وظيفة الناقد المستترة

فضاء للاحتفاء بالرداءة والهشاشة وتأصيلهما
صلاح الأصبحي
January 1, 2024

وظيفة الناقد المستترة

فضاء للاحتفاء بالرداءة والهشاشة وتأصيلهما
صلاح الأصبحي
January 1, 2024
.

ما يزال النقد الأدبي في اليمن، يخوض صراعًا مريرًا مع خصوم كثر على امتداد المساحة التي يحتاجها وجوده، ويتطلبها نموه وحركته، من ثقافة عامة لمجتمع يلفظ هذا العلم ويستهجن تواجده ويجهل مفاهيمه، وثقافة نخب ترفضه وتتعالى عليه، وتدعي مكانة فوق مستواه، وواقع مضطرب بالجهل والتخلف والانحطاط السياسي والفكري، ونشاط ثقافي متصحر وغياب تام لأية حركة ثقافية وإبداعية وصحفية تستوعب ظهور نشاط نقدي للأدب بمختلف أشكاله، وأمية نقدية تنخر وعي المتلقي وتجرفه خارج سياق الأدب والنقد والاهتمام بهذين المجالين كمحركين أساسيين من محركات الحرية والثقافة المعرفية.

يتصور الكثيرون أنّ الناقد الأدبي صاحب مهنة ليس لها أي لزوم أو معنى، وأن النقد الأدبي تخصص هامشي مرتبط بالهراء والهذيان، ولا قيمة له ولا يمكنه أن يقدم أو يؤخر في شيء، وهذا الأمر عائد إلى المستوى المعرفي الضحل وتجذر الأصولية وثقافة القبيلة المعادية لأي نشاط حقيقي للنقد الأدبي، وقبله أيضًا للأدب ذاته. والحقيقة أن الناقد فاعل اجتماعي يسهم بطرق مختلفة في تحرير الإنسان من القيود المعيقة لتحضّره، وتنمية نظرته للحياة والعالم، وتفتيق مداركه الثقافية والمعرفية على استيعاب معنى الحرية والعمل من أجل نزع الأغلال الأيديولوجية التي حشرته في زاوية التخلف والعصبوية الاجتماعية، والانتماءات الضيقة للجماعات المتطرفة والتكتلات المنغلقة التي أنهكت مستواه الاجتماعي، ونفته بعيدًا عن مدارب الانفتاح والتحضر والمعرفة وإدراك حقوقه سياسيًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا.

أفرزت الحرب اليمنية الأخيرة واقعًا كسيحًا ومحطمًا للناقد الأدبي، إذ تلاشت تلك الأجواء النقدية الشحيحة، وضاعت تلك الأدوات والمنابر والوسائل الصحفية والثقافية التي كانت تمثل المتنفس الوحيد لنشر وتلقي النتاج النقدي، والتفاعل معه، وبات الناقد منعزلًا في الغياب، طالما أنّ الواقع ممتلئ بالموت وثقافة العنف والتشرد والانتكاس في كل سبل الحياة وتوقف الحركة الأدبية تمامًا، إضافة إلى أن السوشيال ميديا صارت هي البديل والبيئة الجديدة التي هاجر إليها الأدباء والنقاد وغدت مسرحًا للتلقي والتفاعل النقدي، وهي بدورها غيرت مفاهيم وخصوصيات النقد وكسرت ناموس الأدب والنقد معًا، وجعلت لهما تصورات وأنماطًا هشة ومعايير تقييم ساذجة، قائمة على تفاعل جمهور من القراء السذج ومحدودي الثقافة والمعرفة، الذين باتوا علامة فارقة في تحديد القيمة الحقيقية للعمل الإبداعي وشهرة كاتبه، وإن كانت رداءته وضحالة محتواه جلية وبيّنة.

ومن هنا فليس بمقدور الناقد الحقيقي اعتراض سيل الإعجاب العارم، الذي تلاقيه بعض الأعمال الأدبية للكُتاب اليمنيين الذين اتكَؤُوا على جمهورهم الفيسبوكيّ، وصدوا أي منفذ للناقد الأدبي الحقيقي، الذي كانت كتابته النقدية تحظى باهتمام وتقدير من قبل المبدع والقارئ معًا في التسعينيات والعقد الأول من الألفينية الثالثة.

وجد الناقد نفسه مجبرًا على عبور الطريق التي أصبحت تتحكم بالمشهد النقدي اليمني، حيث الخضوع لأدبيات الواقع النقدي اليمني، والمضي في التخلي عن مفاهيمه النظرية وأساليبه النقدية وممارسة النقد الإطرائي الزائف والثناء النقدي الخادع، والاحتفاء بالرداءة والهشاشة الإبداعية وتأصيلها وتسويقها والدفاع عنها بوصفها الصورة الحقيقية للإبداع والاكتمال الفني للأدب.

كما أصبح الناقد يخجل ويخاف من تناول عمل أدبيّ نقديًّا بعد أن كِيل لهذا العمل الكثير من الإطراء الفج، والمدح السطحي من قراء كثر، وأصبح هذيانهم رأيًا عامًّا وتحصينًا نقديًّا رادعًا يصد أية كتابة نقدية خارجة عن هذا السياق الجماهيري الذي لا يفقه أدنى مستوى من المعرفة والثقافة في الشأن الإبداعي والقرائي المعبر عن انحطاط فني، وتردٍّ ثقافي وأمية متفشية تجاه الأدب تستحوذ على ذهنية المتلقي والقارئ اليمني بلا منازع.

عجز الأدب عن خلق درجة من الوعي والتأمل والتنوير بما يجنب هذا المجتمع السقوط في مستنقع التطييف وهدم القيم، وتجنب التغلغل في الرجعية وتفشي الخرافة، والعمل على التمسك بمبادئ الحرية والديمقراطية والإنسانية.

ولقد شاع في الآونة الأخيرة، أنه عندما يعلن كاتبٌ في حائطه على مواقع التواصل الاجتماعي عن طباعة أول عمل أدبي له، تجد الجميع يهتفون ويمتدحون ذاك العمل ويبجلونه قبل أن يقرَؤُوه؛ حالة من النفاق والسذاجة اللتين لم نكن نعرفهما من قبل، وما كان يعقل أن نصل إلى هذا المستوى من التلقي، وقد يقول قائل إن هذا الأمر لا يضر ولا يمت بصلة إلى العملية النقدية. والحقيقية أن النقد في اليمن بات على هذه الشاكلة، وغدا القراء بمختلف مستوياتهم الثقافية، يمارسون النقد بكل أريحية، وبدون أي ضوابط، وأصبحت آراؤهم هي السلاح الذي يلجم به الشاعر أو السارد أي ناقد فضولي يخالف رأيه عامة نقاد السوشيال ميديا الذين أصبحوا هم المرجع الحقيقي لأي مبدع.

ومما لا شك فيه أنّ المشهد الأدبي اليمني يشهد فوضى عارمة وعشوائية مفرطة، حيث انكفأت أسماء أدبية لها ثقلها الفني وانزاحت عن الأضواء بعد أن برزت إلى السطح تجارب أدبية هشة تجيد التسويق والتحشيد لنتاجها الذي لا يمت للأدب بصلة إلا أن قدرتها المادية على طباعة أعمالها مكّنها من الظهور، بينما المبدع الحقيقي ينجز ولا ينشر؛ لعجزه وافتقاده لتلك المسالك التي صارت هي الأداة في المشهد، وفي هذه الحال يجد الناقد نفسه ضعيفًا منكسرًا أمام هذه اللحظة الأدبية المعتمة التي أعاقت أي فعل حقيقي لنشاط أدبي ونقدي مواكب لمعطيات الواقع وتأزمات اللحظة التاريخية التي تمر بها البلاد، حيث عجز الأدب عن خلق درجة من الوعي والتأمل والتنوير بما يجنب هذا المجتمع السقوط في مستنقع التطييف وهدم القيم، وتجنب التغلغل في الرجعية وتفشي الخرافة، والعمل على التمسك بمبادئ الحرية والديمقراطية والإنسانية.

علمًا أن هذه التحديات التي تقف عائقًا أمام الناقد الأدبي ليست وليدة اللحظة فحسب؛ وإنما لها أبعاد سابقة حيث تنتصب العديد من القضايا والتساؤلات التي تحيط بهذا المسمى، على سبيل المثال يتحفظ النقاد الأكاديميون بأنهم من يمتلكون حقيقة النقد ولديهم الأدوات المعرفية التي تمكنهم من إنتاج نقد حقيقي، هذا كإدعاء عام، لكن الحقيقة أنهم خاملون ميتون لا يكتبون ولا يتابعون جديد المشهد الأدبي اليمني، ولا يقرَؤون حتى بعض إصداراته لأمر يتعلق بدعوى أنه ليس هناك ما يستحق الاهتمام حسب زعمهم، فقبل سنوات كتبتُ مقالًا عن ازدراء هؤلاء النقاد وتعاليهم المفرط الذي أبعدهم عن الالتحام بالمشهد، ومبالغاتهم المقززة التي تطمح أن يبدع الأديب اليمني أدبًا يضاهي أقرانه في المغرب العربي أو مصر أو أدب أوروبا، متجاهلين أننا في بلد لم نتقن فيه أبجديات الكتابة والإبداع بعد، وما زلنا في طور البدايات والمغامرة الفنية، ومن هنا عليهم أن يكفوا عن طرح آرائهم العبيطة في المجالس أو في مواقع التواصل؛ لأنهم بعيدون عن الواقع وعن النقد وعن المنهجية، وليس شرطًا أن يكون الناقد مفصلًا حسب تصوراتهم ومفهومهم المتزمت المتجمد الذي تلحظ جموده حتى في أطروحاتهم العلمية المشلولة، فأحيانًا يطرح كاتب ما في مقال مقتضب آراءً دقيقة تعجز رسالة علمية عن التوصل لها في رسالة طويلة عريضة.

الناقد صاحب مسؤولية جمة في خلخلة الوعي المعتم والفكر الصلب والثقافة العنيفة والتطرف السلوكي الذي جعل منا مجرد متهمين على الدوام مهما كانت براءتنا ناصعة.

علينا أن نتذكر كتابات الفقيد هشام علي وعبدالودود سيف ومحمد عبدالوهاب الشيباني وعبدالله علوان التي تعد من أفضل الكتابات النقدية اليمنية التي تبصر القارئ بالأبعاد الفلسفية والفكرية والفنية لأي نص بطريقة سهلة ودقيقة لا تلمسها فيما يكتبه الناقد الأكاديمي، ولذا فالناقد هاوٍ بالدرجة الأولى، وشغوف حد التماهي، وبصير حين يقرأ ويكتب ويصل إلى أعماق النص، دون أن يتشدق باتباع منهج معين أو نظرية بعينها؛ لأن الأدب ليس مفصلًا ومطابقًا على شاكلة النظريات النقدية، وإنما هو من يخلق النظرية النقدية الخاصة به التي يستنتجها الناقد الحقيقي ويمسك بتلابيبها ليبرز ذلك النص بحلة جديدة يغفل عنها كاتب النص نفسه.

الناقد الحقيقي ليس حارسًا للنظريات ولا خادمًا لأفكارها، وإنما فاحص مدقق لما يتناسب من منطلقاتها مع أدب مجتمعه الذي يجب أن يكون ثائرًا على واقعه وليس مجرد مصور لبعض إشكالياته، وكلما ارتبط هذا الأدب بالمعضلات التي تعيق خروج هذا المجتمع من بوتقة التخلف والعنف والأنساق الثقافية المتأصلة في الوعي والثقافة والعادات البلهاء التي لا تناسب إنسان هذا العصر، كان دور الناقد أكثر تحفيزًا وإشادة وإبرازًا لقيمة الإبداع الذي يقود المجتمع إلى حالة التنوير والاستكشاف لعيوبه والكف عن التشبث بطريقة تفكير تقليدية مؤدلجة دينيًّا واجتماعيًّا ولا تؤدي إلى آفاق رحبة من الحلم والخيال والتطلع بمستقبل يعيد بناء أجيال سليمة من أوبئة التفكير والوعي والثقافة والسلوك.

الناقد صاحب مسؤولية جمة في خلخلة الوعي المعتم والفكر الصلب والثقافة العنيفة والتطرف السلوكي الذي جعل منا مجرد متهمين على الدوام مهما كانت براءتنا ناصعة.

أمام الناقد مهمة فكرية ووطنية ومعرفية في تمجيد قيم العدل والمساواة والحرية والتعايش والإنسانية لا الانصياع لإفرازات التشتت والتشظي والأحقاد والتناحرات البينية وتفكك النسيج الاجتماعي، فواقعنا المضطرب يحتاج رجال تنوير وتثقيف لا رجال بلاهة وتحذلق وفهلوة لغوية وشطح واستعراض بالمصطلحات، يحتاج نقدًا بنّاءً وفاعلًا يسهم في نشوب ثورة فكرية وثقافية، تزيح عنا غبار التقهقر والفشل في تشكيل وطن حقيقي خالٍ من العصبويات وملامح البؤس.

إننا نخوض أصعب مرحلة تاريخية يمكن أن تتلاشى فيها هويتنا وكينونتنا، فعلينا أن نغرس ثوابتنا الوطنية وأحلامنا الحقيقية في نتاجنا الأدبي والنقدي، ونخلق تأثيرًا مشتركًا بين الأدب والنقد، ونعكس ذلك معًا على الواقع، ونحرص على الفعل المترابط بين الإبداع والمجتمع، ونبعث الشغف وروح الاهتمام والجذب لدى جيل الشباب التائه والمشتت، ونرسيه على بر آمن من خلال الأدب والفن، فدور الأدب والنقد أكبر مما يتصوره فكرنا القاصر ونظرتنا المبتورة، كونه الأقدر على تغيير مسار التهاوي والضياع الذي نعيشه بسبب فقدنا الثقة بما نكتب وافتقار الكتابة للقيمة والمعنى والغاية التي يجب أن يكون إبداعنا مبنيًّا عليها ومنبثقًا من مرجعية أصيلة، مرجعية الإنسان السوي الحر الحالم صاحب الرؤية والطموح الثائر على واقعه وتفكيره، الذي يمجد تاريخه وهويته ولا يمكن تأطيره أو قولبته بيسر لأنه صاحب رؤية، صاحب فكر، صاحب خيال، عنده سقف وأفق ورؤى حقيقية في بناء حاضره ومستقبله لا يؤمن بالأوهام والخرافات ولا ينخدع بالأيديولوجيات المعتقة، إنسان متمرد نشط مثابر قادر على اقتلاع ذاته والانطلاق بها إلى عالم متحضر ومستنير.

الناقد الأدبي مرآة للأدب والواقع، وليس تابعًا أو هامشًا للنص أو للكاتب، ولا بدّ من إفساح الطريق له في المنظور الثقافي والمعرفي والاهتمام به، باعتباره مصدرًا مهمًّا من مصادر التنوير ونافذة من نوافذ المعرفة، ودليلًا يقود المجتمع نحو المستقبل المشرق والوعي الحقيقي للحياة والعالم. 

•••
صلاح الأصبحي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English