سؤال الثقافة الجمهورية

هذا ما صنعته ثورة سبتمبر بنا!
د. علي محمد زيد
September 26, 2022

سؤال الثقافة الجمهورية

هذا ما صنعته ثورة سبتمبر بنا!
د. علي محمد زيد
September 26, 2022

حين يصل التيه إلى حدّ التساؤل والتشكيك بعقولنا وبأحاسيسنا وتجاربنا التي عشناها، وتذوَّقنا حلاوتها أو تجرَّعنا مراراتها، يصبحُ الأمرُ خطيرًا ويستدعي أن نتوقف ونتأمل محطات حياتنا لنوطِّدَ اليقين الذي امتلكناه، ونقللَ من لحظات الشك والحيرة التي تصيبنا بالإحباط واليأس.

هذا ما أحسست به وأنا أخوض في نقاش مع مجموعة من شباب لم يخوضوا بعدُ تجاربَ الحياة كما ينبغي، ولا يتعاملون مع عقولهم تعاملًا مسؤولًا مع أنهم يستطيعون إذا امتلكوا الإرادة والتصميم بلوغَ حدٍّ كبير من المعرفة اليقينية، لأنّهم يمتلكون من وسائل الوصول إليها أضعاف ما أتيح لنا في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات. ولا تنقصهم التحديات التي ينبغي أن يواجهوا وأن يتفاعلوا معها ويستجيبوا لها بعقل منفتح وبطموح كبير نحوَ تجاوز لحظات الخواء وجانب إغراء الاستسلام للفراغ.

جعلني أحدهم في مواجهة نفسي حين سألني ببساطة: "ما هي الثقافة الجمهورية التي تتحدث عنها؟"، وأحسست بشيء من الصدمة، وخشيت أنني لا أمتلك الإجابة عن سؤال كان ينبغي أن أسأله لنفسي قبل أن أواجهَ هذا السؤال البسيط المحرج. فهل أمتلك إجابة شافية؟

ماذا يمكن أن تكون الثقافة الجمهورية في اليمن؟ إن لم تكن:

تحوُّل أحلام المستنيرين الرواد، من تُهمٍ تقود في أحسن الأحوال إلى السجون، وفي أسوئها إلى المشانق- إلى جمهورية تحطم قيود العزلة والانغلاق وتفتح الأبواب والنوافذ لرياح الحرية كي تهب وتقي شعب اليمن مخاطر الاحتضار والانقراض.

وتجديد محمد محمود الزبيري للشعر العمودي بتحويله من مدح وهجاء ورثاء ونفاق ومجاملات ونَظمٍ سطحي مفتعل، إلى كتابة بالأعصاب والمشاعر وبدم القلب، وبلغة لا أصَدْقَ منها، مكرَّسة للدعوة لتحرير الشعب من الظلم والاضطهاد والاستبداد والحرمان من كل ما يساعد الإنسان اليمني في تحمل أعباء الوجود على هذه الأرض، والاندماج الحميم الصادق بين الشاعر الإنسان وإبداعه الشعري وقضية شعبه.

وتحوُّل دعوة حركة الأحرار، بقيادة الرائدَين العظيمين؛ محمد محمود الزبيري، وأحمد محمد النعمان، لنشر "العلوم النافعة"، وبخاصة دعوة أحمد نعمان إلى إعطاء الأولوية للتعليم، وتأسيس كلية بلقيس لاستيعاب أبناء الهاربين من الظلم والفقر نحو مستعمرة عدن، إلى نظام تعليمي جمهوري حديث ينقل اليمن من الحرمان من حق التعليم، ومن شيوع الأمية، إلى تعميم التعليم ليكون حقًّا لكلّ طفل في اليمن.

وتجديد عبدالله البردّوني للشعر التقليدي بابتكار صور شعرية جديدة مدهشة، وإدخال تقنية الحوار وتعدد الأصوات في القصيدة، واختيار عبدالعزيز المقالح الانتقالَ من تجديد الشعر التقليدي إلى تجاوزه للالتحاق بدعوة الرواد اليمنيين الأُوَل الذين حاولوا مبكِّرا المشابكة في تيار الشعر العربي الجديد في حركة الثقافة العربية؛ لكي تنتقل حركة الثقافة في اليمن إلى مستوى يجاري أبدع ما تنتجه الثقافة العربية، وأن تتوقف الثقافة في اليمن عن البقاء على هامش الثقافة المعاصرة.

واختيار محمد الشرفي لقضية إنصاف المرأة وتأسيس المسرح وكتابة النصوص المسرحية، الشعرية والنثرية، بحيث تصبح الدعوة إلى تحرير المرأة من كل وسائل التمييز والاستبعاد والإقصاء ونهضة المسرح في اليمن، رسالةَ حياته.

وتأثير مستعمرة عدن التي كانت نافذة على الليبرالية الغربية وعلى الحضارة الحديثة، والقيم الجديدة الداعية للحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولتوفير أوسع فرصِ الحياة الكريمة والتنمية ومكافحة الفقر.

وتأسيس عبدالله عبدالوهاب نعمان وأيوب طارش لثنائي أبدع أعذب الألحان الجديدة.

وتجديد مطهر الإرياني وعلي صبرة وأحمد الجابري ولطفي جعفر أمان وحسين أبو بكر المحضار، للغة الأغنية اليمنية، وتحديث أبو بكر سالم بلفقيه ومحمد مرشد ناجي وأحمد بن أحمد قاسم ومحمد سعد عبدالله وغيرهم، للأغنية اليمنية وللغناء اليمني.

وتأسيس هاشم علي وعبدالجبار نعمان، للفنّ التشكيلي في اليمن.

وهذا، بالتحديد، ما تحاول هذه السطور أن تتلمَّسه وأن تعرضه للقراء. تريد للقراء ممّن عرفوا شيئًا عن هذا التجديد أن يتذكروا وألا ينسوا ما أحدثته الجمهورية من تغيير في حياة اليمنيين، وللأجيال الجديدة أن تعرف عن بلادها وتدرك ما عاناه الآباء، لكي تنطلق في عالمها الجديد وتبدع وتضيف وتلتحق بعصرها؛ حتى لا يبقى اليمن دائمًا ذلك المجهول المعزول الغريب عن عالمه، وأن ترفض المراوحة في المكان نفسه، والدوران في الخواء، والجري وراء الأوهام، والغرق كما في الماضي في دوامة الفقر والجهل وعدم الإبداع، وأن ترفض بقاء اليمن عالة على غيرها، يتيمة في عصرها، سادِرةً في تخلفها وبؤسها.

ولقد اخترت هذا الموضوع للكتابة عنه بعد مناقشة مع شباب من الجيل الجديد جعلوني أشعر، وأنا أعتبر نفسي من المدافعين عن التجديد والتغيير وارتبطَت حياتي كلها بمناصرة التقدم في جميع المجالات، بأنني متهم بالدفاع عن الماضي لأنّني تحدثت عن الثقافة الجمهورية وعن التغيير النوعي الذي أحدثته الجمهورية في حياة اليمنيين. كان بدّ الشباب انفعاليًّا لا يقبل الجدل متسائلين: وماذا فعلت الجمهورية لليمن إذا كان الفقر ما يزال يسحق غالبية اليمنيين، والأمية حاضرة وتوشك أن تكون مستديمة، وعشرات الآلاف من المواطنين اليمنيين يسافرون إلى الخارج للبحث عن رعاية صحية لا يجدونها في بلادهم، وما تزال اليمن تعيش على هامش عصرها، وما يزال الوعي العام متدنيًا وفي بعض الحالات ينحدر إلى الحضيض، وما تزال نوعية التعليم متدنية، وما يزال المسرح والسينما مطرودَين من الثقافة في اليمن، وما تزال الغلبة بالسلاح وسيلة لحكم الغالبية الشعبية، وما تزال الديمقراطية وحقوق الإنسان غائبة من حياتنا، وما يزال اليمني يعتمد على غيره في إنتاج كل شيء تقريبًا، وما يزال الابتكار والاختراع غائبين من حياتنا، والبحث العلمي والتكنولوجي مستبعدًا حتى من خيالنا، ...إلخ؟! وهكذا واصل مَن ناقشتهم من الشباب الجديد المتطلع للتغيير يرد ما تعاني منه حياة اليمنيين من بؤس وحرمان ومعاناة وتخلف في القرن الواحد والعشرين.

ومن المؤكّد أنّ من حقّ الأجيال الجديدة أن تتساءل وتحتج وترفض، وهي بلمسة على شاشة جهاز التلفون المحمول تستطيع الوصول إلى المعلومات والمعارف بسهولة ويسر، وتقارن بين حال بلادها البائس المحروم المتخلف وما يعيش عالمُ اليوم من تقدّم ومن قفزات معرفية ومن تجديد في قوى الإنتاج ووسائل الإنتاج وفي جميع المجالات، فتصاب بالإحباط وينتابها الغضب من واقعها، ويصل الارتباك والشطط أو الحماية ببعضهم إلى حدّ إنكار أنّ الجمهورية كانت ضرورية، وإلى القفز للحكم بأنها لم تفعل شيئًا لإخراج بلادنا من تخلفها وحرمانها وهامشيتها.

وللرد على هذا النكران يكفي، للتذكير بواقع اليمن قبل قيام الجمهورية، أن نورد هنا شهادة شاهد عيان هو الزعيم الوطني الشاعر محمد محمود الزبيري الذي لخّص ذلك الواقع البائس المرير بأبيات قليلة مبدعة، فقال:

جهلٌ وأمراضٌ وظلمٌ فادحٌ

ومخافةٌ، ومجاعةٌ، وإمامُ؟

والناس بين مكبل في رجله

قيد، وفي فمه البليغ لجامُ

أو خائف، لم يدرِ ما ينتابه

منهم؛ أسجن الدهر، أم إعدامُ؟

والاجتماع جريمة أزلية

والعِلمُ إثمٌ، والكلامُ حرامُ

والمرءُ يهرب من أبيه وأمه

وكأنّ وصلهما له إجرامُ 

كما لخصها شاهد عيان آخر هو الشاعر الكبير المبدع عبدالله البردّوني، بالبيت

التالي:

فيمَ السكوت ونصف شعبك ها هنا

يشقى.. ونصفٌ في الشعوبِ مشرّد؟!

وفي هذه الحالة يُصبح من حق الجمهورية علينا، نحن "جيل الجمهورية"، أي الجيل الذي فتحت له بابَ الأمل والنجاة من الغرق في غياهب العزلة والانغلاق، وأخرجته من ظلام القرون الغابرة ليتمسك ببصيص من نور القرن العشرين، أن ندافع عنها وأن نستعرض الأحوال التي جعلت منها عملية قيصرية ضرورية لإنقاذ شعب اليمن من الاضطهاد والانقراض.

وأنا بهذه السطور لا أطلب من الأجيال الجديدة أن تتخلى عن أحلامها بصنع مستقبل أفضل لها ولشعبها، يخرجها من حالة الضياع والعجز والتخلف الشامل إلى حياة القرن الواحد والعشرين وقفزاته المعرفية واكتشافاته العظيمة وأحلامه وطموحاته. فكلُّ ما أطلب هو إدراك ما أحدثته الجمهورية من فتح الأبواب للانتقال من القرون الغابرة إلى العصر الحديث، وإنصاف الرواد المخلصين الذين بذلوا ما يستطيعون من جهد ومن عَرَقٍ ودماء من أجل تحقيق ما سمح لهم الزمن الصعب بتحقيقه في وجه مقاومة عاتية من قوى الظلام والجهل وأعداء الحرية والتقدم. ونعوِّل على الأجيال الجديدة لكسر حلقة استدامة التخلف التي تكبل انطلاق اليمن إلى الأمام، وتغيير الحال المعوج للجمهورية بواقع أفضل يناسبهم ويتفق مع أحلامهم المشروعة وطموحاتهم التي لا يملك أحدٌ حقَّ رفضها أو الاعتراض عليها.

وأرى أنّ علينا، نحن جيل الجمهورية، أن نعتذر لهم ولأنفسنا ولشعبنا، بما أنّه كانت لنا أحلام مثل أحلامهم وأبعد، وطموحات لا تحدها حدود، ومطالب تشبه ما يطلبون وأكثر، ودعوات حالمة لا تقتصر على تحقيق سعادة اليمنيين وحدهم، ولا توحيد العرب ونهضتهم فقط، بل تشمل بنُبْلِها وتساميها، الإنسانيةَ المعذَّبة كلها.

ولكن الماضي البغيض والعبث المعربد اللئيم، قد تضافرا لهدم السد فوق رؤوسنا، فوجدنا أنفسنا وقد أحاط بنا الخراب والحرائق من جميع الجهات. 

وبعيدًا عن فوضى المصطلحات في الفكر العربي المعاصر، وهي فوضى تزيدها وسائل التواصل الاجتماعي شدة وارتباكًا، فإنني سأستخدم الثقافة هنا بمعنى ما يبدع الإنسان من قيم معنوية. ولن أتوسع لتطبيق التعريف الذي يقول إنّها ما يبدع الإنسان من قيم معنوية وخيرات مادية. ولذلك سيقتصر هذا الكتاب على تتبُّع الإبداع الشعري والنثري من مقالة وقصة قصيرة ورواية وموسيقى وفنون وفكر وقيم جديدة.

وعلى الرغم من صعوبة تحديد تاريخ معين للفصل بين مرحلة وأخرى في حركة التغيير الثقافي، سأحاول في هذه السطور بصورة أساسية، لأسباب عملية بحتة تناول ما أسمِّيه "الثقافة الجمهورية"، خلال الجمهوريتين؛ الأولى (عهد الرئيس عبدالله السلال)، والثانية(1) (عهد الرئيس عبدالرحمن الإرياني) من 1962 إلى 1974، (إلا إذا اقتضى السياق تجاوزهما بوقت قصير) ومقدماتها، سواء داخل مملكة الظلام أو بين الهاربين من جحيمها وبؤسها إلى مستعمرة عدن ومنها إلى غيرها من مناطق هجرة اليمنيين أو لجوئهم؛ لأنّ الزمن اللاحق لهذه الفترة، منذ عودة الضباط لتأسيس الجمهورية الثالثة، يحتاج إلى تناول مستقل ودراسة مستفيضة لا يتسع لها هذا الجهد المتواضع.

فقد فتحت السنوات الأولى من عمر الجمهورية الباب لورود كلِّ ما حلم به مثقفو مرحلة تهريب الكتاب الجديد، وسمحت باقتناء الكتب وقراءاتها واستيعابها والنسج على منوالها وصنع الأحلام استنادًا إليها. فلأنّ الكتاب الجديد كان قبل الجمهورية محرَّمًا، شغُفَ به الأدباء المستنيرون وحفظوه في حبات قلوبهم واستوحوه في التعبير عن أحلامهم الخفية المتمردة. وكان الأدباء الهاربون من بطش مملكة الظلام يشحذون هممهم ويراكمون خبراتهم المعرفية استعدادًا ليوم الخلاص العظيم.

وحين سقطت أبواب السجن الكبير انبهر الجميع بأضواء الحرية وتعذَّر القفز بسرعة إلى الأمام، لكن مسيرة الانطلاق قد بدأت ولم تقتلها عوائق المقاومة العاتية التي أبدتها قوى القديم المندحر. وبدأ الإبداع الأدبي والثقافي ببطء، ولكن على نحو متواصل. وكانت النتائج ما نقرأ في هذه السطور التي تستعرض ما أحدثته الجمهورية من حراك ثقافي عصري في حياتنا الجديدة.

_________________

(1) أعتمد هنا تسمية موفقة اقتبسها الشاعر عبدالله البردّوني من الفكر السياسي الفرنسي، وطبقها على (تاريخ اليمن) اليمن الجمهوري، ص134.

(*) مقدمة كتاب الثقافة الجمهورية – دار أروقة، 2020.

•••
د. علي محمد زيد

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English