(حسن باحشوان) المنسيُّ في تريم

فنّان من أسرة صنعت من الخشب تاريخًا!
هشام السقاف
September 13, 2023

(حسن باحشوان) المنسيُّ في تريم

فنّان من أسرة صنعت من الخشب تاريخًا!
هشام السقاف
September 13, 2023

مَن ينطبق عليه القول: "خُلِق فنّانًا"، هو المطرب والملحّن الرقيق حسن باحشوان. فطره الله تعالى بموهبة وبإحساس عالٍ للموسيقى، تلك التي تصدرها الطبيعة بمكوناتها المتنوعة، أو تلك الموسيقى والأنغام التي تتردد على الألسن، وتتماوج عليها الأجساد، في بيئته الريفية النقيّة، وزاد على ذلك منبتُه في مدينة العلم والثقافة: تريم، مضافًا إليها تربيته في عائلة تتعامل مع الفن ومع التناغم والجمال في الأشكال والألوان كحرفة ومهنة النجارة، التي اشتهر بها آل باحشوان، كما تميزت عائلته بأن أنجبت أيضًا شعراء وعازفين بل وصنّاع آلات موسيقية.

تمتد معرفتي بالفنان حسن باحشوان إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما تعرّفتُ عليه -كغيري- من إذاعة عدن التي كانت تذيع مجموعة من أجمل أغنياته: (يا حولاه الليلة)، و(قال المعنى خو حسن)، و(الشعب صمّم)، وغيرها ذوات الألحان الحضرمية (الشرحية) المستقاة من الفنون الشعبية الرائجة من كلمات وألحان أخيه الشاعر والملحّن الكبير: محفوظ باحشوان.

وما زالت في ذاكرتي صورته الأولى التي رأيته بها شخصيًّا، عندما كان (نجم) الحفل الغنائي الكبير الذي أقيم بشارع الجزائر بسيئون عام 1974م، بمناسبة المؤتمر الأول للمرأة اليمنية، أمام قادة الدولة حينذاك، والذي قدّم فيه غنائيته الرائعة (ليالي الريف) لأخيه محفوظ.

ومنذ أكثر من ثلاثين سنة، توثقت علاقتي به امتدادًا لازمًا لصداقتي مع الشاعر الغنائي المعروف عبدالقادر الكاف، الذي يعتبر (حسن) أخاه الذي لم تلده أمّه، فقد كانت علاقة الاثنين الشخصية والفنية أرقى وأمتن كثيرًا من مرتبة الزمالة أو الصداقة، وبينهما رباط روحي عجيب للتفاهم والتكامل والانسجام و(توارد الخواطر) الفنية، ومثّل كلٌّ منهما صنوًا حميمًا للآخر. فهكذا جاءت عشرات الأغاني التي نظمها الشاعر عبدالقادر -وهو الذي يلحّن قصائده بنفسه إلاّ ما ندر- من تلحين حسن باحشوان، بل ومنها ما سبق اللحن الذي ابتدعه (حسن) القصيدةَ، فيطلب من الشاعر الكتابة على ذاك اللحن، مثل أغنية (الأمل) وغيرها، وكذلك معظم الأغاني ذات الألحان (البدوية) التي برع بشكل لافت في أدائها وغنائها حسن باحشوان، وأكاد أجزم أنه أروع وأفضل من غنّى اللون (البدوي) بلهجته المميزة.

تمتاز ألحان حسن باحشوان بطغيان عاطفي جيّاش، وتستطيع أن تتعرّف عليها من بصماته النغمية والموسيقية.

وأذكر بالمناسبة، أنّ الألبوم الناجح لحسن باحشوان الذي أصدره في تسعينيات القرن الماضي، ويحتوي على أكثر من عشر أغنيات من هذا اللون (البدوي)، وزّع منه (استيريو الوادي) وحده، في أقل من شهر واحد، أكثر من 15 ألف كاسيت، كرقم قياسي مهول في سوق الكاسيت في حضرموت وقتها.

ولقد شهدتُ شخصيًّا مع الشاعر عبدالقادر وحسن باحشوان، مخاض ولادة بعض الأغنيات لهما، مثل: (الوسيلة أصبحت غاية) أو (هات لي خبر من سعاد) و(غنِّ يا حسن شعري)، وما زلت مندهشًا ومتعجبًّا من الطريقة السلسة التي يصوغ بها الشاعر فكرته في قصيدة، ثم يُمليها بقليل من الشرح لـ(حسن)، وكيف يأتي (حسن) بعيد قليل من مداعباته لأوتار العود بفكرة اللحن، ثم يتدرّج صعودًا بتهذيب وتعديلٍ من هنا وهناك، لتصير أغنية! طبعًا لا ينطبق هذا على كل الأعمال الغنائية المشتركة بين الاثنين، التي لزم بعضَها وقتٌ طويل، بل وأحيانًا أشهر وأعوام، لإنضاج الأغنية.

ولأن (حسن) لا يشغله شاغل مثلما يفعل به ولعه الشديد بالفن، فيكاد لا تفارق أنامله أوتار العود إلّا لحاجة، وتتصارع في مخيّلته على الدوام أفكار وتلاوين وتصوّرات شتّى، لألحان أو نغمات أو موسيقى، جعله هذا (الهوس) يبتكر ألحانًا جديدة أو إضافات لحنية جميلة لأغانٍ تراثية معروفة، مثل: (طاب الأنس في دار بو علوي) أو (صبا نجد) وغيرها، أو يضع أكثر من لحن لقصيدة واحدة، مثل (الأمل) لعبدالقادر الكاف. 

وتمتاز ألحانه -وهنا أتحدث من زاوية مستمع ومتذوّق، غير ملمٍّ بعلم الموسيقى؛ فهذا له فرسانه الذين يقدرون على التوصيف العلمي والمنطقي لأعمال حسن باحشوان- بطغيان عاطفي جيّاش، وتستطيع أن تتعرّف عليها من بصماته النغمية والموسيقية. 

هذا هو (حسن) الحسن فيما يبدع ويؤلف، وهو (أبو حسين) الحسين عندما يغني ويطرب ويتسلطن ويتفنن، صاحب الصوت الشجي المشحون بكل مثيرات العواطف والشجن، يفرض عليك الإعجابَ به ومحبّته فنّانًا شاملًا، مبدعًا، خلّاقًا... وكذلك إنسانًا رائعًا، رقيقًا، خلوقًا، متواضعًا، خجولًا، قليل الحديث، زاهدًا في الحياة وفي علاقاته العامة بالإعلام والصحافة التي يحتاجها الفنان للانتشار و(الشهرة)، عاشقًا صبًّا للموسيقى والفن الأصيل، منتميًا وفيًّا، صادقًا لتراث ولعراقة فن وحضارة وطنه. وسيشهد له التاريخ أنه أحد دعائم ومجدّدي الأغنية الحضرمية في العصر الحديث.

اليوم، في عقده السابع، اضطره المرض إلى التوحّد في منزله بمدينة تريم -شفاه الله وعافاه، وأطال عمره في صحة وعافية- وبحكم طبعه لا يسأل أحدًا منّة ولا عطاء، وما زال يعيش على ذكريات الماضي البعيد والقريب، عاشقًا صبًّا للفن والطرب الأصيل. 

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English