أول مهندسة من ذوي الاحتياجات

فاطمة القدسي؛ معاقة فقدت السمع وتمسّكت بالأمل
نجيب الكمالي
April 29, 2024

أول مهندسة من ذوي الاحتياجات

فاطمة القدسي؛ معاقة فقدت السمع وتمسّكت بالأمل
نجيب الكمالي
April 29, 2024
.

قصة نجاح مُلهِمة ومؤثرة واستثنائية وغير مألوفة، تخللتها محطات معاناة وخليط من الألم والأمل، مع مزيج كافٍ من العزيمة والصبر والمثابرة والطموح الكبير. 

محطات متعددة كان الشغف هو سيد الموقف، والمسيطر على كل ما دونه من عثرات، لتعلن فاطمة سعيد القدسي قدرتها الفائقة على كسب الرهان وقبض نجوم أهدافها الكبار، لتتذوق عصارة جهود مضنية خلال مسيرتها التعليمية، التي تُوِّجت قبل أشهر بحصولها على الشهادة الجامعية من جامعة السعيد بمدينة تعز (جنوبي اليمن) في تخصص الهندسة المعمارية، لتكون بذلك أول مهندسة من ذوي الإعاقة على مستوى اليمن.

الطالبة فاطمة القدسي

الحمَّى التي ذهبت بسمع فاطمة

وُلدت فاطمة القدسي في مدينة تعز في العام 1991، وبعد مرور عدة أشهر من ولادتها أصيبت بحمى شوكية لتفقد السمع بعد ذلك، وكان اكتشاف حالتها في فترة متأخرة من عمرها عندما بدأت تكبر، ما ضاعف من معاناتها وعدم التمكن من إيجاد حلول علاجية لحالتها المتقدمة.

استنفارُ أسرتها، وخصوصًا والدها، حين علم بشكل مؤكد بالمشكلة الصحية المعقدة التي تعرضت لها ابنته فاطمة، وتسفيرها للعلاج في السعودية، مساعٍ لم تُؤتِ أكلها وهدفها المنشود في استعادة سمع فاطمة، كل ما كان متاحًا وقتَها، تركزَ في تزويدها بسماعات للأذن لتعود فاطمة لممارسة حياتها الطبيعية وسط أسرتها. 

وهي في عمر الخامسة، كان من حسن حظها افتتاح معهد ذوي الاحتياجات الخاصة في منطقة الضباب، التابع للجمعية الخيرية لمجموعة هائل سعيد أنعم، وجاء افتتاح المعهد في الوقت الذي كانت فيه فاطمة تحتاج إلى الالتحاق بالدراسة الأساسية. 

سريعًا، التحقت للدراسة في المعهد، وهناك كانت القدسي تسطر تفوّقًا دراسيًّا لافتًا، لتحظى بحبّ وإعجاب مدرسيها ومدرساتها، وهناك أمكن لها تعلم لغة الإشارة بشكل منهجي سليم؛ الأمر الذي انعكس على نقلها لهذه اللغة الجديدة في حياتها الخاصة إلى المنزل، وخصوصًا أخواتها اللواتي بادرن بشكل سريع إلى تعلم لغة الإشارة بهدف الانسجام معها وفهم واستيعاب كل ما تحتاجه. وفي بداية الأمر، كانت الأخوات معتمدات على التعامل مع لغة الإشارة البيتية التي اخترعنها، كونها وسيلة تخاطب بيتية متاحة نسبيًّا.

كانت شغوفة بعالم الرسم والألوان

تقول فاطمة القدسي، في حديث خاص لـ"خيوط": "مثّل التحاقي للدراسة في المعهد منعطفًا مفصليًّا في حياتي الخاصة، وهناك أمكن لي الدراسة في بيئة صحية تراعي الظروف الخاصة التي يعيشها ذوو الإعاقة السمعية، وتعمل على تأهيلهم بشكل سليم، وسريعًا كنت أتعلم لغة الإشارة، لأنقلها لاحقًا إلى المنزل، لتصبح وسيلة تخاطب مباشرة بيني وبين أخواتي؛ الأمر الذي ساعد في تحسّن حالتي النفسية بشكل كبير، وكانت إيمان هي التي تتولى عملية استرجاع الدروس الخاصة بي".

بعد فترة وجيزة من دراستها في المعهد، وتحديدًا من الصف السابع الأساسي، غادرت القدسي المعهد لتنتقل للدراسة في مدارس الدمج في منطقة "صينة" بمدينة تعز، وفي مجمع صينة للبنات، الذي كان يتبع إداريًّا الصندوقَ الاجتماعي للتنمية، أنهت القدسي تعليمها العام بتفوق. 

تواصل القدسي حديثها لـ"خيوط": "كنت شغوفة بعالم الرسم والألوان وعالم الديكورات منذ الصغر، وأجد فيه نفسي، وأمارس هوياتي كما أحب".

شقيقتها إيمان تحدثت لـ"خيوط"، عن اهتمام فاطمة بعالم الرسم، بقولها: "كانت فاطمة شغوفة بتفاصيل خاصة داخل المنزل، حيث كانت تقوم بإصلاح الديكور وتغيير ألوان المنزل، وترتيب الأثاث"، تضيف واصفةً ما تقوم به شقيقتها: "فاطمة كانت ماهرة في (البَعْسَسة)"؛ بحسب التعبير الدارج للانشغال بالتفاصيل الصغيرة. 

نتيجة لهذا الشغف المتراكم، كانت فاطمة ترسم ملامح مستقبلها القادم، تقول القدسي: "طلبت تسجيلي في المعهد التقني، قسم الديكور أو قسم المعماري، وكنت في البداية أميل إلى قسم الديكور أكثر، هناك كنت أخوض أول تجربة متاحة لفئة الصم في المعهد التقني بتعز، واستطعت إقناع عدد من زميلاتي في الالتحاق بذات التخصص، وكان لي تأثير وحضور قوي على أقراني في ذات الفئة".

"كان التنمر على رأس ما واجهته من بعض زميلاتي في الجامعة، وما ضاعف من انتكاستي النفسية أيضًا، عدم تقبل هيئة التدريس وجودَ فتاة صماء في قاعة الدراسة هناك. لكن بمقابل هذه المواقف السلبية التي واجهتها، حظيت بدعم إيجابي لا محدود من أحد أساتذتي".

أثناء دراستها في المعهد مدة عامين، حظيت القدسي بدعم واهتمام خاص من رجل الأعمال عبدالله عبده سعيد أنعم، حيث كان معجبًا بتميزها ومراقبًا لها منذ بداياتها التعليمية الأولى في معهد ذوي الاحتياجات الخاصة، في منطقة الضباب، ليأتي قراره باستدعاء فاطمة وزميلاتها في قسم الديكور لزيارة خاصة إلى فندق سوفتيل بتعز، بهدف التعرف عن قرب على التصميمات الخاصة بالفندق. وجاءت توجيهاته بعد ذلك، إلى دعوة القدسي للالتحاق بوظيفة خاصة في قسم المشاريع التابع للجمعية الخيرية لمجموعة هائل سعيد أنعم. وفي قسم التصاميم، عملت بوظيفة مساعد رسام هندسي، وخلال ثلاث سنوات من عملها هناك، كانت تعمل على تطوير مهاراتها بشكل متسارع، لتأتي أحداث الحرب التي شهدتها مدينة تعز مطلع العام 2015، وتحول بينها وبين مقدرتها على الاستمرار في المواظبة في عملها هناك، وبعد فترة وجيزة جاءت توجيهات إدارة الجمعية سريعًا بتقديم منحة دراسية خاصة للالتحاق بالدراسة الجامعية في قسم الهندسة المعمارية بجامعة السعيد، الخاصة والتابعة لمجموعة هائل سعيد.

الطالبة فاطمة القدسي

حينما تجاوزت تنمُّر قريناتها 

وفي جامعة السعيد، كانت القدسي تقف في مواجهة تحدٍّ جديد، حيث أفصحت إدارة قسم الهندسة المعمارية عن تخوفها وعدم تقبلها دخول فتاة صماء للدراسة في قسم الهندسة المعمارية، وفي مواجهة هذا الموقف المعارض، وقفت شقيقتها إيمان بحزم لتسند أختها مراهنةً على قدراتها في تجاوز هذا الموقف الصعب الذي يحول بينها وبين حلمها المنشود، لتضع إدارة القسم أمام خيار وحيد يقضي بمنح أختها فرصة تجريبية يتم إثرها الحكم بشكل عملي على قدرة ومهارة فاطمة من عدمها، وجاءت النتيجة لصالح فاطمة، لتلتحق فعليًّا بالدراسة في قسم الهندسة المعمارية. 

واجهت فاطمة في بداية دراستها في الجامعة، العديدَ من العقبات والعراقيل، وعن ذلك تقول لـ"خيوط": "كان التنمر على رأس ما واجهته من بعض زميلاتي في الجامعة، الأمر الذي انعكس سلبًا على نفسيتي، ما دفعني إلى إعلان عدم رغبتي في مواصلة الدراسة الجامعية بعد فترة قصيرة، وما ضاعف من انتكاستي النفسية أيضًا عدم تقبل هيئة التدريس وجود فتاة صماء في قاعة الدراسة هناك. لكن بمقابل هذه المواقف السلبية التي واجهتها، حظيت بدعم إيجابي لا محدود من المهندس عبدالعزيز الحمادي؛ الأمر الذي مثّل بداية سليمة لتجاوز وضعي النفسي المتأزم الذي داهمني مؤقتًا، وجعلني أكتسب حافزًا قويًّا للمُضي قُدمًا صوب تحقيق أهدافي المستقبلية". 

الطالية فاطمة القدسي مع زميلاتها وزملائها الخريجين

وخلال دراستها الجامعية، سطّرت فاطمة القدسي حضورًا مميزًا في دراستها للهندسة المعمارية، وسط إعجاب الجميع، لتحصد ثمرة مجهوداتها بتفوق لافت، بحصولها على شهادة البكالوريوس في الهندسة المعمارية، لتكون أول مهندسة معمارية من ذوي الإعاقة في اليمن. 

بهذا التميز، صارت فاطمة قدوةً ومُلهِمة لأقرانها من فئة الصم وذوي الإعاقة في اليمن، وتطمح في الحصول على فرصة خارجية لمواصلة مشوارها العلمي والعملي في إحدى الدول، حيث تتوفر فرص خاصة لذوي الإعاقة بشكل كبير.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English