراع (فطور؛ باللهجة العدنيَّة) فرشن سفرة الحصير، ورصصن الخُبز، وقدمن الخمير الحالي (المُقصقص)، كما لم تخلُ السفرة التي قدّمنها من التنوّع بين الخبز، والخمير، والسمن البلدي، والتمر، وبنت الصحن، والشاي الحليب، والقهوة. 

طالبات يحتفين بالأزياء التراثيَّة

ما بين الشيدر العدني، والدرع، والثوب، والمُشقر، وبالبرقع الملون، تنوّعت الأزياء التي ارتدتها الفتيات.

استحضرت وأنا أراهن يرتدين الشيدر، والدرع، الصورَ التي نشرها اليمنيون واليمنيات على هشتاج (#الهُويَّة_اليمنيَّة)، فكانت الصور بمثابة كرنفال قُدّمت فيه مُختلف الأزياء النسائية اليمنيَّة؛ كردّ فعل رافض لقرار جماعة الحوثي العباءات الملوّنة، فاحتفى الهشتاج بصور عن ثقافة التنوع والاختلاف التي تتميّز بها أزياء المرأة اليمنيَّة، شمالًا وجنوبًا. 

كما لم تنسَ الطالبات تقديم لمحة موجزة عن التراث المادي، عبر عرض نماذج لمجسمات عن معالم أثريَّة لقلعة صيرة، بوابة عدن، ساعة عدن، قصر سيئون... إلخ.

مُختبر المدرسة بانتظار التجديد

تقع غرفة المختبر في مبنى منفصل قبالة صفوف الدراسة، ما زلت إلى اليوم أتذكر كيف كنّا نتسابق لنجلس في الصف الأول قبالة المُدرِّسة تلمع أعيننا، نُراقب سحر العلوم؛ خلط المواد، وتبَخُّرها، نرسم التجربة، نستذكر، لا نخاف من انقطاع الكهرباء مثل اليوم. استقبلتني الفتيات شارحاتٍ لي تجاربهن العلمية، التفاعلات الكيميائية وتصاعد ثاني أكسيد الكربون، انكسار الضوء، البرتقالة العائمة، توصيل الحرارة، تفاعل المواد الحمضية مع القلوية.

ما لاحظته على جمعية العلوم هو شغف الطالبات لتقديم ما تعلمنه بأدوات بسيطة. تحتاج الطالبات لأدوات، ومواد مخبرية، أكثر حرَفيَّة؛ ليتمكنَّ من تقديم تجاربهم، يجب دعم المدارس الحكوميَّة، وتمكينها من تقديم التعليم التطبيقيّ، لا سيّما في المواد العلمية.

على وقع "من نحن"

على إيقاع أغنية كأس العالم، قدّمت طالبات جمعية اللغة الإنجليزية، أغنية كأس العالم (Dreamers) وبصوت واحد: 

  • Look who we are?

We are dreamers we make it happen, cause we believet. - 

"انظر من نحن! نحن الحالمون؛ نحن من سيجعل الحلم واقعًا؛ لأنّنا نؤمن به"، قدّمن أنفسهن وأحلامهن لنا، مثّلن أمامنا، تبادلن النظرات وصفق صوتهن عاليًا، تمتمت معهن بصوت مكتوم، لست أدري هل سينظر العالم لهن يومًا!

إنّ حضور الفاعلية والألق والتنسيق بين تلك الانتقالات من التراث، والعلوم، إلى اللغة الإنجليزية، وغيرها من الجمعيات، هو ميزة هذا اليوم الاحتفالي الذي حفّته الأنشطة المتنوعة.

توقفت أمام طالبات جمعية اللُّغة العربية، اللواتي يُحطن بالأُستاذة التي تُعلِّمهن كيف يكتبن ويرسمن بورق الشاي، تُمسك بيد طالبتها وتخط بها اسم أريج.

غادرت الصف، إلى جمعية التدبير المنزلي، لمحتها هناك تأكل قطعة حلوى من طبق طالبات جمعيَّة التدبير المنزلي.

- ما زلتِ كما أنتِ. (ما زالت تُذكرّني بحرصي الشديد في الحصول على أعلى الدرجات؛ كنت طالبة تنافسيَّة).

فرددت مازحة: 

- ههه، شربت القهوة في جمعية الاجتماعيات، وأكلت الحلوى في جمعية التدبير المنزلي.

تتعلم الطالبات في جمعية التدبير المنزلي: التطريز، الخياطة، الطبخ،... إلخ.

- تفضلي. (قالت لي بابتسامة). 

تناولت قطعة الحلوى، لم ألتقط أجمل قطعة، أو أكبرها انتقيت التي التقطتها يدي، هكذا كنّا عندما كُنَّا صغيرات نُسارع لالتقاط القطعة الأقرب.

- كيف وجدتِها؟ (سألتني بحماس).

- حلوة مثلكن. (كان طعهما يُشبههن خفيفًا ولطيفًا غير مصطنع).

أنهيت رحلتي معهن، التقطت الصور، ودّعت المعلمات، وغادرت المدرسة مع نهاية اليوم المفتوح، والذي تكرّره المدرسة مرة كل شهر.

أمام بوابة المدرسة وقفت أتأمّل خروج الطالبات، يُسارع الباعة المتجوّلون لاستقبالهن، لا تسمع الفتيات لنصائح أهاليهن بعدم شراء المأكولات من الباعة المتجوّلين، ابتسمت تلقائيًّا واشتريت حلوى شعر البنات (غزل البنات). التفت مرة أُخرى لباب المدرسة، وقفت هُناك فتاة تُشبهني حدَّ التطابق، تربط شعرها بشريطة بيضاء، ترتدي ثوبًا أبيض، وتحمل في يدها زمزمية، لوّحت لي، وعدتها أنّي سأعود لأنسج ذكريات أُخرى عن مدرستي. 

•••
د. نهى الكازمي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English