أربعون عامًا على دار الهمداني

مشروع ثقافي رائد أفلَ قبل أوانه
نجيب مقبل
February 24, 2022

أربعون عامًا على دار الهمداني

مشروع ثقافي رائد أفلَ قبل أوانه
نجيب مقبل
February 24, 2022

عرفت عدن الطباعة في عام 1882، كما عرفت بداياتِ القرن الماضي عددًا من المكتبات ودور النشر والطباعة، مثل (دار الكتب العربية) لصاحبها الحاج عبادي وغيرها.

وكان لهذه المكتبات ودُور النشر دَورٌ في طباعة ونشر الكتب المحلية الرائدة، مثل كتب المحامي محمد علي لقمان وعبدالله يعقوب خان وغيرهما.

لكن مثل هذه الطفرات في مجال نشر الكتاب في عدن المستعمرة البريطانية، كانت تقف عند حدود معينة من العمل الثقافي والطباعي؛ لأنها كانت محدودة بإمكاناتها الطباعية، وبمحدودية طالبي النشر من الكتّاب ومن المبدعين.

ولذا كانت دور النشر هذه تخلط بين العمل الطباعي التجاري وبين النشاط الإبداعي والعمل الصحفي في طباعة الصحف والمجلات، وربما كانت (دار الكتب العربية) للحاج عبادي متفردة وعريقة في تخصصها بنشر الكتب المطبوعة، كمثال يذكر.

وعندما جاءت دولة الاستقلال الوطني جمهورية اليمن الجنوبية (الديمقراطية) الشعبية، أقفل الباب أمام النشر والطباعة بسبب ما ساد تلك الفترة من تأميم المطابع الخاصة أو انكفاء المكتبات الخاصة عن صناعة الكتب.

وقد تكفّلت الدولة، ممثلة بوزارة الثقافة عبر إدارة متخصصة (دائرة التأليف والنشر) والحزب ممثلًا بالدائرة الأيديولوجية، بانتخاب مجموعة محدودة من الكتب الأدبية لأدباء وشعراء، وطباعة خمسة كتب في العام الواحد تطبع في دور نشر عربية، في لبنان كدار ابن خلدون ودار الآداب وغيرها.

لقد تمتع الأستاذ أحمد سالم الحنكي بإرادة متمردة على الواقع الجامد في الصحافة والثقافة، وكاريزما قيادية ورؤية ثقافية متنورة، وما قصة خروجه من صحيفة (14 أكتوبر) حين كان مديرًا للتحرير توضح هذا الملمح.

واستمر الحال في صناعة الكتاب المحلية بهذه الصورة، حتى جاءت فترة أوائل الثمانينيات التي ترافقت مع الانفتاح السياسي لسياسة الرئيس علي ناصر محمد، ويأتي من بين أحد المقربين له، شخصية ثقافية وصحفية متمردة ذات نفس جموح في كسر تابو النشر المقيد بسياسة أيديولوجية كانت سائدة، لتصنع مشروعًا ثقافيًّا متكاملًا في صناعة الكتاب وفي نشر الثقافة والأدب وفي الصحافة وأدب الأطفال، هو مشروع (دار الهمداني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة).

ونعني هنا بمؤسس هذا المشروع الرائد الصحفي والسياسي والمثقف: أحمد سالم محمد الحنكي.

ظروف النشأة وطبيعة المرحلة

كانت لطبيعة النموذج الاشتراكي الذي كانت تحتذي به السلطة الحاكمة آنذاك، وخاصة بعد قيام الحزب الاشتراكي اليمني في 13 أكتوبر عام 1979، ذي النهج الاشتراكي العلمي، قد قرب المسافة بين السياسي والثقافي وكانت أكبر تجلياته في الرئيس عبدالفتاح إسماعيل الذي كان ينشر قصائده تحت اسم مستعار (ذو يزن)، وقدم نفسه كشاعر ومثقف، استطاع من خلال هذه البوابة أن يلتقي بشعراء عرب كبار، أمثال أدونيس وسعدي يوسف وغيرهم، وسار على منواله الرئيس علي ناصر في الاهتمام بالشأن الثقافي.

وهذا ما جعل الاهتمام بالجانب الإبداعي يأخذ حيزًا من اهتمام قادة السلطة السياسية والحزبية، واعتباره جزءًا من معركة التقدم والتغيير الجذري في المجتمع.

وكان اهتمام السلطة بالثقافة والإبداع يولد الحاجة إلى ضرورة إيجاد شكل ثقافي يحتوي رغبات المبدعين في الحرية الإبداعية وصناعة ثقافة وبناء مؤسسات ثقافية تمتلك قدرًا من حرية التعبير.

أما العامل الثاني الذي ساعد على الاهتمام بالثقافة كأداة من أدوات السلطة، فكان الهجرة السياسية والثقافية التي كان أوجها في عام 1982، بعد اجتياح إسرائيل لأول عاصمة بيروت، لمبدعين وسياسيين ومفكرين عرب معارضين جاؤوا إلى عدن (واحة الحرية والفكر التقدمي) فانتشروا يعملون في المجال الأكاديمي والمؤسسات الصحافية والثقافية ولقاءاتهم بقادة الحزب والدولة، وكان لهم من حيث جاؤوا من عواصم ثقافية عربية عريقة كبغداد وبيروت والقاهرة وعواصم غربية وغيرها، تأثيرهم في التأكيد على أهمية صناعة ثقافية وبناء مؤسسات ذات طابع مستقل يحمل مشاعل الفكر والأدب والإبداع، وإبداء ملاحظاتهم السلبية عن البنية التحتية للمؤسسات الثقافية الرسمية في البلاد غير الملبية لطموحات حراك ثقافي (تقدمي)، ونقل هذه الطموحات إلى القيادة السياسية والحزبية.

أما العامل الثالث والمهم فهو الجو السياسي السائد في عدن أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، الذي استهل به الرئيس علي ناصر محمد كرئيس للدولة والحزب بانفتاح سياسي ودبلوماسي لسياسة اليمن الديمقراطي مع الجوار العربي والإقليمي، وانفتاح داخلي نسبي في الحياة السياسية والحزبية والحياة العامة.

هذا الانفتاح قلَّل من سطوة الحزب والدولة ورؤيتهما السياسية والأيديولوجية على مفاصل المؤسسات الثقافية والصحفية الرسمية، وأتاح فرصة البحث عن تطوير وتفعيل هذه المؤسسات وأدواتها، وأعطى مزيدًا من حرية التحرك وإنشاء مؤسسات ثقافية تحمل قدرًا من استقلال القرار الإداري والرؤية الثقافية والحرية الإبداعية التي تسمح بتجاوز التابو السياسي والأيديولوجي القصير النظر السائد آنذاك.

وكان مشروع (دار الهمداني للطباعة والنشر) كمؤسسة طباعة وتأليف ونشر، ثمرةَ ذلك الانفتاح العام الذي ساد النصف الأول من الثمانينيات.

وآخر العوامل: العامل الذاتي لمؤسس المشروع.

لقد تمتع الأستاذ أحمد سالم الحنكي بإرادة متمردة على الواقع الجامد في الصحافة والثقافة، وكاريزما قيادية ورؤية ثقافية متنورة، وما قصة خروجه من صحيفة (14 أكتوبر) حين كان مديرًا للتحرير توضح هذا الملمح، وبالرجوع إلى أسباب خروجه، فإنه يمكن القول إنه خالف السياسة التحريرية الجامدة للصحيفة يومها بنشر موضوع صحفي جريء تمتع بكثير من جرأة الطرح، ولكنه أثار حفيظة التيار المحافظ في السلطة، مما استدعى خروجه من منصب إدارة التحرير بسبب ذلك، ليأخذ طريقه مباشرة إلى تبني مشروع جديد ذي حرية أوسع هو تأسيس دار الهمداني للطباعة والتأليف والنشر.

ولا غرو أن بزوغ هذا المشروع الثقافي الجديد جاء بضوء أخضر من السلطة السياسية التي كان يشرف عليها الرئيس ناصر، وهي نتاج مشاورات ورؤى اشترك في صياغتها الأستاذ الحنكي مع الشاعر العربي الراحل سعدي يوسف مستشار الدار الثقافي وعدد من نخبة من المثقفين والصحفيين، وبالخصوص نخبة تيار قيادة صحيفة (الثوري) التي كان ينتمي إليها، وكان على رأسها الصحفي الكبير باخريبة والشاعر زكي بركات وغيرهم، وخرج إلى النور بعد ذلك بإرادة صلبة منه، ومتحدية كل الظروف والتحديات وواقع الحال، وقبل ذلك تحدي العقلية الجامدة سياسيًّا وثقافيًّا وفنيًّا وطباعيًّا، وخاض من أجل ذلك أعظم ملاحم حياته الخاصة والعامة مسنودًا بنخبة ثقافية وإبداعية، وأفضل الكوادر الصحفية المجربة ساندته في إنجاح هذا المشروع الطموح، الذي لم يمتد عمره -للأسف- أكثر من أربعة أعوام فقط، ولكنه صنع معجزة ثقافية تخطت أوضاع وظروف ذلك الزمان، سنأتي على ذكرها لاحقًا، ومن حسن حظي أنني كنت واحدًا من أبناء هذه الملحمة الرائدة.

سيرة ذاتية عن الشهيد أحمد سالم محمد الحنكي

أحمد سالم محمد الحنكي، صحفي وأديب وسياسي ومثقف من طراز الحالمين بصناعة مشهد ثقافي في عدن، لا يقل عن عواصم الثقافة العربية، كالقاهرة وبيروت وبغداد وغيرها.

هو من مواليد 1948.

تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط في ولاية دثينة.

انتقل إلى مدينة عدن حيث التحق بمعهد الجنوب التجاري عام ١٩٦٥، وعمل في سلك بوليس عدن، وخلال ذلك التحق بالقطاع الفدائي لجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل.

مع بداية العام 1966، وقع أحد أعضاء فريقه في أسر القوات الاستعمارية، فأعطت القيادة توجيهاتها لباقي أعضاء الفريق بالاختفاء ومغادرة عدن نحو الأرياف ضمانًا لحياتهم.

عاد أحمد إلى قريته في منطقة مودية عاصمة ولاية دثينة،، تنفيذًا للتوجيهات الصادرة.

وهناك عكف على القراءة في الأدب والسياسة والتاريخ، مستفيدًا من ذخائر الكتب في مكتبة والده.

هذا المشروع الثقافي والأدبي ضم نخبة من الصحفيين والمثقفين المحليين والعرب، وعلى رأسهم الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف الذي كان مستشارًا ثقافيًّا للدار


لكن لما كان هاجس كل الوطنيين حينذاك، يتمحور في الكفاح التحرري من الاستعمار، وكانت الجبهة القومية هي الأكثر نفوذًا في الريف- لم يتردد في الانضمام إليها، ومن حيث سبقه والده وشباب المنطقة في ذلك.

بعد الاستقلال، توجه إلى العاصمة عدن، وهناك التحق بالقوى الجوية الفتية حيث تلقى دورة تأسيسية في الهندسة الجوية.

أواخر العام ٧٢، كان من بين المبعوثين إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة هندسة الطيران. لكن شغفه بالصحافة والإعلام ساقه للتحول نحو دراسة العلوم الاجتماعية في كلية العلوم العسكرية والاجتماعية بموسكو، حيث نال منها شهادة الدبلوم.

عُيّن عام ١٩٧٥، رئيسًا لتحرير مجلة الجندي ثم نائبًا لمدير الدائرة الإعلامية بمجلس الوزراء، ثم عين مديرًا لتحرير صحيفة (١٤ أكتوبر) حتى منتصف العام ٨١.

تسمية الدار بين (لبوزة) و(الهمداني)

وفي غمار الانفتاح السياسي الذي عرفته جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بداية الثمانينيات قدم الحنكي مشروع تأسيس أول دار نشر للكتاب، ووافق مجلس الوزراء عليها وعلى مقترحه بتسميتها دار الهمداني للطباعة والنشر، وعيّن مديرًا عامًّا لها.

ومن طرائف الحديث -كما ورد على لسان أخيه عبدالله الحنكي- أنه عندما طرح مشروع تأسيس الدار في اجتماع المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، لم يحبذ الاسم (الهمداني) نسبة إلى المؤرخ اليمني مؤلف (الإكليل) و(صفة جزيرة العرب)، بل طرح أن يكون تسمية الدار باسم أول شهيد في ثورة 14 أكتوبر (لبوزة)، جريًا على تسمية المدارس والمواقع بأسماء الشهداء، وفي هذا المقام يتجلى المفارقة بين البعد الثقافي الذي كان يتمتع به الحنكي، والرؤية السياسية الضيقة السائدة.

ولكنه انتصر في الآخر لمسماه!

هذا المشروع الثقافي والأدبي ضمّ نخبة من الصحفيين والمثقفين المحليين والعرب، وعلى رأسهم الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف الذي كان مستشارًا ثقافيًّا للدار.

استطاعت دار الهمداني أن تكون مصنعًا للطباعة من خلال دائرة التأليف والنشر والترجمة التي رأسها الأديب عادل ناصر، ونائبه نجيب مقبل، وعضوية الشاعر عوض الشقاع.

أصدرت الدار برئاسته أكثر من 400 كتابٍ في التاريخ والشعر والفلسفة والتربية الوطنية، وكتابًا شهريًّا للأطفال، وكتابًا معرفيًّا تحت سلسلة (آفاق المعرفة)، إضافة إلى إصدار مجلة (المسار) الشهرية بشكل ومضمون يضاهي المجلات العربية، وضمت هيئة تحريرها كلًّا من نعمان قائد سيف، ومحمد عبدالله مخشف، وإبراهيم الكاف، وعبدالرقيب مقبل، وإقبال الخضر، وصحفيين وأدباء آخرين، تحت إشراف سعدي يوسف.

وكذا إصدار مجلة شهرية ملونة خاصة للأطفال، أسماها (نشوان) تحت إدارة الأديب نجيب مقبل، وهيئة تحرير من الأديبتين نهلة عبده عبدالله، وشفاء منصر.

وطباعة الدفاتر المدرسية في مصنع الكراريس التي كانت تورد إلى شرق أفريقيا (جيبوتي) و(الصومال) وغيرهما، إلى جانب طباعات تجارية متنوعة.

كل ذلك من خلال تسخير المطابع المحلية والارتقاء بعملها في صناعة الكتاب بصورة منتظمة وليست آنية، وإخراج المجلات الملونة، في مغامرة ناجحة له كقائد مثقف وإداري محنك صاحب مشروع ثقافي يتجاوز به الواقع ويساهم في صناعة حلم يتجاوز الواقع الثقافي الجامد، ويحركه برؤية مستقبلية غير مسبوقة. 

أواخر العام 1985، كان الشهيد الحنكي في مواصلة لمشروعه الثقافي، يخطط لتنظيم فعالية ثقافية كبرى لمناسبة الذكرى العشرين للاستقلال ١٩٨٧، تتمثل في معرض للكتاب العربي يكون فاتحة لمعرض سنوي باسم معرض عدن للكتاب العربي، غير أن الفكرة لم ترَ النور بعد استشهاده، بل أفل كل مشروع دار الهمداني وانطفأت أنواره.

أربعون عامًا مر على تأسيس دار الهمداني، التي كانت بحق مجمعًا ثقافيًّا ضمّ خيرة المبدعين والمثقفين والصحفيين، وأنجبت ما يوازي أكثر من (400) كتاب ومطبوعة صحفية ومجلة، خلال عمر قصير لم يتعدَّ أربع سنوات!


•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English