فنجان القهوة بين القاهرة وباريس

وطن وسيرة لا تموت
عبير اليوسفي
May 6, 2022

فنجان القهوة بين القاهرة وباريس

وطن وسيرة لا تموت
عبير اليوسفي
May 6, 2022

الشاعر الفلسطيني الذي تفنن بوصف القهوة في قصائده، محمود درويش، يقول: "القهوةُ هي الوحيدة التي تقف فيه وحدك مع ما تختاره بكسل وعزلة، وفي ‏سلام مبتكر مع النفس والأشياء، وتسكبه على مهل في إناء نحاسي صغير وداكن وسري اللمعان، أصفر مائل إلى‏ البني ثم تضعه على نار خفيفة، آه لو كانت نار الحطب".

وتقول الشاعرة سعاد الصباح: "القهوة هي أهم اختراعات الإنسان. والذي اخترعها هو بغير شك مصلح اجتماعي، فبغير القهوة، لم تكن المقاهي، وبغير المقاهي لم يكن الحوار ممكنًا، وبغير الحوار كان الإنسان جزيرة معزولة عما حولها...".

منذ اكتشاف القهوة، كان يدور عنها -دومًا- الأحاديث والنقاشات ما بين تحليلها أو تحريمها، ومنذ العهد الذي توقف فيه تحريمها انتشرت القهوة حول العالم وأصبح لها متذوقوها ومرتادو أماكن تواجدها، فكيف كان لها ارتباط قوي بالأدب دون الشاي، وهي السوداء المُرّةُ التي جمعت حولها المثقفين والفلاسفة والأدباء، والتي تسببت بوفاة الكاتب الفرنسي الشهير بلزاك، الذي أدمن حبها حدّ أن قتلته متسممًا بالكافيين.

تمثل المقاهي جزءًا من هُوية كل مدينة، وواجهة لها بكل ما تحتويه من أفكار وآراء واتجاهات، فهي المرآة التي تعكس ما يشغل بال المجتمع والرأي العام، جعلها هذا تأخذ مكانتها الرفيعة في الأدب وتلعب دورًا بارزًا في إحياء الثقافة والفكر.

تاريخ المقاهي الثقافية وأنشطتها ليس مستحدثًا، بل ظاهرة قديمة، وممتد منذ الماضي، لكن تختلف مسمياتها مع اختلاف الزمان، فقد تمثلت قديمًا في منتديات أشهرها "سوق عكاظ" وجلسات أدبية كالتي شهدها مجلس الرشيد بين "سيبويه" و"الكسائي"، وجلسات السمر التي كان لها أثرها في دار الوزير "أبي حيان التوحيدي" في تأليفه لكتابه الشهير "الإمتاع والمؤانسة".

يعتبر البعض أن المقاهي "صورة مصغرة من المجتمع في لحظة ما"، لكونها ترصد الحالة التي يعيشها المجتمع، وكما لها دورها في الحركة الأدبية كان لها كذلك دور في السياسة، فقد وجد أن القهوة لها مكانها بين عوامل نهضة الحضارة الأوروبية وميلاد عصر التنوير. كما أن المقاهي قد مهدت انطلاق الثورة الفرنسية، وكذلك مهّدت للثورات الاجتماعية والسياسية، وكانت وما زالت تمثل مصدر قلق للأنظمة الحكومية، لتمتعها بسقف حريات عالٍ، جعلها هذا بيئة حاضنة للثورات على مر التاريخ. يقول نجيب محفوظ متحدثًا عن المقاهي: "الحياة هنا.. ومن هنا يبدأ التاريخ".

من أشهر المقاهي التي دخلت كتب الأدب عن طريق مفكريها وفلاسفته كانت مقاهي القاهرة وباريس، فمن مقهى "الريش" الشهير في وسط القاهرة، والذي استمد الكاتب أسامة أنور عكاشة معظم شخصياته في عمله الشهير "ليالي الحلمية" من زواره؛ يقول الكاتب: "المقاهي أماكن محببة بالنسبة لي، وبالنسبة لأي كاتب أستطيع أن أرى أشكالًا من البشر لا يمكن رؤيتها في مكان آخر، المقهى مليء بالقصص والحكايات، تنويعة بشرية شديدة الجاذبية ولهذا يصنع جزءًا كبيرًا من تجربة الكاتب أو الفنان لأنه مادة سخية للشخصيات والأحداث والحكايات".

اشتهر مقهى الريش في القاهرة -الذي سمّي بأحد أشهر مقاهي باريس، وقال عنه الكاتب يحيى حقي: "إنه ملتقى السيدة زينب والسوربون"- برواده المثقفين والسياسيين والصحفيين، وقد خطط فيه الرئيس جمال عبدالناصر لثورة يوليو مع رفاقه، وانطلقت منه مظاهرة سياسية عام 1972، عند مقتل الصحفي الفلسطيني غسان كنفاني، واختبأ في بدروم المقهى الرئيس أنور السادات إبان اتهامه بقضية مقتل أمين عثمان، وشهد عدة زيجات مثل الشاعر أمل دنقل الذي كان اللقاء الأول بينه وبين وزوجته الصحفية عبلة الرويني فيه، والتي ذهبت للقائه لتُجري معه حديثًا صحفيًّا، وإحسان عبدالقدوس وزوجته روز اليوسف، وألّف فيه نجيب سرور قصيدته الشهيرة في ديوانه المسمى "بروتوكولات حكماء الريش"، وصدرت منه عدة مجلات، منها الكاتب المصري التي ترأس تحريرها عميد الأدب طه حسين. ومن رواده أيضًا الكاتب الكبير نجيب محفوظ، والذي جمعته علاقة خاصة بالمقاهي، تركت فيه تأثيرًا كبيرًا حتى حملت أشهرُ رواياته أسماءَها، مثل "الحرافيش" و"الكرنك" و"زقاق المدق"، ومثّلت المقاهي له عالمًا خاصًّا تعلق قلبه به، وكان يعد أهم روادها في الشرق، فحين سُئل عن أحب المقاهي إليه أجاب بأن هذا السؤال يساوي تمامًا السؤال عن أحب أعماله إلى نفسه. جعله ارتياده يلقَّب بـ"ديكنز المقاهي المصرية".

وفي كتاب "نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل" تمثل القهوة -كما يقول محمد نجيب- "الشخصية المحورية في العديد من أعماله"، و"لها بُعد مهم في الأعمال المحفوظية، إنها مفردة يتشكل منها العالم الروائي الخصب، إلى جانب الأسرة، والحدث السياسي، والبحث عن العدالة، واليقين الديني، والجريمة".

يضاهيه مكانة مقهى الفيشاوي، منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم، وقد ورد أن نابليون بونابرت قد اعتاد الجلوس عليه. وكان صاحب المقهى الملهم لإحدى شخصيات رواية "الحرافيش" لمحفوظ، وروايته "الكرنك" التي انطلقت من المقهى الشهير "الفيشاوي" عندما رأى نجيب "حمزة البسيوني" لأول مرة. ومن رواده المشاهير: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وبيرم التونسي، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعي، وغيرهم. ويعتبر صاحبُ المقهى الوحيدَ الذي رثاه الأدباء والصحفيون والنقاد والموسيقيون بعد وفاته.

من أشهر مقاهي القاهرة، إلى مقاهي باريس الأدبية، والتي كانت تجمع نخبة الأدباء والفلاسفة، يعد مقهى "لوبركوب" الذي أنشئ سنة ١٧٠٠، أول مقهى فرنسي في القرن الثامن عشر وأشهر مقهى أدبي وسياسي، وهو ذاته المقهى الذي كان يرتاده الكاتب الكبير "فولتير"، و"جان جاك روسو"، واعتُمد كمقر لفلاسفة عصر الأنوار، وهو ذاته المقهى الذي شهد ولادة الثورة الفرنسية كونه كان مقر اجتماع. ويقال إن "الطاقية الحمراء" رمز الثوريين الفرنسيين ظهر لأول مرة في هذا المقهى.

والشهرة الواسعة لمقهى "ليدو ماغو" حتى الآن؛ لكونه كان مكان اجتماع المثقفين والفلاسفة، وتكوّنت فيه الحركة السريالية عام ١٩٢٥، كما أنه ضمّ على طاولاته الثلاثي الفلسفي الشهير: سارتر، وسيمون بوفوار، وألبير كامو، وفيه التقى الرسام الشهير بابلو بيكاسو زوجته عام ١٩٣٥، وهو من أهم مقاهي باريس والعالم كله، والذي يواصل احتفاظه بطابعه الخاص. وقد خُلد ذكره في عدة أعمال أدبية، منها الرواية الشهيرة "لوليتا" للكاتب فلاديمير نابكوف، وللمقهى جائزته الأدبية التي ما زال يمنحها منذ عام 1933.

والمقهى الشهير "دي فلور" الملاصق له، يعتبر أقدم المقاهي في شارع سان جيرمان، وكان مقصدًا أيضًا للفيلسوف سارتر وسيمون للكتابة واللقاء فيه، وكذلك ألبير قيصري الذي حوله لمكتب للكتابة فيه، وكونوا معًا صداقة طويلة دامت ١٥ عامًا. يقول الكاتب ألبير قيصري للكاتب شاكر نوري: "أترى كيف تحول مقهى فلور إلى مكان ضاج بالسياح السذج الذين يأتون لزيارة معارض الألبسة الجاهزة في بورت دي فيرساي".

تراجع وضع المقاهي الأدبية في باريس، بعد أن كان لها ازدهار واسع بلغ ٢٠٠ ألف مقهى لكن الكثير منها قد أغلق، وكان يضاهيها في القاهرة شهرة مقهى الريش والفيشاوي.

في مذكراته كتب عبدالرحمن بدوي، يرصد ظاهرة مقاهي باريس: "كثير من هؤلاء الأدباء كان يؤلف كتبه وقصصه ومقالاته النقدية والأدبية في هذه المقاهي، بل إن كثيرًا من الحركات الأدبية والمجلات الأدبية قد تأسست في هذه المقاهي، خصوصًا حركة الرمزيين والوجوديين والسرياليين، كما أن كثيرًا من القصائد قد ألقيت في هذه المقاهي". 

أثبتت المقاهي على مدار التاريخ، أنها تستطيع أن تمثل وطنًا للأدباء والمفكرين وللمثقفين وطلبة العلم ومتنفسًا لهم، وقد ارتبطت بهم حتى أصبحت تمثل جزءًا من سيرتهم. وهذا ما جعل سِيَرها لا تموت حتى وإن اختفت، ففيها كان يدار الحوار والمناظرات والنظريات وينتهي النقاش، ومنها وُلدت أهم الأعمال الأدبية، وأهم الثورات.

ينشد درويش، في تحسر، بيتَه الشهير: "وإن أعادوا لك المقاهي القديمة، فمن يعيد الرفاق؟".

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English