حلم راعي الإبل الصغير

كيف ننظّف عقولنا من بصاقهم؟
الغربي عمران
April 13, 2023

حلم راعي الإبل الصغير

كيف ننظّف عقولنا من بصاقهم؟
الغربي عمران
April 13, 2023
اللوحة ل: عبدالجبالر نعمان

القراءة، وخاصة الروائيّة، متعةٌ لا يعيشها الكثيرون، فما بالنا بالكتابة الروائية التي هي حياة يفتقدها كثيرٌ من الناس. وأقصد حسب تجربتي، تعرفت من خلالها على نفسي، إذ إنّها حرّرتني من نسبة كبيرة من الغيبيات، وحررتني من مُسلَّمات كثيرة، ومن الغلو في التسلط، لتزجي إليّ مفاهيم ديمقراطية، حين قربتني من المرأة، وجعلت تلك المعايير الدينية والعِرقية والسياسية تتلاشى، لأشعر بأني كائن إنساني، ولا فرق عندي بين ذكر وأنثى، ولا أسود وأبيض، ولا بين مختلف منتسبي الأديان. ذلك التحول يعد نتيجة لقراءتي المستمرة، ثم تسللي إلى كتابة القصة والرواية، من خلال ذلك التسلل تجاوزت مفاهيم كثيرة، لتحل مفاهيم حياة جديدة لا تشبه ما قبلها. 

كلام عام، أليس كذلك؟! أسألك قارئي العزيز.

ولأوضح؛ في بداية صباي كنت راعيًا لإبل في شعاب قريتي الجبلية، ثم سافرت بمعية أسرة عم لي إلى السودان لأدرس بمدرسة قبطية الصف الأول والثاني الابتدائي. بعدها عادوا بي إلى اليمن، لأهاجر من جديد إلى السعودية بحثًا عن عمل، وكذلك لأواصل دراستي. وهناك أنهيت دراسة ما قبل الجامعة. وبعدها عدت إلى اليمن في الثمانينيات والتحقت بجامعة صنعاء، كلية الآداب، قسم التاريخ. 

سعيت بعد التخرّج إلى ممارسة هوايتي في الرسم، ثم كتابة المقالات، ومنها إلى القصة القصيرة، لأهجر كل ذلك إلى كتابة الرواية؛ ما أدّى إلى مضاعفة معدلات القراءة، خاصة قراءة الروايات. رواية بعد رواية، تشكَّلَ لديّ وعيٌ جديد، وزوايا رؤية مختلفة للدين والأعراق والعلاقات الإنسانية، وأضحيت أرى ماضي أيامي كما لو كانت لشخص آخر، فلا للعشائرية ولا القومية ولا التمذهب، يعني أنّها مجرد أفكار جوفاء ماضوية. لأدرك أنّ الرواية قراءة وكتابة لم تكن مجرد هواية أو تسلية، بل هدم وبناء، إذ إنّ كل رواية قراءتها أحدثت عصفًا ذهنيًّا، وتغيرًا تدريجيًّا في التوجهات والفكر. بل إنّها كانت تدفعني للتخلص من كل ما أُملِيَ عليّ منذ صغري، لأجد وعاء عقلي خاليًا، حينها بدأت أرى الإنسانية وطنًا، وانتماء دون أيّ مؤثرات جغرافية أو حدود سياسية أو عِرقية.

راعي الإبل الصغير الذي كُنته، الطالب في المدرسة القبطية، عامل البناء، ممثّل القرية، إلى تعاونيات المديرية، رئيس المجلس المحلي، عضو مجلس النواب، وكيل أمانة العاصمة، ثم المرحلة الأخيرة، مرحلة الروائي. مراحل حياتية لا يشابه بعضها بعضًا، وكأنّ كلّ مرحلة تخص كائنًا لا يمت بصلة إلى شخصيات المراحل السابقة.

المرحلة التي أعيشها الآن، وهي مرحلة كتابة الرواية، وما يمكن تصوّره من شخصيات لها حيوات متداخلة ومنفصلة في آن، من خلال حكايات وحوادث، تستقر في عقلي. بل وتخلق مني الشخصيات كائنًا متشظّيًا، فأنا في الوقت نفسه كل تلك الشخصيات، أمسيت أتصرف وأتكلم وأعامل من حولي بسجاياها المختلفة، وأتطبع بطبائعها المتعددة، لكنّي في كل ذلك كائن مختلف لا يرى جوهره من حوله، فقط يعرفون الشكل، وما تعودوا عليه دينيًّا وعرقيًّا وسياسيًّا. وأتمنى ألّا يُدركوا من يكون ما في داخلي. مقابل ذلك، بقيت على الدوام أراهم أقرانًا وأحِبّة، أيًّا كانت عقائدهم ومفاهيمهم وتوجهاتهم.

جعلتني الرواية أشعر دومًا بأنّي في فسحة لا يعيشها من حولي، لذلك قد تنتابني بعض الأوقات أحاسيس بالغربة؛ غربة قد تصلني إلى شقاء، لكني أتحايل عليها بالسخرية منها ومن نفسي، أخفف الجدية في تفكيري، وأجنح للسخرية، وأعلم أنّ تلك المساحة لا توجد بخارجي، ولا أراها في كثيرٍ ممّن حولي، فقط أنا من يدركها. هي مساحة من التسامح مع ذاتي ومع من حولي، مساحة أرى من أعيش بينهم في صراعٍ باحثين عن حلول خارج ذواتهم، ولا يعرفون أنّ حلولها تقبع في دواخلهم. 

الرواية صالحتني مع نفسي، ومع كل الأفكار المتضادّة، وكذلك مع ما ينبذه الناس وما يخضعون له.

من جانب آخر، أستطيع القول إنّ الرواية جعلتني كائنًا ديمقراطيًّا، بعد أن تعلمت على يدي شخصيات أعمالي أن أضع خيارات كردود أفعال لأي فعل، وأترك لتلك الشخصيات أن تختار في صراعها مع بعضها؛ فقد دربتني، عملًا بعد آخر، أن أتنازل عن هيمنتي عليها، وأترك لها أن تشق طريقها، بعد أن أضحى لديها الوعي بإدارة الأزمات، والخروج منها بشكل مدهش، فقط عليّ أن أضع لها الخيارات لمسارات حيواتها ولها أن تختار. 

ولذلك، كثيرًا ما تسلك شخصيتي في حياتها غير ما كنت قد رسمت لها، بل وينتج عن سلوكها غير المتوقع أفعالٌ تقود إلى غيرها لم تكن على البال، أجدها أكثر إثارة، وإن كان سلوكها غير منطقي، ما يثير لديّ موجة من الضحك؛ لإيماني أنّه لا يوجد منطق ولا مطلق، وكل شيء ومنها الأفعال، تحمل نسبًا متفاوتة من الصح والخطأ، وأنّ عليَّ أن أتقبّل كل خياراتها، لأتجاوزه إلى ما بعده. لتنتهي بعض أعمالي بنهايات لم أكن قد خططت لها، ومع ذلك أتقبّل خيارات شخصياتي لنهاياتها. 

وهكذا، لم أعد ذلك المجادِل العتيد، ولا المُصِرّ العنيد على مواقفه؛ إنّ مفهوم الكرامة والرجولة والأخلاق قد غيّرتها لديّ شخصيات أعمالي.

الأمر الآخر؛ لم تعدّ المرأة كائنًا ناقصًا، ولا أقَلّ ما أكون أنا، فهي مثلما أنا، لها خياراتها ولها ما تشاء أن تعيش دون وصي. هكذا جعلتني الرواية، بعد أن دفعتني لتنظيف ما صُبّ في عقلي، فلا يوجد قائدٌ أو ملهم غير عقلي، ولذلك يرجع الفضل بتنظيفه إلى قراءة وكتابة الرواية، فلم تعد لي مفاهيم ذلك الصبي، ولا ما كنت بعده، وحين يصحو من كنتُهم أقاومهم، وكأنهم ينهضون من قبور قديمة. مستمرٌّ في كنس ما علق في جماجمهم.

لم تكن فترة الطفولة إلا سعيدة، لكني أرى بأن عقلي كان مجرد مبصقة لمن حولي. الجميع يبصق فيه قناعاته بمحبة ووداعة. الجميع حريصون على تربيتي وتزويدي ببصاق من سبقهم.

خلاصة القول؛ إنّ الرواية مهّدت لي لأتصالح مع ذاتي ومع الكائنات الأخرى؛ إنسان وحيوان وشجر وحجر وهواء وماء. كل شيء لم يعد بيني وبينه إلّا الوئام. 

لكن ما يغيظني هو استمرار تلك الحدود السياسية التي تحد من حركة البشر، وتلك الأعلام والأناشيد التي عكفوا على إقناع المجتمعات بأنّها تمثلهم، بينما هي تكريس هيمنتهم، وبذلك استطاعوا أن يحموا مصالحهم، وليست لعزة الأفراد والمجتمعات، ولا تخدم حرياتهم أو تنمي سعادتهم. هكذا أفهمتني الرواية قراءةً وكتابة.

أتمنّى أن يقرأ الجميع الرواية، فهي فلسفة وتاريخ وجغرافية وعلوم اجتماعية وسياسية، وأن يكتبوها.

الرواية تتضمّن قيمًا إنسانية، كالحرية والسلام والمحبّة والمساواة والديمقراطية. هي كل شيء جميل وعقلاني، عدا الخرافة والتسلط، أو ما يهين كرامة الإنسان.

الرواية تقودنا للصدق والجمال، وإلى كلِّ ما يصنع من الفرد كائنًا إنسانيًّا خلّاقًا، وطنه كل مكان في كرتنا الأرضية، وكل البشر إخوته. 

قد يقول قائل: إنّ الآخر لن يقبلك، وإنّ هذه الأفكار أفكار طوباوية أو مثالية. وأقول: من يشبهني كثر، ألتقيهم من بين أفراد أسرتي ومدينتي وألتقيهم في تنقلاتي بين المجتمعات الإنسانية ومن لا يقبلوني هم نخب متسلطة، أو تجار دين من رسموا الحدود، وشرّعوا للحروب والدمار، ونشروا ثقافة الكراهية، وتكريس التجهيل، لتقسم المجتمعات الإنسانية، وتحويلها إلى زرائب أو حظائر تخصهم، ولكي يحافظوا على مصالحهم، استمرّوا بالبصق في عقولنا، وتدجيننا.

•••
الغربي عمران

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English