امرأة جميلة جاءت تسمع (فازعة)

حكاية الجدة التي تحايلت على الملاك!
عبدالكريم الرازحي
August 28, 2023

امرأة جميلة جاءت تسمع (فازعة)

حكاية الجدة التي تحايلت على الملاك!
عبدالكريم الرازحي
August 28, 2023
اللوحة لـ: حكيم العاقل

عندما حضر عزرائيل ليقبض روحها، كانت الجدة فازعة قد شبعت حياة، ولم تكن تطمع بالمزيد حتى تتحايل عليه، لكن لأنها كانت تحب بقرتها "سحابة" أكثر مما تحب نفسها، ولأن ملاك الموت -حسب قولها- أخطأ في التوقيت وجاء ليقبض روحها في نفس الوقت الذي تحلب فيه بقرتها، حدث ما حدث. 

كانت جدات وأمهات نساء القرية قد سمعن من الجدة فازعة قصة تحايلها على ملاك الموت، وكان بهن فضول لمعرفة كيف تحايلت على عزرائيل وفلتت من قبضته وهو قباض الأرواح الذي يقبض أرواح الملوك والسلاطين والجبابرة. ولأكثر من مرة، رحن يطلبن منها أن تحكي لهن الحكاية مثلما حكتها لأمهاتهن وجداتهن. 

لكن فازعة كانت تتهرَّب وتقول لهن بأنها صارت تتمنى الموت ولا تريد أن تتذكر، أو تسترجع حكايتها مع عزرائيل. ولكثرة ما عاشت وطال بها العمر راحت تشكو لهن من الدنيا ومن طول بقائها فيها، وتقول بأن جدّاتهن وأمهاتهن وجميع نساء القرية اللاتي عرفتهن وصادقتهن وأحبتهن غادرن الحياة وتركنها لوحدها، وكانت ما تنفك تشكو من طول بقائها في الدنيا، وتقول لهن: 

- الدنيا حبس يا نسوان، واني مكانني محبوس. 

وكثيرًا ما كانت تتمنى لو أن بقرتها سحابة تموت لتتحرر من سجنها، وأكثر من مرة سمعنها تدعو عليها: 

- ربي يقصف عمرك يا سحابة، ليت ربي يشُلِّك ويشَلشِل بِك لا "هيْجَة المدَّارين" ويتمطّر بك. 

 وكانت النساء يستغربن ذلك منها، ويقلن لها: 

- حرام عليك يا فازعة، مو ذنبها سحابة تدعي عليها! 

تقول لهن بأن بقرتها سحابة هي السبب في تحايلها على ملاك الموت، وهي سبب بقائها في حبس الدنيا. وكان كلامها ذاك يثير فضولهن ويفتح شهيتهن لسماع حكايتها مع عزرائيل قباض الأرواح. وأكثر من مرة كن كلما طلبن منها أن تحكي لهن الحكاية ترفض، وتتذكر بقرتها سحابة وتدعو عليها بالموت، وفي الأخير وقد تعبن معها ويئسن من أن تحكي لهن حكايتها، حدث أن امرأة في غاية الجمال بوجه موشوم وصلت للقرية عصر ذات يوم راكبة فوق حمار وعند وصولها راحت نساء القرية يتساءلن: من هي هذه المرأة الجميلة التي أتت للقرية فوق حمار؟! من تكون؟ ومن أين أقبلت؟ وما الذي جاء بها؟ وبعد نزولها من فوق الحمار راح الرجال والفتيان يتحلقون حولها ويحملقون في وجهها وهم في حالة انبهار من جمالها ومن وشمها الذي أضفى عليها جمالًا فوق الجمال، ويتساءلون عن المعنى والمغزى والهدف من مجيئها؟ وراح المتزوجون منهم وغير المتزوجين يتنهدون، وقال الفتى عبدالمنان: 

- هذي مرة صدق، هذي تكفي القرية كلها، تكفِّينا كلنا. 

وراح منصور السافع يلوم نفسه؛ لأنّه تسرع وتزوج البنت شَفَاف، وقال لكل أولئك الذين وقفوا مبهورين بجمال المرأة:

- لو كنتو ما تزوجتوش شفاف، والله كنت أتزوجها!

وعند نزولها من فوق الحمار، بدَت أكثر جمالًا وأكثر فتنة بقامتها الممشوقة، وكانت خطواتها وهي تمشي ذات وقع موسيقيّ وتشي بأنوثتها وتعبر عن شخصيتها، وكان أكثر ما أبهر أهل القرية، رجالًا ونساءً، هو أنها لم تكن تستر وجهها وتغطيه، وحين تمر من أمام الرجال لم تكن تشيح بوجهها عنهم مثلما تفعل نساء القرية، وإنما كانت تمر مرورًا استثنائيًّا يدل على أنها امرأة استثنائية لا تخاف الرجال ولا تخشى نظراتهم، وبعد أن تجاوزتهم راحت تتقدم نحو صف من النساء، وقفن ينتظرنها في طرف الساحة، وعند مدخل القرية وبعد أن سلّمت عليهن سألتهن عن فازعة، وهل ما زالت تعيش. 

وكانت فرحتها عظيمة عندما قلن لها بأنها لم تزل بكامل قواها الجسدية والعقلية وبكامل أسنانها؛ وحين سألنها من أين تعرف فازعة، قالت لهن بأن جدتها كانت تحكي لها وهي طفلة عن امرأة في "قرية العكابر" اسمها فازعة، تحايلت على ملاك الموت وأخبرتهن بأنها أتت من قريتها لتسمع الحكاية منها.

 وحين سألنها من أين جاءت، قالت لهن: 

- أجيتو يا نسوان من طرف الدنيا.

وكانت نساء القرية منبهرات بجمالها ومستغربات من مجيئها إلى قريتهن، وحين عرفن منها بأنها أتت لتسمع من فازعة حكايتها مع ملاك الموت، قلن لها بأن فازعة ترفض أن تحكيها لهن، لكن المرأة لم تكترث بكلامهن، ويومها لم تكن فازعة في بيتها، فطلبت منها ملاك زوجة العاقل بجاش أن تنزل عندها وكان الوقت ظهرًا، ولم يبقَ سوى ساعة لموعد الغداء.

ومن سقف المسجد وقبل أذان الظهر، راح الفقيه سعيد يحذر أهل القرية من المرأة الموشومة، ويردد حديثًا عن النبي لعن فيه الواشمة والمستوشمة، وعلق بعضهم قائلًا على كلام الفقيه: 

- الكتب خلت الفقيه أعمى بدل ما يبصر الجمال وينبهر مثلنا بجمالها، راح يدور له خبر ماهلوش!

ويومها تغدت المرأة الموشومة في بيت العاقل، وبعد أن تغدت قالت لزوجة العاقل ملاك بأنها مولعية وتريد قاتًا، وأخرجت من جيب صدرها صرة فيها الكثير من العملات الفضية والجنيهات الذهبية، وأعطت زوجة العاقل نقودًا فضية، وقالت لها: 

- خلي ابنك يروح يشتري لي قات من المقوت. 

قالت لها ملاك وهي ترد إليها نقودها:

- المقاوتة قا جزعوا وروحوا لهم. 

وبعد أن عرف العاقل من زوجته بأنها مولعية وترغب في أن تخزّن، أعطاها من قاته وخزَّنت في ديوانه، وجلست أثناء المقيل تكلم العاقل بجاش وزوجته ملاك عن العالم الذي جاءت منه، وقالت لهما بأنها حكّاءة تجوب القرى، تحكي حكايات وتبحث عن حكايات جديدة لم تسمعها من قبل. وحين سألها العاقل عما تستفيده، قالت له بأنها تكسب وتعيش من بيع حكاياتها، وأخبرته بأنها تدفع مالًا مقابل أن تحصل على حكاية جديدة، وأخبرته بأنها سوف تدفع لفازعة الثمن الذي تطلبه مقابل أن تحكي لها حكايتها مع ملاك الموت، وعندما عرف ابن العاقل بأن المرأة التي جاءت من طرف الدنيا تحكي حكايات، فرح فرحًا شديدًا وقال لأمه ملاك:

- قولي لها يمَّا تحازينا. 

قالت له أمه:

  • خليها تخزن، وبعد المغرب شنروح كلنا بيت فازعة. 

وسأل ابن العاقل أمه، وقال لها: 

- شتحازينا ببلاش والا ببياس؟

وكان ابن العاقل قد سمع المرأة تكلم أباه عن بيع وشراء الحكايات، وفهم من كلامها بأن حكاياتها لها ثمن وليست بالمجان مثل حكايات فازعة والنوري، لكن أمه لم تجب على سؤاله ثم إنها أسكتته وطلبت منه أن يجلس ساكتًا، لكن ابن العاقل بدلًا من أن يجلس ساكتًا خرج إلى الساحة يكلم أترابه الأطفال عن المرأة الجميلة ذات الوجه الموشوم التي دخلت بيتهم، وقال لهم بأنها (مُحَزويَة) تحكي حكايات، وأنها بعد المغرب ستنتقل من بيتهم إلى بيت فازعة لتحكي، وطلب منهم أن يأتوا مع أمهاتهم ومعهم ثمن الحكايات التي ستحكيها لهم، لكن أترابه لم يصدقوه وقالوا له:

اللوحة لـ: هاشم علي

- الحزاوي ببلاش! 

لكنه حلف لهم بأن المحزوية الجميلة التي في بيتهم، تحكي حكاياتها بفلوس وتبيعها كما يبيع صاحب الدكان بضاعته.

وعندما عرف الفقيه بأن المرأة ذات الوجه الموشوم والملعون تحكي حكايات وأنها بعد صلاة المغرب سوف تنتقل إلى بيت فازعة لتحكي حكاياتها، راح يصرخ من سقيفة بيته ويقول بأن الحكايات والحزاوي كلها كذب في كذب، والكذب حرام، وإنه من المخجل أن تأتي امرأة مجهولة من طرف الدنيا لتحكي كذبًا، وطلب من العاقل بجاش عدم السماح للمرأة ذات الوجه الموشوم والملعون أن تخرج من بيته، وتذهب إلى بيت فازعة لتحكي كذبًا، لكن العاقل بجاش رد عليه وقال له: 

  • خلي النسوان يفرحين يا فقيه. 

وانزعج الفقيه من رد العاقل بجاش، ومن شدة ما كان متألمًا من العاقل بجاش أراد أن يفتح معركة معه، لكنه قبل أن يفتحها أراد أن يكسب الجبهة الداخلية، ذلك أن الفقيه كان كلما فتح معركة مع العاقل بجاش، أو مع أهل القرية يخسرها، والسبب هو أن هندًا زوجته كانت تخذله وتطعنه من الخلف. 

كانوا كلما طلب منهم أن يصلحوا بيوتهم ويمنعوا نسوانهم من فعل ما يراه منكرًا، يقولون له:

  • أول أصلح بيتك يا فقيه، وامنع مرتك، وبعدين اطلب مننا نصلح بيوتنا. 

وفي مغرب اليوم الذي وصلت فيه المرأة الجميلة ذات الوجه الموشوم، أبصر الفقيه زوجته هند وهي بكامل زينتها، قال لها بأنه في شوق إليها ويحب أن يسمر معها:

- الليلة يا هند ناوي أسمر معك، قد بي شوق للسمرة. 

قالت له بأن نساء القرية جميعهن سوف يتجمعن بعد المغرب في بيت فازعة.

قال لها:

  • ما دخلك بهن يروحين وانتي اسمري معي، قدنا خاور السمرة معك. 

وراح يترجاها أن تسمر معه، ولم يكن ذاك غرضه، وإنما كان غرضه هو أن تبقى في البيت لكيما يصعد بعد المغرب إلى سقيفة بيته ويفتح النار على العاقل بجاش وعلى أهل القرية الذين سمحوا لزوجاتهم وبناتهم بالذهاب إلى بيت فازعة لسماع حكايات كاذبة من المرأة ذات الوجه الموشوم والملعون، وكان يشعر أن موقفه سيكون قويًّا وهجومه سيكون كاسحًا، وسوف يخرج من معركته منتصرًا إن لم تخذله هند زوجته، لذلك راح يحاول معها ويبذل قصارى جهده ليقنعها بعدم الذهاب، وحتى يقنعها بالبقاء قال لها بأنه سوف يحكي لها أشياء تفيدها، فيما المرأة ذات الوجه الموشوم والملعون ستحكي حكايات كلها كذب في كذب، لكنّ هندًا فاجأته وقالت له بأنها لن تذهب لتسمع حكايات المرأة ذات الوجه الموشوم، وإنما ستذهب لتسمع حكاية فازعة، وأخبرته بأن المرأة الجميلة لم تأتِ لتحكي لهن حكايات، وإنما أتت لتسمع من فازعة حكايتها مع ملاك الموت.

 قال الفقيه يسألها وهو مستغرب:

  • فازعة معاها حكاية مع ملاك الموت؟ 

قالت له هند: 

  • فازعة يا فقيه، لما أجا قبَّاض الأرواح شقبض روحها، تحايلت علوه، وهذا هو السبب أن النسوان يموتين وهي عايش.

وعندئذٍ انفجر الفقيه، وقال ساخرًا ومتهكمًا: "فازعة تحايلت على عزرائيل! كيف تحايلت؟! وكيف تصدقين كلامها؟!". وراح يلعن فازعة ويقول عنها بأنها تخرف وتهذرف (تهذي) وتكذب على الله وعلى الأنبياء والملائكة.

قالت له هند بأن مجيء المرأة من طرف الدنيا لتسمع منها حكايتها مع ملاك الموت دليل على أن تحايلها على ملاك الموت حقيقة وليس وهمًا أو كذبًا، وعندها أظهر الفقيه وجهه الحقيقي وقال لها: 

- ممنوع تسرحي بيت فازعة يا هند، والله لو تسرحي أضربك ضرب عمرك ما شفتوه. 

قال لها ذلك وخرج إلى المسجد لصلاة المغرب، وعند عودته لم يجد هندًا، وعندما صعد إلى سقيفة بيته صعق حين أبصر النساء يخرجن بالفوانيس من بيوتهن، ولم يستطع وهو الذي يعشق الظلام أن يحتمل ظهور كل تلك الفوانيس وسطوع كل تلك الأضواء في الدروب، حتى إنه من شدة سطوع الضوء كان يبصر زينتهن وحمرة شفايفهن، وكان أن راح يصرخ ويلعن ويلقي باللوم على العاقل بجاش وعلى رجال القرية، ولشدة ما كان غاضبًا ومنفعلًا أقسم بأنه سوف يضرب هندًا زوجته ضربًا لم تعرفه ولن تنهض من بعده. 

ومن بيت العاقل بجاش، خرجت ثلاثتهن: المرأة الجميلة ذات الوجه الموشوم، وملاك زوجة العاقل، وهند زوجة الفقيه، ومعهن ابن العاقل وبيده الفانوس، وكان ابن العاقل قد صعق وبدا كالمصعوق حين رأى المرأة الجميلة ذات الوجه الموشوم تخرج من بيتهم وهي أكثر جمالًا مما كانت عليه عند دخولها. كانت قد تزينت وخرجت وهي بكامل زينتها، وشفايفها أكثر احمرارًا من الجمر. وعند وصولهم بيت فازعة، وجدوا الديوان يغص بالنساء والأطفال، وكانت كل امرأة قد حضرت مع أطفالها وفانوسها، وحضرت فانوسة ومعها الفانوس الكبير وأكبر فانوس في القرية، وكانت الأضواء في غاية السطوع، والنساء بكامل زينتهن، وليلتها راح ابن العاقل يحملق في وجوه النساء، وحين أبصر الفاتنة نجوم زوجة القاضي شاهر، والمشهورة بجمالها، راح يقارن بينها وبين المرأة الجميلة ذات الوجه الموشوم، وشعر بعد المقارنة بأن المرأة الجميلة التي أتت من طرف الدنيا أجمل من نجوم ومن كل الجميلات اللاتي حضرن ليلتها ليتعرفن عليها، ولكي يسمعن الجدة فازعة وهي تحكي لها حكايتها مع قباض الأرواح. 

وقبل أن تدخل الجدة فازعة، سمع ابن العاقل النساء يتساءلن عما إذا كانت الجدة فازعة سوف تحكي حكايتها مع ملاك الموت أم ستدعو على بقرتها سحابة بالموت!

•••
عبدالكريم الرازحي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English