آيسكريم بالنحاس.. أحلام مجزأة مثل رذاذ مسموم!!

من أكثر الزوايا التصاقًا بواقع اليمنيين
محمد عبدالوهاب الشيباني
April 13, 2022

آيسكريم بالنحاس.. أحلام مجزأة مثل رذاذ مسموم!!

من أكثر الزوايا التصاقًا بواقع اليمنيين
محمد عبدالوهاب الشيباني
April 13, 2022

حتى اليوم، لم أزل أقرأ واستوعب فحوى المثل الشعبي الذي يقول: "لقمة الشابع على الجاوع بطية" من زاوية أن الشبعان عادة ما يكون إحساسه بالجائع مهملًا وبطيئًا أيضًا. هذا المثل الذي صار مفتتحًا في المجموعة القصصية (آيسكريم بالنحاس) للُطف الصراري -دار عناوين 2022- ومتحورًا قليلًا على نحو: "بطن الشابع على الجاوع مطيَّة"؛ بمعنى أن الجائع يتحول إلى مطية يركبها (الشابع)، لكن تبقى الإشارة ،في صياغة المثلين، إلى الجوع في هذا المدخل بوصفه واحدة من العتبات المركزية، أو المفاتيح الفاعلة لقراءة المجموعة؛ لأنه يصير تعريفًا مكثفًا لحال الشخوص المستنبتين في صلب الوحدات الحكائية، والذين بدورهم يغدون في المنصوص إحالة مكثفة وعين كاشفة لحال مجتمع مقيم في مرجل حرب لا قدرة على إيقافه.

مثلًا، لم يكن مجرد رغبة "مهندس الذرة البيضاء" في النسيان، كان قراره قد اتخذه ونفذه لا وعيه المَحْقون بمهانة الفاقة والجوع والحسرة. بائع القدور الأسمر المتجول، رفض، هو الآخر أن يقاسم بائعًا آخر بسطته، بدماثة غريب وجائع يجهد لمواربة خوفه وبطنه الضامرة. المتشرد الذي "لُهْ ارْبع ايَّام ما ياكُلْش. يشرب شاهي وقهوة بس". ومدرس الفيزياء الذي يعرَّف نفسه لتاجر الذهب: "أنا مدرس فيزياء في مدرسة النهضة اللي جمْبكم، من أمس أقسم بالله ما أكلت حاجة، وعيالي منتظرين الدقيق..."، والجوع هو الشيء الذي وضعت له الحجة ياقوت حسابًا فتزودت مع انفجار الحرب بمؤن غذائية لشهرين، ولم تكن تظن أن الحرب ستطول أكثر من ذلك، غير أن هذا الطعام وجد كائنات مخفية (جيران الدار) يقاسمونه الأسرة؛ لأنهم جياع أيضًا. 

الاشتغال على التفاصيل ومستلهمات الوقت الذي نحياه، وبلغة سردية رفيعة، واحدة من مبذولات المجموعة التي تعيد التذكير بالمسرودات القصيرة (القصص القصيرة) من أكثر الزوايا التصاقًا بواقع اليمنيين اليوم الذين يعيشون ظروف الحرب والنزوح والتشرد والقتل. لهذا جاء ترسيم الشخصيات الملتقطة من الهامش للتعبير عن حالة الانهدام الكبيرة التي تتلبس الجميع، مثل فقدان الإحساس بالمكان والزمان عند بشير محجان. وهي الدمعة الساخنة لمشرد في حديقة التحرير حفرت على خده المتسخ، أخدودًا متعرجًا تلاشى وسط لحيته المخططة بالشيب، وهو يودع مشرّدًا آخر مات في الحديقة بعد ليلة شاهد فيها القمر. وهي توْءَم عمر الذي صار وحيدًا إلى الأبد، مستوحشًا كل طريق يمشي فيه بدون توْءَمه، وفي قاعة الامتحان، كتب اسمه في دفتر الإجابة: "عمرو". وهي حارس المدرسة النازح في سهرته مع "دبور"، ولخصها بقوله: "تنتظم حياتي كما يليق بنازح عليه أن يلتزم الأدب وعدم التدخل في غير شؤونه".

تتنوع ضمائر السرد في المنصوص بين متكلم صريح يسكب انفعالاته على هيئة تقطعات حكائية، يعاد ترتيبها في بنية واحدة متماسكة، وبين غائب مضمر يمكِّن الشخصيات من بناء خطوطها السردية في مساحات المفارقة والغرائبية، وهي الملتقطة من أكثر الزوايا واقعية

تحضر الحرب في النصوص، بالتضمين والإشارة ، بوصفها الفعل الأكثر تأثيرًا في سلوك الشخصيات، فهي التي جعلت مهندس الذرة البيضاء يختار العزلة ويعيش كوابيسه و"أحلامه المجزأة التي كانت تتلاشى مثل رذاذ المبيدات الحشرية فوق أغصان الشجرة السحرية"، وجعلت الفتى الأسمر بائع القدور المعدنية الأسمر ينزح من مدينة حرض التهامية، "حيث ما زالت موجات الحرب تتجدد على حدودها الغربية"، وهي واحدة من مخلفاتها المتمثلة في الخراطيش النحاسية الفارغة (الظروف) التي يقايض بها أطفال فقراء بائع الآيسكريم من أجل القليل من البوظة الباردة بنكهات مختلفة فهم " قبل ساعات فقط، جمعوا هذه الغنيمة النحاسية من مراسم دفن ثلاثة "شهداء" وصلت جثامينهم في اليوم نفسه. وعندما أطلت السيارة الصفراء كانت أصابعهم الصغيرة لا تزال تلتقط بخفة أغلفة الذخيرة من الصُّرر المتدلية بين سيقانهم إلى الجالونات. وتحضر الحرب أيضًا في وظيفة الجندي (توفيق يعبر) المتمثلة في اصطياده لليمام من أجل غذاء قائد الموقع العسكري: "بعد لحظات اختفى الشاب، لكنه عاد قبيل الظهر بينما كان المقدم يستظل مع جنديين تحت الشجرة نفسها. أفلت الشاب من يده اليسرى حزمة حطب على الأرض ورفع باليد الأخرى يمامتين برأسين مقطوعين، وشرع في شيِّهما لأجل القائد". وهي حديقة التحرير التي آوت عشرات المشردين، "ومنذ أن تزايد عدد المطرودين من الغرف والشقق التي عجزوا عن دفع إيجاراتها، بعد أول قذيفة أشعلت الحرب الجديدة، صاروا يتشاجرون على الأماكن الدافئة". وهي الطفل عمر الذي منذ تلقت العائلة خبر مقتل شقيقه التوْءَم في الجبهة، أغدق عليه الجميع حنانًا فائضًا وحظي بضعف الاهتمام الذي كان يحظى به مع أخيه مجتمعين. هو لا يريد حنانهم الغامر، بل يريد اللحاق بأخيه، وأمه فقط من تعوقه عن ذلك؛ فخلال أسبوع مضى رأى لأول مرة، مشهدًا حيًّا لما يفعله الحزن بأم فقدت ابنها".

وهي تلك العتمة في ليل صيفي ماطر، حينما أصغت الحجة ياقوت لقعقعة رشاشات الكلاشينكوف وهدير الرشاشات المتوسطة ودوي المدافع، التي كانت تأتي من بعيد؛ من التلال المكتظة بالمنازل الآهلة والمهجورة، وبالمعسكرات والمواقع القتالية المستحدثة. فقد مضى شهر وعشرة أيام منذ نزح جميع سكان الحي عدا عائلتها. لكن هذا فقط، ما كانت تظنه طيلة تلك الليالي التي بلغت ذروة وحشتها ليلة الرابع عشر من شعبان"، التي هي في ميراث اليمنيين ليلة مقدسة يتسامرون بها.

وهي التي جعلت الحجة مريم السنانية تكف عن لعن ابنها الذي ذهب بدون علمها إلى جبهات الحرب، وأُعيد إليها بعد ثلاثة أشهر ملفوفًا ببطانية في صندوق سيارة جيش. عوضًا عن لعنه، كالت شتائمها الفاحشة ولعناتها لزوجته التي لم تحاول منعه من الذهاب إلى حتفه، تاركًا وراءه ثمانية أطفال سيكون على الجدة تربيتهم إلى نهاية حياتها.

يستوقفك في المجموعة حضور شخصيتين نسائيتين شديدتَي البأس والقوة؛ الأولى (الحجة ياقوت) التي رفضت مغادرة مسكنها مع عائلتها خوفًا من التشرد؛ صمدت في بيتها في أوج المواجهات المسلحة في الحارة التي تقطنها وبسببها فقدت إحدى بناتها ببندق قنَّاص، وقاسمها سكان الدار المخفيين (الجِنّ) طعامها الذي كسبته للأيام السوداء، أما الثانية فـ(مريم السنانية) بقيت حتى آخر أيامها تهتم بأحفادها الكثيرين وتتدبر شؤون البيت لا تفوتها شاردة ولا واردة من الحال والأحوال. بقيت تغني وتحفظ الأشعار وتعبر عن انفعالاتها بلغة غير مقيَّدة، كانت لمريم فراسة ثاقبة للتمييز بين الجيد والرديء، كفراستها في التعرف على الحب والكراهية من ملامح الوجوه ونبرة الصوت، وردّات الفعل إزاء كلماتها الحادة. كريمة ومعطاءة، وخلال عقود طويلة تقترب من الثمانية، صارت شاهدة على تبدلات الوقت منذ وصلت القرية على هودج العروسة إلى قرية زوجها حتى مغادرتها إلى القبر يوم عيد، وهي بكامل قواها وعنفوانها.

وبين شخصيتي ياقوت ومريم تبقي زوجة الرجل العجوز -الذي ينتظر عائلته المتسوقة في سحور رمضان في مقهى شعبي في مدينة ثانوية ساردًا قصته مع الحرب- هي الأكثر حميمية حين تقوم ببيع خاتمها لشراء ملابس لزوجها قبيل قدوم العيد، زوجها الذي كان مقاولًا مستورًا حولته الحرب إلى فقير سيتجر حكاياته على هامش الأيام التي كانت ذات وقت غير بعيد، تملأ نفسه بالصخب.

تتنوع ضمائر السرد في المنصوص بين متكلم صريح يسكب انفعالاته على هيئة تقطعات حكائية، يعاد ترتيبها في بنية واحدة متماسكة، وبين غائب مضمر يمكِّن الشخصيات من بناء خطوطها السردية في مساحات المفارقة والغرائبية، وهي الملتقطة من أكثر الزوايا واقعية.

خبرة الكاتب الواضحة أعادت تشكيل الحكايات بذات خبرة الخزفيين ببحثهم الدؤوب عن الشكل الفارِه، الذي لا يناسبه إلا ما كان ذا قيمة عالية وإلاَّ فقد شرطه الجمالي والقيمي، فما الحاجة لمزهرية جميلة موضوعة على الرف دون ورود أو غير محشوة بزهور بلاستيكية، أو كيف يمكن لظامئ استطعام ماء فاتر وغير عذب موضوع في كوز طيني جميل. الإسقاط هنا ليس على ثنائية الشكل والمضمون بمسوغاته النقدية وتمثيلاته الفلسفية، وإنما لِمَا يمكن اعتباره حالة تحفز للبحث عن قارئ نابه، يخلق مثل هذا البعد التأسيسي لتكامل القراءة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English