في عدن.. الأخبار الكاذبة والمضللة وباء إضافي

مصادر متعددة للشائعات صعّبت مهمة الصحفيين
عبد اللطيف سالمين
August 17, 2021

في عدن.. الأخبار الكاذبة والمضللة وباء إضافي

مصادر متعددة للشائعات صعّبت مهمة الصحفيين
عبد اللطيف سالمين
August 17, 2021

تزامنًا مع انتشار جائحة كورونا المستجد، شهد العالم أجمع انتشارًا واسعًا ومخيفًا لفيروسٍ أكثر فتكًا من الوباء، فيروس يضرب خلايا الدماغ ويهاجم العقل والمنطق؛ فيروس الأخبار الكاذبة والمزيفة.

وفي وقتٍ وصلت فيه الأزمة كافة أنحاء العالم، كان لمدينة عدن نصيب كبير من هذا الوباء الذي حصد الكثير من الأرواح، ولأن مواقع التواصل الاجتماعي بلغت ذروتها في الانتشار في فترة كورونا، تدفقت الكثير من الشائعات والمعلومات المغلوطة كالنار في الهشيم.

تعدّدت مصادر الأخبار الكاذبة في مدينة عدن بالقدر الذي تفننت به في صياغتها، وهو ما يجعل فكرة حصر هذه الأخبار في مكان واحد ضربًا من الخيال، ولكن من المهمّ الحديث عن تداعيات تلك الأخبار على الواقع، وكيف ضربت عمق الدفاع المفترض ضد الجائحة. تغلغلت الأخبار الكاذبة والمضللة في شرايين القطاع الصحي واخترقت المجالات العلمية، ووقفت سدًّا منيعًا ضد إجراءات الوقاية والتوعية للحد من انتشار الفيروس، بل وبلغت مدى أوسع جعل من غالبية المواطنين في المدينة تكذّب حقيقة الفيروس وترفض العلاج. ونتيجة لذلك مات الكثير منهم دون أن يحصلوا على العناية اللازمة أو الوقاية.


باحثون في علم الاجتماع، قيّموا جهود الوقاية من كورونا في اليمن، بأنها لم تنجح في منع الناس من نشر الأخبار الكاذبة التي حالت أمام محاولة إنقاذ أرواح، وأن "الأخبار المزيفة"، بما فيها المعلومات الكاذبة والخاطئة والنصائح غير السليمة على وسائل التواصل الاجتماعي، ساهمت في انتشار الجائحة بصورة أكبر.

على سبيل المثال، في الفترة ما بين أبريل/ نيسان وأغسطس/ آب 2020، تُوفِّي مئات الأشخاص في منازلهم بسبب الاختناق ونقص الأكسجين، وما برز في السطح آنذاك من قبل غالبية أهالي وذوي المرضى المتوفِّين، هو أن هناك "وباءً غامضًا جديدًا" يضرب مدينة عدن، تارة تم اتهام البعوض في التسبب بالمرض، وتارة أخرى اتُّهمت حملات رش المبيد بأنها سبب تلك الوفيات من خلال رش مواد سامة تتفاعل بعد أيام وتسبب الاختناق والموت.

ومن جهة أخرى، تداول الناس على نطاق واسع أقاويل تتبنى نظرية المؤامرة وتتهم المنظمات الخارجية ببث هذا الوباء كي يتم تخويف الناس بأن هناك فيروسًا وهميًّا يُدعى كورونا قد وصل إلى عدن مثل بقية العالم، وهو ما يرونه "كذبة كبرى". أصرت هذه الفئة على أن الوباء لا وجود له في الواقع، ولأشهر عديدة، رغم تساقط المئات من الأرواح بصورة يومية، كان حديث الشارع في عدن يتمحور حول أن الفيروس مثل الزكام العادي ولا يوجد له ضحايا، وأن الأرقام المعلنة غير حقيقية، وأن المستشفيات لا يوجد فيها مرضى، بل تداولوا أن المستشفيات هي من تقوم بقتل المصابين بأمراض عادية كي تخيف الشارع العدني، وأيضًا كي تقبض أموالها من تلك المنظمات الخارجية.

أيضًا، ونتيجة للأخبار المغلوطة والشائعات، ووَفق مصادر طبية تحدثت لـ"خيوط"، تُوفِّي وأصيب العشرات بسبب التسمّم؛ جراء تناول جرعة من مادة كحول الميثيل المعروفة بالميثانول. وكان ذلك امتدادًا لانتشار معلومات مغلوطة في مواقع التواصل الاجتماعي، تدّعي أن أطباء عالميين أكدوا أن تناول الكحول يلعب دورًا في الوقاية من الإصابة بكورونا، وبرزت العشرات من القصص التي تتناول جانب الكحول في الوقاية من المرض؛ منها خبر يَذكر أن مُسِنًّا صينيًّا عالج نفسه من خلال شرب الكحول فقط.

ساهمت المماحكات والتجاذبات السياسية بين أطراف الحرب في اليمن، بنشر الشائعات والأخبار المضللة، وكان لمدينة عدن نصيبها من هذه التجاذبات التي سخّر كل طرف وسائل دعايته الحربية والسياسية لترويجها

الطب البديل والشيوخ وعلاجات بلا تشخيص

لم يقف وباء الأخبار الكاذبة عند مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية فحسب، بل طال منابر المساجد ومراكز العلاج بالطب البديل والقرآن والرقى الشرعية، حيث تفنن بعض رجال الدين في حبك الأخبار المضللة وكان لهم دورٌ كبير في هذا الشأن. أبرز تلك الأخبار الكاذبة ادّعاءُ أحد الشيوخ أن في المصحف الكريم يوجد أهم سلاح للوقاية من كورونا، وتحديدًا في سورة البقرة، وبالطبع ساهمت مواقع التواصل في انتشار هذا الادعاء، وأظهر الكثير من المتديّنين ثقتهم وتصديقهم للشائعة.

منشورات أخرى انتشرت لصفحات وهمية بصفات رجال دين، تزعم أن كورونا تم ذكره في سورة "المدثر" تحت اسم "الناقور"، ونتيجة لتلك الأخبار قام العديد من الأهالي بعيش حياتهم بصورة طبيعية مع الإصرار على تجاهل كل الإجراءات الاحترازية لمواجهة تفشي الفيروس.

وفي السياق، تحدث لـ"خيوط" أحد الشيوخ المعالجين بـ"الرقية الشرعية" والطب البديل، مشدِّدًا على عدم ذكر اسمه، ويصر في حديثه على أن "الرقية الشرعية" تقي من كل الأمراض والأوبئة، وهكذا اطمأن أهالي عدن، لا سيما المتديّنين الذين يثقون بآراء شيوخ الدين، وواصلوا حياتهم دون احتراز من الإصابة بالعدوى أو نقلها لأشخاص من ذوي المناعة الضعيفة!

المماحكات السياسية

ساهمت المماحكات والتجاذبات السياسية بين أطراف الحرب في اليمن، بنشر الشائعات والأخبار المضللة، وكان لمدينة عدن نصيبها من هذه التجاذبات التي سخّر كل طرف وسائل دعايته الحربية والسياسية لترويجها؛ إما من أجل إظهار مكون سياسي في محل نقد، أو لتبنّي انتصارات سياسية وهمية، أو لإلهاء الرأي العام عن حقيقة أو حدث كان المفترض أن يكونا موضع اهتمام الناس.

يستمر مسلسل تغييب العقل في مواجهة الوباء، خاصة مع ظهور متحورات جديدة من الفيروس وموجات جديدة من التفشي تستمر معها الأرواح بالتساقط، دون الحصول على حقها الطبيعي في الوقاية والعلاج

أبرز ما عاشته المدينة في بداية انتشار الجائحة، تجلى في أداء وسائل إعلام ومواقع إخبارية اكتفت بمهاجمة حكومة عدن، دون تسليط الضوء على الحياة اليومية في المدينة التي شهدت أسوأ انتشار للوباء في اليمن، وبدا واضحًا أن ذلك كان من أجل تخويف سكان المدينة لعدم فرض حظر التجوال. وفي حين تبنّت وسائل إعلام نشر أخبار كاذبة ومضللة تكذّب وجود الفيروس على أرض الواقع، انتشرت أخبارٌ أخرى تفيد بحدوث حالة طوارئ في المستشفيات وانتشار الفيروس بصورة مروعة، جعلت كل مستشفيات المدينة تغلق أبوابها أمام المرضى لأيام عدّة، الأمر الذي جعل المواطنين ضحية للأخبار الكاذبة والمغلوطة، وحصد الفيروس المئات من المرضى، بينما كان بعضهم بحاجة فقط، للعناية الطبية.

مثال آخر؛ قيام جهات إعلامية مناهِضة للحكومة الحالية في عدن، باتهام السلطة المحلية ببيع الكمامات وشحنها لدول الخارج؛ ما شجع التجار على استغلال الموقف وإخفاء الكمامات عن السوق ومضاعفة أسعارها، وهو ما حال دون حصول الكثيرين على حقهم في ارتداء كمامة، بعد أن تضاعف سعرها بشكل كبير.

إبراهيم بن مجور، واحد من صحفيين مستقلين قلائل كان لهم دورٌ بارز في متابعة أخبار الجائحة والوقوف ضد الأخبار الكاذبة والمضللة، يحكي بن مجور في حديثه لـ"خيوط"، كيف لعبت الممحاكات السياسية دورًا في انتشار الأخبار الكاذبة والمضللة والمغلوطة. يقول: "كان للمماحكات السياسية دورٌ سلبي في نشر المواد المضللة في ذروة "كوڤيد-19" باليمن، حيث سعت الأطراف المتنازعة في البلاد لتبادل الاتهامات في أوساطها، وكلٌّ أصبح يُلقي بالمسؤولية على غيره؛ الأمر الّذي أوصل المجتمع إلى فقدان الثقة بالأرقام المنتشرة في مواقع السوشيال ميديا، وأن يلتزم بمصادره المحيطة به".

حتى لقاح كورونا لم يسلم

يقترب العام الثاني من عمر الجائحة من شهوره الأخيرة، وفي وقت يشهد فيه العالم إجماعًا علميًّا على أمان اللقاح وأن الأعراض الجانبية الشائعة للقاح بسيطة، يميل الأهالي في عدن لتصديق الأخبار المضللة والمُفزعة؛ الأمر الذي يؤثر بصورة كبيرة على قراراتهم تجاه اللقاح، خاصة من هم بحاجة ماسة له، ككبار السن أو المصابين بأمراض خطيرة.

تعثُّر المستوى الثقافي الصحي لدى الكثير من المواطنين، إضافة إلى الاجتهادات في الإفتاء الطبي، التي ملأت البلاد دون منهجية علمية، ناهيك عن الأخبار الكاذبة والمضللة، كلُّها عوامل تسببت بعدم التزام المواطنين في عدن بالإجراءات الوقائية، وبامتناع الكثيرين من تلقي اللقاح. ‏ ‏

ربما يكمن ‏جزء كبير من المشكلة في أن بداية تفشي فيروس كورونا "كوفيد-19" تزامنت مع نسبة غموض عالمية كبيرة، لذلك استقبل اليمنيون الجائحة بحملات تشكيك كبيرة لم تشهدها أيٌّ من الأمراض مسبقًا، وطالت هذه الحملات الإجراءات الاحترازية، وحتى اللقاح الذي صُنع لإنقاذ الحياة، لم يسلم هو الآخر من الأخبار الكاذبة والمضللة، ليستمر مسلسل تغييب العقل في مواجهة الوباء، خاصة مع ظهور متحورات جديدة من الفيروس وموجات جديدة من التفشي تستمر معها الأرواح بالتساقط، دون الحصول على حقها الطبيعي في الوقاية والعلاج. ‏

ومع مرور الوقت، ساهمت الأخبار الكاذبة والمضللة بأضرار فادحة على حياة سكان عدن، وبلغت المدينة مرحلة خطيرة في منتصف 2020، مع دخول مرحلة "ذروة تفشي وباء الأخبار الكاذبة" في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما شكل مهمّة صعبة أمام الصحفيين وصناع المحتوى، وأيضًا أمام المؤسسات الإعلامية، للتصدي ومكافحة التضليل في أزمة كورونا.


•••
عبد اللطيف سالمين

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English