(أيوب طارش)

الأكثر شبهًا باليمنيّين وتفاصيل أيامهم
جمال حسن
May 24, 2023

(أيوب طارش)

الأكثر شبهًا باليمنيّين وتفاصيل أيامهم
جمال حسن
May 24, 2023
الصورة لـ: عبدالرحمن الغابري

خلال أكثر من خمسة عقود، استطاع الفنّان اليمنيّ الكبير (أيوب طارش)، أن يفرض مكانةً بين اليمنيّين قلَّما حازها غيره من الفنّانين، فخارطة حضوره تمتدّ من صعدة إلى المهرة، وأصبحت أغانيه جزءًا من الممارسات اليومية في الحياة العامة، ليس لأنّه فقط عبَّر عن وجدان الشرائح الأوسع في المجتمع، وإنّما لكونه الأكثر شبهًا بناسها، ومارست أغانيه حضورها بعيدًا عن الصنعة المتحذلقة، فكانت بسيطة ومفهومة. ولا يمكن تناوله بعيدًا عن سياق تكوينه الفنّي، وواقعه ومحيطه الاجتماعي والثقافي والسياسي.

جاء أيوب من جذور ريفية، وليس معيبًا في حقّه تلك الجذور "القروية"، لأنّه مثل معظم أبناء جيله، أحد أولئك الذين انتقلوا من الريف إلى المدن. وبخلاف طغيان لهجته التعزية على غنائه، يمتاز دائمًا بأنّه غنّى لكلّ اليمنيّين؛ فمفرداته اللحنية شكّلت مشتركًا لكثيرٍ من العناصر الموسيقية اليمنية، مضفيًا عليها جزءًا من تأثره بفنّانه المُفضَّل محمد عبدالوهاب. ونجح في جعل هذا التأثّر خفيًّا، لكنّه سيظهر في تكوين أدواته اللحنية، وموهبة صوته.

ولعلّ أيوب استفاد من عناصر متواجدة في منطقة الحجرية، مثل "المهاجل" أو "الملالات"، غير أنّه استطاع أن ينفح فيها مصادر عديدة، أنتجت شخصية غنائية لا تشبه غيره، واستطاعت الوصول إلى كلّ بيت في اليمن. وهكذا أصبح أحد الرموز الكبيرة في الغناء اليمني.

ومن الطبيعيّ أن يثير أيّ نقدٍ موجّه له، هذا الكمَّ الهائل من ردود الفعل، وما تم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعية ليس إلّا تجسيدًا لتلك المكانة التي حازها، وقبل ذلك يُمكننا استشفاف ذلك من خلال حضور صوته ضمن الممارسات اليوميّة لليمنيّين.

لكن معظم الجدل ظلّ بعيدًا عن فنّ أيوب، بَدءًا من تناول اتخذ معيار الأدب في توجيه نقده، وصولًا إلى ردود فعل اتسم كثيرٌ منها بالتشنج، والانفعالات المُغالية، بل إنّها سعت إلى الخلط بين الشخصي والعام، في مشهد يُكرِّس ذهنية ترفض الاختلاف، بما تتبنّاه من محظورات في الفنّ، مثل الدين والسياسة.

وهذا ما يدعونا إلى استعادة صاحب "مهما يلوعني الحنين" إلى سياقه، بما أنتجه من أرشيف فنّي أثرى به الفنّ اليمنيّ بعيدًا عن الحساسية المفرطة، التي تسعى لخلق رموزٍ غير قابلة للمس.

وسأستعيد وجهة نظر الموسيقِيّ الروسي (إيجور سترافينسكي)، حين أبدى امتعاضه من احتكار رجال الأدب للنقد الموسيقي، مطالبًا أولئك بأن يتركوا الموسيقى لأصحاب الشأن، ولا يعني ذلك أنّ تناول الغناء محظورٌ على فئة معينة؛ لأنّ الجميع يتحدّث عنها، إلّا أنّ علينا الفصل بين الذائقة الخاصة والنقد المُتخصص.

ولا يعني أنّي أمارس دور الناقد المُتخصص، لكني سأحاول حتمًا إزالة بعض المآخذ التي لا صلة بينها والفن. ولدى صاحب "مهلنيش" مشوارٌ فني، اتسم بسياق خاص، لا يمكن مقارنته بآخرين، ولعلّ ما يميزه هوية غنائية تفرّدت وأصبحت طابعًا لا يمكن تقليده.

وإذا عدنا، للجذور الريفية، فلا يمكن التعامل معها كنقيصة، كما أسلفت وأشرت إلى ذلك، إذ إنّ كوكب الشرق أم كلثوم، بدأت غناءَها مرتدية عمامة، قادمة من الريف؛ وخلافًا لموهبتها العظيمة وصوتها المتفرد، ذابت في القاهرة في ظروف اجتماعية وثقافية، ساهمت فيما أصبحت عليه حين اتصلت بموسيقيّين وشعراء ومثقفين، وتواجدت ضمن مجتمع فنّ مصري يعيش مرحلة ذهبية، وكل ذلك ساهم في صقل شخصيتها الغنائية. 

على أنّ تلك الجذور، جعلت من أم كلثوم أيضًا أكثر مرونة، فلم يقتصر أسلوبها على إرضاء الذائقة النخبوية، خصوصًا في طابعها الزخرفي، إنما كذلك جعلها قريبة من الحس الشعبي، وهذا ساعدها في مسيرتها، للاقتراب من إرضاء أجيال مختلفة، وطبقات مختلفة، لتصبح صوت المصريين ورمزيّتهم. وهذا لا يعني أنّ فنّها أو شخصها غير قابل للمس.

وبالتأكيد هناك بون شاسع بين تجربتين مختلفتين، فصاحب النشيد الوطني اليمني تواجد ضمن مجتمع فن أكثر فقرًا وفي ظروف أقل تحضُّرًا، إذ كانت اليمن تخرج حثيثًا من عصر ظلامي، أقرب ما يكون للبدائية، كما أنّ الأدوات المتوفرة للموسيقى، سواء كانت أكاديمية أو مهنية، شحيحة للغاية. 

يكاد يكون أيوب مثالًا لمسيرة عصامية، اعتمدت على الذات، وفي هذا الجانب لم تتوفر له الظروف نفسها لمجتمع الفن الذي تواجد في عدن خلال الخمسينيات والستينيات، مع هذا لم يشكّل ذلك عائقًا له ليفرض نفسه كواحد من أكثر الفنانين اليمنيين جماهيريةً، وتأثيرًا على الصعيد المحلي.

على صعيد آخر، لا ينبغي تصنيف جمال أغنية لأنّها أولًا شعر جيد، إنما لكونها لحن جيد، وإذا عُدنا لتاريخ الغناء، سنجد أنّ كثيرًا من الروائع لم تتسم بشعر رفيع، بل على العكس؛ الصنعة الشعرية العالية، تكون أكثر صعوبة في صياغتها لحنًا، مقارنة بتلك السهلة والعادية.

وعلى سبيل الماثل، ففنٌّ شعبي، خلال القرن التاسع عشر وما قبله، مثل الأوبرا، اعتمد على كثير من التعابير الشعرية المُبتذلة؛ لأنّ جوهر موسيقى الأوبرا هو التعبير اللحني الدرامي. نفس الأمر بالنسبة للأشكال الموسيقية الأحدث، مثل الجاز والروك والبوب؛ سنرى استثناءات محدودة امتازت بشعر رفيع، مثل "بوب ديلان" و"توم وايتس".

بينما سنجد كثيرًا ممّا غنّته أم كلثوم أو غنّاه عبدالوهاب، اعتمد على شعر عادي، بخلاف بعض التصاوير الزجلية الجميلة، لكن ما اتسمت به تلك الحقبة الفنية، كرّس اهتمامه لتلحين القصيدة بوصفها أعلى مراتب الغناء، وهو ما أنتج بعض القصائد الغنائية العصماء. 

أي إنّ تناول الفنّان أيوب طارش وفق تصور أنّه لا يمتلك ذائقة أدبية رفيعة، لا يُعدّ نقيصة في حقّه كما سبق وأشرنا إليه. لدى الفنّان أدواته المُمكنة في التعبير عن نفسه، وفنّ الغناء لا يتطلب غالبًا صيغًا شعرية رفيعة؛ وإذا تحدّثنا عن فنّان مثل "سيد درويش"، فهل يمكن الانتقاص منه لكثيرٍ من غنائه الذي نصنفه في خانة المُبتذل أو العادي شعرًا؟ بالتأكيد لا؛ لأنّ أهميته فيما تركه من صيغ لحنية ساهمت في تجديد الغناء المصري والعربي.

ذكاؤه الفنّي لم يكن دهاءً شخصيًّا بقدر ما نمَّ عن موهبة كبيرةٍ تعاملَتْ مع الأدوات الممكنة وطوّعتها بأفضل الصور. وبعيدًا عمّا يصنّفه كُثر ضمن انطباع مناطقي، بما في ذلك بعض المتعصبين له، رفض صاحب "طائر امغرب" أن يتقوقع في حدود جغرافية معينة، ليجمع في غنائه صيغة مُعبرة عن كلّ اليمنيّين.

ولا يعني أنّ الشعر الغنائي يتساوى تعبيرًا وفنًّا، فهناك أيضًا تفاوُتٌ في أساليبه الرفيعة والعادية وحتى المُبتذلة، لكن استثناءات قليلة لما تم غناؤه تتسم بصيغ شعرية رفيعة، يمكن مقاربتها مع ما بلغه فنّ الشعر خارج الغناء.

وعلى صعيد الشعر الغنائي، فهناك كثيرٌ من التعابير الغنائية الرفيعة التي غنّاها أيوب، ولا ينبغي أن يكون ذلك على صلة بذائقته الشعرية فقط، فالظروف تتيح لفنّان أن يتعامل مع شعراء جيّدين، وهو الظرف الذي جمعه بشاعر غنائيّ، مثل عبدالله عبدالوهاب نُعمان "الفضول".

وبصورة مختزلة، يمكن التعامل مع قيمة أيوب الفنية، وَفقَ سياقه؛ فهو ظاهرة فنية حقيقيّة، استطاعت التعبير عن وجدان غالبية اليمنيّين ببساطتها وتلقائيتها، ونبوغه الفني لا يمكن قياسه بتراكيب لحنية مُعقّدة -لأنّه انعكاس لواقع تواجد فيه، واتصل به فنيًّا واجتماعيًّا- إنما بما حقّقته تلك الظاهرة الفنية.

وذكاؤه الفنّي لم يكن دهاءً شخصيًّا، بقدر ما نمَّ عن موهبة كبيرة، تعاملت مع الأدوات الممكنة وطوّعتها بأفضل الصور. وبعيدًا عمّا يصنّفه كُثر ضمن انطباع مناطقي، بما في ذلك بعض المتعصّبين له، رفض صاحب "طائر امغرب" أن يتقوقع في حدود جغرافية معينة، ليجمع في غنائه صيغة مُعبرة عن كلّ اليمنيّين.

فنرى تأثره بالغناء الصنعاني واللحجي، وكذلك العدني والحضرمي، إضافة إلى مؤثرات عربية، ففي أكثر من لقاء كان دائمًا يؤكّد عشقه للفنّان المصري محمد عبدالوهاب. ومزيته أنّ تلك العناصر المُختلفة أفصح عنها بتلقائيته التعبيرية، فتشكّلت تلك المُفردات الغنائية التي دخلت قلوب اليمنيّين وأصبحت جزءًا منهم.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English