دهاليز كورونا

لحظة اقتراب المحتضر من النهاية
محمد عبدالوكيل جازم
August 27, 2021

دهاليز كورونا

لحظة اقتراب المحتضر من النهاية
محمد عبدالوكيل جازم
August 27, 2021

كنت في طفولتي الأولى أنتبه جيدًا لما سيقوله أبي، وبالذات حين يحل المساء، لأن المساء في القرية يكون أكثر صمتًا والكلام أوهن همسًا، وكنت أجد نفسي في بداية الليل أكثر قدرة على فهم الروايات الساحرة، وأكثر استعدادًا على سماع الحكايات وإعادة إنتاجها بفرح طفولي؛ أتخيل الأحداث والصور والملامح كما لو أنني في صالة عرض أتابع فيلمًا هوليووديًّا على شاشة سينما كبيرة. أتذكر الأصوات التي كانت تحيط بي، حين تتحرك الشفاه، ترتطم على دوائر أذنيّ مثل صوت قطرات تهوي من ثقب إناء مرتفع لتستقر على سطح إناء منخفض، ولكن سرعان ما يعقب ذلك الإيقاع المتقطر صمت آخر يغني بجنون لسواد الظلام في الخارج. قال أبي:
- "بعد أيام سيأتي العيد وتأتي عمتك "مِسْك" من مدينة الحديدة لتحكي لنا عن البحر الذي يسكن جوارها، وسوف تحدثنا عن الشمس التي تغطس هناك". نزل الكلام على مخيلتي مثل حبات البرد وقادني مباشرة إلى نفسي التي بدأت أختفي داخلها، ومن هناك أطلِق سيناريوهات الأحداث التي كنت أستمرئ إعادتها. شغّلت زرّ خيالي –حقًّا- وقعدت أعيد على نفسي الكلمات وأجسّدها في أعماقي صورًا تخرج من فوهة بركان، البركان يطلق الغيوم الملونة ويشكلها على هيئة رؤى حميمة تغازل دفئًا يتغلغل في النفس.
كنت قد سمعت بأن البحر عبارة عن ماء داخل حوض كبير، وعلى الفور قامت ذاكرتي لتربطه "بكَرِيف" [حوض] القرية الذي كنت أتهيب الخوض في مياهه الملوثة، وأخاف من سطح مائه المصقول معتقدًا أن ثمة أياديَ خفية ترقد في أعماقه ولعلها تنتظر اللحظة التي ينام فيها الناس لتستيقظ؛ جثث أطفال وأغنام وأبقار اختفت هنا ولم تعد إلى الحياة أبدًا.
من خلال صوت أبي، بزغ وجه عمتي، كما لو أنها الشكل النهائي للفرح؛ وجه منحوت على الجدار يتقدم نحوي باستمرار، وكلما تقدم، توهج وانثال منه بريق نجمتين؛ هكذا كنت كلما اشتقت إلى الوجه الغائب وقفت أتفرس في الجدار، وفي الصباح أعلق نظري في الطريق الترابي التي تشق القرية. كان الأفق لا يبخل على عينيّ برؤية الجمال الخلّاب للطبيعة؛ أشجار الكافور وهي تتمايل على إيقاع الريح، العصافير وهي تضرب بأجنحتها لوحة السماء الزرقاء، وأحيانًا لا يمنع الأمر من مشاهدة ثعبان "يتأفعن" في رحلة بحث عن جدار يتوارى في شقوقه أو في أحراش يضيع في أحشائها. لم تمر الأيام القليلة سريعًا، وإنما تمددت واستطالت وتمخض عنها جسر طويل من أحلام اليقظة. لا أدري لماذا كان يحيرني حضور الناس إلى القرية، ثم اختفاؤهم مع السيارات المكشوفة؟ مرة سألت أختي الكبيرة عن "عمي سعيد". سألتها: "أين ذهب؟"، فأجابت بضجر: "سافر"، وسألتها مرة عن "سعيدة" بنت الجيران، فقالت بقرف: "تزوجت"، وكأنما هي أيضًا كانت تريد أن تطير وتتلاشى. هي لم تكن تدري بأنني كنت أضمر همًّا كبيرًا وسؤالًا ضخمًا، وأن تلك الأسئلة لم تكن تعبر عن شيء قدر تعبيرها عن قلقي الذي ينتظر المجهول.
وصلت عمتي بعد لَأْي، وذهب أبي في اليوم التالي للمقيل مع زوجها، ولا شك أنه قد سلم على شقيقته وتذكر معها أيام زمان. ما زلت أتذكر حديثهما، أخبرته بأنها لم تستطع أن تنسى حُزم المشاقر التي كان يعود بها كلما ذهب إلى سوق "خوالة"، أو تلك التي كان يعود بها من "مهرجان السيد علي"، وعلى حد تعبيرها، فقد كان سمعها يطرب كثيرًا لحديثه عن المجاذيب الذين يطعنون أجسادهم بواسطة الجَنَابي في ذلك الجمع الذي يُعدّه مجموعة من المتصوفة، وكان أهم مهرجانٍ ديني طقوسي في المنطقة. أما أنا، بعد رؤيتها زال كل شجني وانشغلت باللعب مع أبنائها، وفي الليل، بعد عودتنا من دارها، سألت شقيقتي الكبيرة: "ماذا قالت عمتي عن البحر؟"، أجابت: "صحيح إن حديثها كله انحصر عن البحر والشمس، فهذه الشمس بعد أن تضيء طوال النهار، تصبح ملتهبة جدًّا فتنزل إلى البحر لتستحم وتبرد، وذلك من أجل أن تعود بخفة في اليوم التالي لممارسة مهمة الإضاءة. وقالت إن ماء البحر يمسي باردًا جدًّا، وحين تستحم الشمس به يتحول إلى قِدر كأنه ماء يغلي.
اليوم وفيما كنت أشاهد نعشها محمولًا على الأكتاف، تمنيت لو أن أبي يعيش بيننا. لكنت وجهت إليه بعض الأسئلة التي أرقتني كثيرًا، وخاصة السؤال التالي: أين ستذهب عمتي؟
أعرف بأنه سيرد بأن عمتي التي كانت تراقب لحظة سقوط الشمس في البحر، استدعاها الله لكي يستضيفها في الجنة نظير ولعها الصوفي بقدرته على إماتة الشمس ثم إعادتها إلى الحياة كل يوم.
امتداد
وفيما كنت أدور على سلالم المستشفى وعنابره، وبين كمامات المرضى والمرافقين والأطباء، رأيت كورونا بثوبها الأزرق الطويل تدور وتحلق في كل مكان، وأتخيل أن خراطيمها الشوكية تلقح هذا وتفتك بذاك، وها هي عمتي قد سقطت في دهاليزها، ولكن الأعراض لا تتطابق معها، أو هكذا أريد. لم أسمعها تسعل أو تشتكي من أوجاع في الرئة ولا ارتفعت درجة حرارتها، فقط سحبتها الغيبوبة إلى عالم غير مدرك. الأطباء بقدراتهم العادية ومختبراتهم المتخلفة لم يستطيعوا الوصول الى أي نتيجة! فتحت عينيّ ثم أعدتهما إلى غمدَي جفوني فرأيتها.
"الموت لا يأخذ سوى الجسد، أما الروح فإنها بيننا"، هكذا كان يقول جدي.
حين نامت في المستشفى، كنت أختلس النظر إليها فأجدها شاردة تحلق على إيقاع أضواء شاحبة في عالم آخر، وكنت أسمعها تحدث أبي وجدتي وأمواتًا آخرين، ولم يكن من السهل انتشالها من تلك المتاهة الموصولة بدهاليز غير مرئية. كنت أتوسل الأطباء -وهم يمرقون مثل الأشباح البيضاء- ليسمحوا لي أو لأحد من أبنائها بأن يتسلل إليها لإصلاح الوسائد تحت رأسها أو من أجل إخفاء شعرها الذي كانت كلما دخلت غرفة العمليات طلبت منّا أن نهتم بستر شعرها وإخفاء ما ظهر من جسدها النحيل؛ ولكن الأطباء -ويا للعجب- كانوا يقابلون توسلاتي بالرفض! كنت أعلم أنهم لا يفعلون شيئًا، وأعرف أنهم يسهلون مهمة عزرائيل، ومثلها دخلتُ المتاهة المقابلة لمتاهتها؛ أتتبع خطوات كورونا المجنونة بخراطيمها وأسياخها المنمنمة تتدحرج في الدرجات والدهاليز، بأجنحتها تطير في السقوف وتحطّ على زجاج النوافذ، كورونا في حذائي مثل شوكة، أهرب منها فتغزو رأسي، أحسها تتسلل من بين جفوني ومن فمي وأذنيّ، وأحسها بين ثيابي وأمعائي فيعتريني الغثيان والدوار والشعور بالقيء. سألت أحد الأطباء المتواطئين مع كورونا:
-هل تسللت كورونا إلى قفصها الصدري؟ قال:
- لا، لم تقترب قيد أنملة!
لم أقتنع بالرد. ذهبت إلى طبيب آخر ووجهت له السؤال نفسه، فأدلى بما يفيد أنها مصابة.
في هذا الجو المضطرب، كرّت قرون كورونا الطائشة، فزارت كل بيوت المدن والقرى، خضّبت النجوم البعيدة باللون الأحمر، وعلى أكتاف عواصف قابضي الأرواح، أُتلفت الكثير من الأغصان التي كانت تستحق الحياة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English