إدواردو غاليانو وكرة القدم

مسرود شاهق يشير إلى سحرٍ مكتوب
خيوط
November 11, 2022

إدواردو غاليانو وكرة القدم

مسرود شاهق يشير إلى سحرٍ مكتوب
خيوط
November 11, 2022

حينما ترجم صالح علماني كتاب الروائي الأوروغواياني، إدواردو غاليانو: "كرة القدم بين الشمس والظل"(*) إلى العربية، كان يعيد تقديم هذا الكاتب من الزاوية المغايرة للروائيين اللاتينيين ومدرستهم السردية الذائعة (الواقعية السحرية)، وفي هذا الكتاب يتكامل سحران أنتجتهما قارة الألوان والتعدد (سحر الرواية وسحر كرة القدم) التي اشتهرت بهما.

اقتحم هذا الفضاء بإرث كبير، ليس لأنّ بلده، الأوروغواي، هي من صنعت الحدث في تاريخ كأس العالم بتنظيمها أول بطولة والفوز بها قبل اثنتين وتسعين سنة، وإنّما لخبرة الروائيين هناك الذين يصنعون من المهمل وغير المطروق عالمًا من السحر، كما صنع هو من الموسيقى الشعبية وغناء الجوّالين أعمالًا مهمة ألهمت العديد من مؤلّفي الموسيقى الشعبية والسيمفونية في كلّ أنحاء العالم، ترجمت أعماله إلى 28 لغة.

ومن بين أشهر ما كتبه غاليانو، غير كتاب "كرة القدم بين الشمس والظل": "ذاكرة النار"، و"عروق أمريكا اللاتينية النازفة للدماء"، و"أيام وليالٍ من الحبّ والحرب"، و"كتاب العناقات"، و"الكلمات التي تمشي"، و"عاليها سافلها"، و"أصوات الزمن"، و"المرايا"، وسواها.

يمزج غاليانو في أسلوبه المفردات والأنماط التي عرفها الأدب العالمي من الرومانسية إلى الواقعية والرمزية وكتابات الحداثة والسوريالية، لكنّه في ذلك كله، يحاول تحطيم النمط وشق طريقه الخاص.

_____________________________ 

مقتطفات من كتاب "كرة القدم بين الشمس والظل" 

الحَكَم

الحَكم هو متحكّم في التعريف، إنّه الطاغية البغيض الذي يمارس ديكتاتورية دون معارضة ممكنة، والجلاد المتكبر الذي يمارس سلطته المغلقة فيما الصفارة في فمه؛ حيث ينفخ الحكم رياح القدر المحتوم..

خلال أكثر من قرن كان الحكم يرتدي لون الحداد، على من؟ على نفسه! أمّا الآن، فإنّه يخفي حداده بالألوان.

المدير الفنّي

يصرخ الجمهور به بعد الهزيمة:

- ألا تموت مطلقًا؟

وفي يوم الأحد التالي يدعونه لأن يموت.

هو يظن أنّ كرة القدم عِلم، وأنّ الملعب مختبر، ولكنّ المسؤولين والمشرّعين لا يطالبونه بامتلاك عبقرية آينشتاين وبُعد نظر فرويد وحسب؛ بل وبقدرات عذراء لورديك الإعجازية، وقدرة غاندي على التحمل.

اللاعب

يركض لاهثًا على شفير الهاوية. في جانبٍ تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر هوة الدمار.

الحي الشعبي الذي خرج منه يجسده بأسره؛ فاللاعب المحترف قد نجا من العمل في المصنع أو المكتب، إنّهم يدفعون له من أجل توفير التسلية، لقد ربح اليانصيب، وبالرغم من أنّه يتوجّب عليه أن ينضح عرقًا مثل مرشّة، دون أن يكون له الحق في التعب أو الخطأ، فإنّه يظهر في الصحف والتلفزيون. النساء يتنهّدن من أجله، والأطفال يريدون تقليده، أمّا هو الذي بدأ يلعب من أجل متعة اللعب، في الشوارع الترابية للأحياء الهامشية، فقد صار يلعب الآن في الاستادات الكبرى من أجل واجب العمل، وهو مجبر على الربح.

رجال الأعمال يشترونه، يبيعونه، يديرونه، ويسلم هو قيادَهُ لهم مقابل الوعد بمزيدٍ من الشهرة ومزيد من المال. وكلما نال شهرة أكبر، وكسب أموالًا أكثر، يصبح أسيرًا أكثر.

في المهن الإنسانية الأخرى، يأتي الغروب مع الشيخوخة، أما لاعب كرة القدم فقد يشيخ وهو في الثلاثين من عمره.

إنّه يخضع لانضباط عسكري صارم، ويعاني كل يوم عقوبة التدريب القاسية، ويخضع لقصف المسكّنات، وتسلل الكورتيزون الذي ينسيه الألم، ويزيّف حقيقة حالته الصحية. وعشية المباراة المهمة يحبسونه في معسكر اعتقال فيقوم بأعمال شاقة، ويأكل أطعمة غبية، ويسكر بالماء وحده، وينام وحيدًا.

في المهن الإنسانية الأخرى، يأتي الغروب مع الشيخوخة. أما لاعب كرة القدم، فقد يشيخ وهو في الثلاثين من عمره؛ لأنّ العضلات تتعب باكرًا، وعندئذٍ تسمع من يشير إليه قائلًا:

- هذا لا يمكنه أن يسجّل هدفًا حتى في ملعب يميل نزولًا.

- هذا لن يسجّل هدفًا حتى ولو قيّدوا له يدَيْ حارس المرمى.

وقد يشيخ لاعب كرة القدم قبل الثلاثين إذا ما أفقدته ضربة كرةٍ صوابَه، أو إذا ما مزّق سوء الحظ إحدى عضلاته، أو كسرت ركلة إحدى عظامه التي لا سبيل إلى إصلاحها، وفي يوم مشؤوم، يكتشف اللاعب أنه قد قامر بحياته، وأنّ المال قد تبخّر وتبخّرت معه الشهرة أيضًا، فالشهرة سيدة محترمة مراوغة، لم تترك له حتى رسالة عزاء صغيرة.

حارس المرمى

يسمونه البوّاب، والغولار، وحارس حاجز، وحارس القوس، ولكننا نستطيع أن نسميه الشهيد، الوثن، النادم، أو المهرج الذي يتلقى الصفعات، ويقولون إنّ المكان الذي يطأه لا ينبت فيه العشب أبدًا.

إنه وحيد. محكومٌ عليه بمشاهدة المباراة من بعيد. ينتظر وحيدًا إعدامه رميًا بالرصاص بين العوارض الثلاث، كان في السابق يرتدي الأسود، مثل الحكم، أمّا الآن، فلم يعد الحكم يتنكّر بزي الغراب، وصار حارس المرمى يسلي وحدته بتخيلات ملونة.

حارس المرمى هو المذنب دائمًا، وهو الذي يدفع الثمن، حتى لو لم يكن مذنبًا، فعندما يقترف لاعب كرة خطأً يستوجب ضربة جزاء، يتحمّل هو العقوبة.

إنّه لا يسجل أهدافًا؛ بل يقف ليمنع تسجيلها، ولأنّ الهدف كرة القدم، فإنّ مسجّل الأهداف يصنع الأفراح، أمّا حارس المرمى، غراب البين، فيحبطها..

حارس المرمى هو المذنب دائمًا، وهو الذي يدفع الثمن، حتى لو لم يكن مذنبًا، فعندما يقترف لاعب كرة خطأ يستوجب ضربة جزاء، يتحمّل هو العقوبة: يتركونه هناك، وحيدًا أمام جلاده، في اتساع المرمى الخاوي. وعندما يتعرض فريق الكرة لسوء، يكون عليه أن يدفع الثمن تحت وابل من الكرات، ليكفّر عن ذنوب الآخرين.

يمكن للاعبين أن يخطِئوا مرات، ولكنهم يستردون مكانتهم بعد القيام بمراوغة استعراضية، أو تمريرة بارعة، أما هو فلا يمكنه ذلك، الحشود لا تغفر لحارس المرمى.

بخطأ واحد قد يدمّر حارس المرمى مباراة كاملة، أو يخسر البطولة، وعندئذٍ ينسى الجمهور فجأة كلَّ مآثره، ويحكم عليه بالتعاسة الأبديّة، وتلاحقه اللعنة حتى نهاية حياته.

الجول

الجول هو ذروة المتعة في كرة القدم، ومثل ذروة التهيج الجنسي.

المشجع

المدينة تختفي، الروتين ينسى، ولا يبقى شيء سوى المعبد. وفي هذا الحيّز المقدس، تعرض ألوهيتها الديانة الوحيدة التي لا وجود لملحدين بين معتنقيها.

ومع أنّ المشجع يستطيع مشاهدة المعجزة براحة أكبر على شاشة التلفزيون، إلّا أنّه يفضّل أن يحجّ إلى هذا المكان؛ حيث يمكنه أن يرى ملائكته بلحمهم وعظمهم، وهم يتبادلون الركل ضد شياطين هذه النوبة.

المشجّع هنا يلوّح بالمناديل، يبتلع لعابًا، غلوب، يبتلع سمًّا، يأكل قبعته، يهمس بصلوات ولعنات، ثم يمزّق حنجرته فجأة بهاتف مدوّ، ويقفز مثل برغوث، معانقًا المجهول الذي يصرخ معلنًا الهدف بجانبه، وعلى امتداد الصلاة الوثنية، يكون المشجع كثيرين، فهو يشاطر آلاف الورعين من أمثاله القناعة بأنّنا الأفضل، وبأنّ جميع الحكام مرتشون، وجميع الخصوم مخادعون.

المتعصّب

المتعصّب هو المشجع في مشفى المجانين.. يصل المتعصّب إلى الملعب ملتحفًا راية ناديه، وبوجه مطليّ بألوان القميص المعبود، مسلّحًا بأدوات مقعقعة وحادّة، وبينما هو في الطريق يكون قد بدأ بإثارة الكثير من الصخب والشجار، وهو لا يأتي وحده مطلقًا.

إنّه ينظر إلى المباراة وهو في حالة صرع، ولكنه لا يراها. فما يهمه هو المدرجات؛ لأنّ ميدان معركته في المدرجات، ومجرد وجود مشجع للنادي الآخر يشكّل استفزازًا لا يمكن المتعصب أن يتقبله، الخير ليس عنيفًا، ولكنّ الشرّ يجبره على ذلك، والعدو دائمًا مذنب، ويستحق لوي عنقه، ولا يمكن للمتعصب أن يسهو، لأنّ العدو يترصد في كل مكان.

الاستاد

هل دخلت يومًا إلى استاد مقفر؟ جرب ذلك.

توقف في منتصف الملعب وأنصت. ليس هناك ما هو فارغ أكثر من استاد فارغ، ليس هناك ما هو أكثر بُكمًا من المدرجات الخاوية.

الكُرَة

للكرة نذالتها أيضًا، فهي لا تدخل أحيانًا إلى المرمى؛ لأنّها تبدّل رأيها وهي في الجو، وتنحرف عن مسارها. ذلك أنّها ساخرة جدًّا، فهي لا تطيق أن يعاملوها ركلًا بالأقدام، ولا أن يضربوها انتقامًا. إنّها تطالب بأن يداعبوها برقة، أن يقبّلوها، أن يسمحوا لها بالنوم على الصدور أو الأقدام، وهي متكبّرة، وربما مغترّة بنفسها، ولا تنقصها المبرّرات لتكون كذلك؛ فهي تعرف جيدًا أنّ البهجة تملأ أرواحًا كثيرة، حين ترتفع بطريقة ظريفة، وأنّ أرواحًا كثيرة تختنق بالضيق عندما تسقط بطريقة سيئة.

بيليه

مئة أغنية تذكر اسمه. في السابعة عشرة من عمره، كان بطل العالم وملك كرة القدم. ولم يكن قد أكمل العشرين حين اعتبرته الحكومة البرازيلية ثروة وطنية ومنعت تصديره. كسب ثلاث بطولات عالمية مع المنتخب البرازيلي، وبطولتين مع نادي سانتوس. وبعد تسجيل هدفه الألف، واصل تسجيل الأهداف. لعب أكثر من ألف وثلاثمئة مباراة، في ثمانين بلدًا، مباراة بعد أخرى بإيقاع أشبه بالجلد، وأدخل قرابة ألف وثلاثمئة هدف. وفي إحدى المرات أوقف حربًا؛ فقد توصلت نيجيريا وبيافرا إلى هدنة لمشاهدته وهو يلعب.

فرؤيته وهو يلعب تستحق هدنة وأكثر من هدنة بكثير. عندما ينطلق بيليه راكضًا، يخترق الخصوم وكأنه سكين. وعندما يتوقف يضيع الخصوم في المتاهات التي ترسمها قدماه. وحين يقفز، يعلو في الهواء كما لو أنّ الهواء سُلّمٌ. وعندما يسدّد ضربة حرة يرغب الخصوم الذين يشكلون الحاجز بالوقوف بالعكس، وجوههم إلى المرمى، كي لا يضيعوا رؤية الهدف الذي سيحققه.

الصيدليات الراكضة

في مونديال 1954، عندما حقّقت ألمانيا الإسراع المذهل الذي أخرج الهنغاريين من الحساب، قال فيرنيك بوشكاش إن صالة استبدال ملابس الفريق الألماني تعبق برائحة حديقة شقائق نعمان، وإن هذا له علاقةٌ ما بحقيقة أنّ الفائزين قد ركضوا وكأنهم القطارات.

وفي عام 1987، نشر حارس مرمى الفريق الألماني توني شوماخر كتابًا، قال فيه:

"هنا تفيض العقاقير وتنقص النساء"، وكان يشير بذلك إلى كرة القدم الألمانية، وبالتالي إلى كرة القدم الاحترافية بأسرها. وفي كتابه Der anfiff (صافرة البداية)، روى شوماخر أنّ لاعبي المنتخب الألماني قد تلقّوا في مونديال 1986، كميات لا حصر لها من الحقن والحبوب وجرعات كبيرة من مياه معدنية غامضة كانت تسبِّب لهم الإسهال. هل كان ذلك الفريق يمثّل بلاده أم الصناعة الكيميائية الجرمانية؟ وحتى من أجل النوم، كان اللاعبون مجبرون على تناول حبوب خاصة. وقد كان شوماخر يبصقها، لأنّه كان يفضّل تناول البيرة من أجل النوم.

كامو

في 1930، كان ألبير كامو هو القديس بطرس الذي يحرس بوابة مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر. كان قد اعتاد اللعب كحارس مرمى منذ طفولته، لأنّه المكان الذي يكون فيه استهلاك الحذاء أقل. فكامو، ابن الأسرة الفقيرة لم يكن قادرًا على ممارسة ترف الركض في الملعب، وكل ليلة كانت الجدة تتفحص نعل حذائه وتضربه إذا ما وجدته متآكلًا.

وخلال سنوات ممارسته لحراسة المرمى تعلم كامو أشياء كثيرة:

- "تعلمتُ أنّ الكرة لا تأتي مطلقًا نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها. وقد ساعدني ذلك كثيرًا في الحياة، وخصوصًا في المدن الكبيرة، حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة".

_____________________________

(*) كتاب "كرة القدم بين الشمس والظل"، ترجمة صالح علماني، دار طوى، 2013.

- (حفريات) https://hafryat.com/ar/blog

- أبجد https://www.abjjad.com/book 

•••
خيوط

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English