أطباء يتحرشون بمرضاهم

عندما تتحول العيادات وغرف العلاج إلى مصدر خوف
منى محمد
March 8, 2024

أطباء يتحرشون بمرضاهم

عندما تتحول العيادات وغرف العلاج إلى مصدر خوف
منى محمد
March 8, 2024
الصورة لـ: حمزة مصطفى

لم تتوقع أنّ ذهابها إلى الطبيب بمفردها، سيجعلها تعيش كابوسًا يلازمها كلما تعرضت لمشكلة صحية تحتاج فيها إلى زيارة طبيب؛ تقول مها محمد (اسم مستعار)، البالغة من العمر 25 عامًا: "كنت أعاني من صداع مزمن سبَّب لي مشاكل كثيرة، وسمعت عن دكتور جيد في المركز الطبي المجاور لمنزلنا في مديرية السبعين بالعاصمة صنعاء، وذهبت لزيارته ولم يكن معي أحد حينها؛ لأني لم أتوقع أن أواجه مشكلة، كالتحرش من طبيب وفي عيادة".

مضيفة: "شرحت للدكتور حالتي ومعاناتي مع الصداع، فطلب مني الاستلقاء على السرير، وقال بعد أن لاحظ خوفي، أن السبب ربما مشكلة باطنية، ثم طلب مني الاستلقاء على بطني وبدأ يتحسس جسدي ويتحرش بي".

تتابع مها: "بمجرد أن بدأ بلمس جسمي والتحرش بي، نهضت بسرعة وصرخت في وجهه، بدأ يتلعثم ويشير لي بالسكوت وهو يرتجف، وخرجت من الغرفة مباشرة". لم تصدق مها ما حدث في غرفة العلاج، توضح: "لأننا نذهب إلى الأطباء لحل مشاكلنا الصحية، وليس لمضاعفة الألم".

لم تقدم مها أي بلاغ بالطبيب لقيامه بجريمة التحرش بها داخل غرفة العلاج، إلى أي جهة رسمية أو تشتكي به لأحد من أسرتها؛ لخوفها من أن تُتّهَم هي بالخطأ، وتؤكد أنّها تصاب بالدوار والصداع في كل مرة تتذكر فيها الموقف.

تعرّف منظمة الصحة العالمية العنف الجنسي بأنه "أيُّ فعلٍ جنسي أو محاولة لممارسة الجنس، أو فعل آخر موجه ضد النشاط الجنسي لشخص ما باستخدام الإكراه، من جانب أي شخص بغض النظر عن علاقته بالضحية في أي مكان"، ومن هذا التعريف نجد أن العنف الجنسي يشمل أشكالًا متعددة؛ منها التحرش، والاعتداء الجنسي، ويعد أحد الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وأحد أشكال العنف.

حدّث ولا حرج

تواصلنا مع المجلس الطبي الأعلى بصنعاء، وأفادنا مسؤول المتابعة والتنفيذ في المجلس، الدكتور جمال الشارحي، أنّ "الشكاوى المقدمة للمجلس تكون بخصوص أخطاء فنية فقط، وأن الشكاوى المقدمة بخصوص التحرش نادرة، وإن حصل تحرش فيكون برضا الطرفين"؛ حسب قوله.

ضعف القانون الرادع لجريمة التحرش سببٌ رئيسي للتشجيع على توسع وانتشار جريمة التحرش، التي يعتبرها القانون اليمني جريمة غير جسيمة، وفي معظم حالات التحرش يتوجب الإفراج عن المتهم فور تقديم ضمان حضوري.

وأكّد المسؤول في المجلس الطبي، أنّ معظم حوادث التحرش تحدث من موظفي التمريض، فـ"الأطباء وأصحاب الدرجات العليا بنسبة 99% هم أصحاب أمانة وعند القسم الطبي، أما موظفو التمريض، ومن في درجاتهم، فحدث ولا حرج"، وفق تعبيره.

ودعا عند تعرض أي شخص للتحرش إلى "تقديم شكوى للمجلس الطبي، لإحالته إلى لجنة أخلاقيات المهنة، وإذا ثبت فعلًا التصرف -يقصد تحرش الطبيب بمرضاه- يتم سحب الترخيص بصورة مؤقتة أو دائمة، بحسب نوع التحرش".

لم تكن مها هي الوحيدة التي وقعت ضحية طبيبها المعالج، فقد وثّقنا في التحقيق 23 حالة في عدة محافظات يمنية، لمحاولات استغلال أطباء ضعفَ مرضاهم وحاجتهم للعلاج والتحرش بهم، بأشكال وصور مختلفة.

دواء مقابل التحرش

وضعت علياء عبدالقادر مولودها الأول وهي في عامها التاسع عشر، وبدأت معه معاناتها مع المرض النفسي، ورحلة العلاج من طبيب لآخر، حتى استقرت على طبيب بدرجة اختصاصي، ويملك مركزًا طبيًّا في العاصمة صنعاء، وأصبح طبيبها والمشرف على حالتها منذ سنوات.

تقول علياء عن المرة الأولى التي تحرش بها طبيبها: "كنت جالسة مع أختي في العيادة النفسية وأنا أشرح للدكتور ما أشعر به، وفي وسط الكلام قاطعني وقال: "كم أنتِ جميلة!"، وفي نفس اللحظة أمسك يدي، كنت أظنه متعاطفًا معي ويريد الرفع من معنوياتي، ولم يخطر في بالي أن ذلك تحرش، حتى إنه كان يعطيني الدواء بدون مقابل في بعض الزيارات، ويحثني على زيارته باستمرار".

تضيف: "ذهبت في أحد المرات برفقة أختي وزوجها، وبعد أن غادرنا العيادة، أرجعت إليه الدواء بعد أن اشتريناه من الصيدلية المجاورة للمستشفى الخاص بهذا الطبيب، طلب مني أن أكشف عن وجهي، ولم أجد مشكلة في ذلك، لظنّي أنه يريد أن يفهم ما أقوله فربما لا يسمعني، لأتفاجأ بإرساله قبلة إليّ بيده، شعرت وقتها بالغضب وخرجت مسرعة".

كغيرها من ضحايا التحرش في المجتمع اليمني، لم تجرؤ علياء على الحديث عما حدث في غرفة الطبيب، فهي متهمة بكثرة الظنون والشك والحساسية في رأي الجميع بسبب مرضها، حسب قولها.

نصوص قانونية

نصت المادة (270) من قانون الجرائم والعقوبات رقم 12 لسنة 1994، في القانون اليمني على أنّ "كل فعل يطال جسم الإنسان ويخدش الحياء، يقع من شخص على آخر، دون الزنا واللواط والسحاق، يعتبر هتكًا للعرض".

ونصت المادة (271) من نفس القانون، على أنه "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة، أو بالغرامة التي لا تُجاوز ثلاثة آلاف ريال، كل من هتك عرض إنسان حي بدون إكراه أو حيلة، ويعاقب من وقع عليه الفعل برضاه، بذات العقوبة".

وتنص المادة (272) على: "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات، كل من هتك عرض إنسان حي بالإكراه أو الحيلة، أو إذا كان المجني عليه أنثى لم تتجاوز 15 سنة، أو ذكرًا لم يتجاوز 12 سنة، أو معدوم الإرادة، أو ناقصًا لأي سبب، أو إذا كان الجاني من أصول المجني عليه، أو من المتولين تربيته".

وجاء في المادة (273) من القانون نفسه: "الفعل الفاضح المخِلّ بالحياء، هو كل فعل ينافي الآداب العامة، أو يخدش الحياء، ومن ذلك التعري، وكشف العورة المتعمد، والقول، والإشارة المخلّ بالحياء والمنافي للآداب". ونصت المادة (274) على: "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على 6 أشهر أو بالغرامة، كل من أتى فعلًا فاضحًا علانية، بحيث يراه أو يسمعه الآخرون".

وفي المادة (275): "يعاقب بالحبس مدة لا تُجاوز سنة أو بالغرامة، كل من أتى فعلًا فاضحًا مع أنثى بغير رضاها، فإذا كان الفعل عن رضى منها، يعاقب الاثنان بالحبس مدة لا تزيد على 6 أشهر، أو بالغرامة التي لا تجاوز ألف ريال".

جريمة غير جسيمة

وبالرغم من وجود تلك المواد الواضحة في القوانين اليمنية لمواجهة أفعال التحرش، فإن المحامي عبدالرحمن الزبيب يتحدث عن جوانب ضعف في القانون، حيث يقول: "ضعف القانون الرادع لجريمة التحرش سببٌ رئيسي للتشجيع على توسع وانتشار جريمة التحرش الذي يعتبرها القانون اليمني جريمة غير جسيمة، وفي معظم حالات التحرش يتوجب الإفراج عن المتهم فور تقديم ضمان حضوري. أيضًا عقوبة التحرش في القانون اليمني، لا تتجاوز غرامة ألف ريال أو حبس 6 أشهر فقط".

يضيف أنّ أبرز أسباب عدم رفع الضحايا شكاوى تحرش ضد أطباء إلى الجهات الرسمية، هي "الثقافة المجتمعية الخاطئة التي تبرر لمرتكب جريمة التحرش، وتحمّل الضحية المسؤولية، مثلًا: ملابسها كانت مثيرة، أو كلامها مايع، هي سبب إثارة المجرم، وتتحمل مسؤولية ما يقع عليها، إضافة إلى خوف الضحية من الفضيحة، وغياب وسائل الرقابة داخل العيادات وغرف العمليات".

ويؤكد الزبيب أنّ "جرائم التحرش في القطاع الطبي منتشرة بشكل كبير، ولكن بسبب غياب الإحصائيات، وعدم تقديم الضحايا شكواهم، تظل هذه الجرائم مخفية تحت رماد الكتمان، وهذا يشجع على انتشارها في القطاع الطبي، سواء كنَّ زميلات أو ممرضات أو مريضات؛ بسبب غياب الردع العقابي القانوني وضعفه".

موقف صعب

استغلت وفاء الهمداني، فرصة وجود بعثة ألمانية إلى اليمن، لكشف مشاكل باطنية كانت تعاني منها بشكل مستمر، وعند الذهاب إلى البعثة وجدت طبيبًا كبيرًا في السن، وكان تعامله معها ومرافقيها ودودًا للغاية، الأمر الذي أشعر وفاء بالأمان والاطمئنان.

تقول وفاء الهمداني، تبلغ من العمر 17عامًا: "الطبيب كبير في السن، وكنّا نعتقد أن تعامله معي إنما هو حنان ورحمة، إلى أن كانت إحدى الزيارات، عندما طلب منا شراء العلاج وإرجاعه إليه، ذهبت أمي التي رافقتنا في تلك الزيارة لشراء العلاج، وبقيت مع أختي في غرفة العلاج، وبينما هو يُجري الفحص عليّ، حاول تقبيلي في فمي بصورة مفاجِئة لم أتوقعها منه لكبر سنه".

أصرّت وفاء على كتمان القصة وعدم البوح بها لأحد، مبررة ذلك بأن "الموقف صعب جدًّا والمجتمع أصعب، لا يتفهم مثل هذه التصرفات، وسيخلقون ألف سبب لجعلنا في وضع المخطئات"، غير أنّ أختها التي كانت ترافقها شجّعتها على الحديث، وقد مرت على الواقعة سنوات.

خلال إعداد التحقيق لم نصادف أي إحصائية حول تحرش الأطباء بمرضاهم في الجمهورية اليمنية من أي جهة، رسمية كانت أو من منظمات المجتمع المدني، ويعود السبب في ذلك -بحسب الحالات التي قابلناها ووثّقناها- إلى ثقافة المجتمع اليمني السائدة، المتمثلة في العيب والخوف من الفضيحة وتشويه السمعة، والجهل المجتمعي الواسع بالقانون، الذي بسببه ضاعت حقوق الكثير من الضحايا.

تواصلنا مع نقابة الأطباء اليمنيين في صنعاء، وطرحنا الشكاوى التي حصلنا عليها، والحالات التي وثّقناها أثناء إعداد التحقيق، لمعرفة ما الإجراءات التي يتخذونها تجاه الشكاوى التي تصلهم، لكن لم يتجاوب أحد معنا أو يرد علينا، حتى نشر هذا التحقيق.

تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية، الذي تنفذه مؤسسة ميديا للإعلام والتنمية.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English