أن تشاهد فان جوخ في صنعاء

تجليات الفن أثناء وبعد الربيع العربي (5-8)
د. آمنة النصيري
July 27, 2022

أن تشاهد فان جوخ في صنعاء

تجليات الفن أثناء وبعد الربيع العربي (5-8)
د. آمنة النصيري
July 27, 2022
الصدور العارية، وليد دلة

شهدت ساحات الثورات والأعوام التي تلتها حضورًا لافتًا لفنون تشكيلية، مثل فن الكاريكاتير والجرافيتي (فن الشوارع)، والتصوير الضوئي. يمكن أن نعزو ذلك إلى جاهزية هذه الفنون للتساوق مع حركية الفضاءات المتاحة في الميدان وفي الشارع، ولأنها الأبلغ تأثيرًا في جميع فئات المتلقين على اختلاف ثقافاتهم، وقد نوهنا لبعضٍ من خصائصها سابقًا، وخاصة فيما يتعلق بالتصوير الضوئي.

في ذات السياق، اتسمت لوحة الحامل بحضور خجول، إذ لم تكن كثافة النتاجات بذلك القدر الذي وسم الفنون الأخرى، فالمواكبة البصرية للثورة، أو للأحداث الدامية التي صاحبتها، أو لثيمة الحرب وتراجيدية الحكايات التي تخلفها، لم تفضِ إلى نتاج تشكيلي في مضامينه ينطوي على معانٍ تحيل إلى عنف الخارج وتحولاته، أو اتخاذ موقفٍ ممّا يحدث، ونقصد هنا بموقف فنيّ - جماليّ - رؤيوي، أما الانخراط في ثورية الميادين فذلك شأن آخر، حيث سبق التشكيليون العديدَ من أهل الفكر للالتحاق بالثورات.

ربيع الغضب، آمنة النصيري

إذن، ما الذي يؤجل التعبير عن حراك الشارع العربي؟! 

لا بدّ أنّ للظاهرة مسببات شتى، هذه المسببات تنسحب على أشكال أخرى من الفنون، وهي بلا شك جديرة ببحث منفرد، غير أنّه بالإمكان الإشارة إلى المبررات القريبة، ومنها: أنّ الفنان الذي يقف في لجّة الأحداث لا يزال على صعيد التجربة الإبداعية في حالة من الارتباك وربما البحثِ أو التأمل، فضجيجِ الوضع الراهن، وتوارده المشاهَد والقصص والقراءات.

وفقًا للمعطيات التشكيلية المعاصرة، أنتج المصوِّرون السوريون أعمالهم داخل أنساق بصرية متفردة، لا يحد من فنيتها أو جماليتها المراوحة بين المعنى والمبنى، فالمصور (منيف عجاج) أعماله تحمل إشارات سياسية وموقفًا من النظام.

تعمق حيرة الفنان في بلورة دعوة تغييرية ثورية، شكلًا ومضمونًا، بعيدًا عن المحاكاة الفجّة، أو الشعاراتية، من ناحية ثانية، فإن انخفاض سقف الحريات في أقطار، وقمعية الأنظمة في أقطار أخرى، عمِلَ على الحد من حرية الفنان، الذي قد يتعرض للملاحقة أو الاعتقال والتعذيب، وفي مناطق المواجهات مع النظام يصل الأمر في أحايين كثيرة إلى القتل. والشواهد الدالة كثيرة، فالفنان السوري (علي فرزات)، رسام الكاريكاتير المعروف، قد تعرض لعدة اعتداءات، والفنان (أكرم رسلان) قُتِل تحت التعذيب في سوريا أيضًا، وقطعت حنجرة فنانٍ شاب كان منشد الثورة، وتمت ملاحقة تشكيليين كبار؛ ممّا اضطرهم لمغادرة دولهم وطلب اللجوء في أوروبا، وقد تم اعتقال التشكيلي السوري البارز (يوسف عبدلكي) في العام 2013، بَيْدَ أنّه يصعُب إطلاقُ أحكامٍ تعميمية، إذ إنّ العديد من الرسامين والمصورين آثروا إعلان مواقفهم من الأنظمة ووظّفوا تجاربهم لمواجهة العنف، وتسويق التمرّد في وجه الطغيان، وتكريس مفاهيم تدين القمع والقتل، وتمثل معاناة الشعوب وعمليات التجويع والتشريد، وكل ما له صلة بالاضطهاد وانتهاك الحياة البشرية، والحياة برمتها.

أدان الفنانون دموية الوضع وعنفه برغم التبعات التي تنبني على مواقفهم ومناشطهم، ولعل في معاناة فناني سوريا مثالًا جليًّا للفنّ عندما يحترف المقاومة، ذلك أنهم (ونخص بالأمر فناني المعارضة - الثوريين) لم يعدموا الوسائل لإيصال أعمالهم إلى أنحاء بلادهم والعالم، فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي يقومون بعرض لوحاتهم، ومِن ثَمّ أنشَؤُوا صفحة على الفيسبوك بعنوان (الفن والحرية)، استمروا عبرها بنشر تجاربهم، وفي أحد الحوارات يذكر الفنان (أمجد وردة) كيف أنّ الفنانين المشتركين في الموقع، في البَدء وخشية من ملاحقة أجهزة الأمن، كانوا ينشرون لوحاتهم بدون توقيع، إلى أنّ قام الفنان (يوسف عبدلكي) بتوقيع لوحته (شهيد درعا) فدفع بهذا الفعل بقية المصورين لإعلان أنفسهم، مع علمهم أنهم ليسوا بمنأى عن بطش النظام، وتحت وطأة القمع والملاحقة. خرج تشكيليون -كما ذكرنا- إلى دول العالم، هناك وجدوا متسعًا للإبداع وإنجاز نصوص تنتصر لمعتقداتهم تتسم بقدر أكبر من رحابة الروح الإبداعية، ومنهم من آثر البقاء محتمِلًا كابوسية الوضع.

الفنان السوري يوسف عبدلكي

وفقًا للمعطيات التشكيلية المعاصرة، أنتج المصورون السوريون أعمالهم داخل أنساق بصرية متفردة، لا يحد من فنيتها أو جماليتها المراوحة بين المعنى والمبنى، فالمصور (منيف عجاج) الذي بدا منذ وقت مبكر، انشغالُه بهموم الإنسان العربي، وبقضايا الراهن، كان أقام معرضًا في مرسمه الشخصي في سوريا تحت عنوان (لحظات ما قبل الفاجعة)، واقتصر الحضور على عدد محدود ممن يثق الفنان بهم؛ كون أعماله تحمل إشارات سياسية وموقفًا من النظام، ولظروف كثيرة منها الحرب. غادر الفنان سوريا إلى فرنسا، ومن هناك انتشرت مَعارِضه.

في نصوصه التشكيلية، يصور (عجاج) شخوصًا تحتل كلّ أو معظم مساحة اللوحة، وجوهٌ قاسية وأخرى منكسرة مقموعة، جميعهًا شاخصة في مواجهة المشاهد، وجميعها تغلفها الكآبة، ويميز الجلادين بالزي العسكري، الصباغات القاتمة ولا واقعية التصوير، وسوداوية الحالة المتخلقة في الأعمال تعيد إلى الذاكرة شيئًا من روح التعبيرية الألمانية، ربما المشترك هنا هو الحرب والعنف والانتهاكات، التي خلفت في البلدين _مع الفارق الزمني_ كائنات كسيرة وأخرى مشوهة، يتجاور أبطال لوحاته جنبًا إلى جنب في فضاء المعرض، فتتزاحم في فراغ الصالة شحنات شعورية متباينة، تمامًا كما هو الحال في الوطن، حيث القتلة والقتلى، السفاحون والضحايا. لوحات (منيف عجاج) بمثابة خطاب فني استعاري يخلص إلى عدة فرضيات تأويلية لعلاقة القامع بالمقموع.

الفنان السوري سبهان آدم

زوايا النص

في محترفات التشكيليين السوريين (المنتمين إلى الثورة) تهويم متصل حول مأساوية المصائر الإنسانية، وانسحاق الحياة تحت رحى الحرب، يتجلى ذلك في أعمال (سبهان آدم)؛ ففي أيقوناته الحزينة مسحة حزن وانكسار تطال جميع القاطنين في لوحاته، التي تعتمد إيقاعًا دراماتيكيًّا، لا ضجيج، ولا طقس حياتي، ولا شيء غير الرتابة والكآبة والحزن، يتموضع داخل الأعمال رجال ونساء، موسيقيون، وحرفيون، وعساكر، إلا أنّ الجمود يسود كل زوايا النص. تجربة (سبهان آدم) تتفرد بحلولها الفنية التي أفادت من التراث الشرقي، والفنون الغربية القروسطية، وبوجه خاص الأيقونات، والحروفية العربية، لكنها في مجملها تتسم بالجِدّة والخصوصية.

الفنان سبهان آدم
الفنان سبهان آدم

أما الفنان (يوسف عبدلكي) الذي كشف في المراحل السابقة من تجربته عن منجز بصري أصيل، أعلن من خلاله كفاءة مشهدية الطبيعة الصامتة في تكثيف علائق جمالية والانتقال إلى مستويات تعبيرية وتأملية، وتقديمها لحامل يندمج فيه الوجود الحسي مع الحضور الروحي، فطاقة العالم وحياته الداخلية هي جذوة الموضوع الذي يشتغل عليه، ولقد تبدت الإحالات الفلسفية ذات الأسئلة الوجودية في سابق تجربته غير أنه وعلى نحو ملفت، انتقل هو الآخر إلى لغة تشكيلية أقل إبهامًا وأكثر وسوداوية، أنجز الفنان تكوينات تستدعي الحياة الإنسانية، بَيْد أنّها حياة على مشارف الموت، أو هو انتصار الموت على ما عداه، لوحات الفنان في أعوام الحرب أقرب إلى طقوس جنائزية، أو حضور باهت للإنسان، فالجسد المسجى في غرفة الموت، أو السيدة الثكلى الواقفة إلى جانب شاهد قبر، بالإضافة إلى أعمال أخرى مشابهة، تعلن أنّ الموت سيد المشهد في أزمنة الحرب.

وفي كنف الواقعية والسرد البصري تسرد الفنانة (مريام سلامة) حكايا مواطنيها والأبعاد الدراماتيكية للحرب، وتحول الوقائع الاجتماعية إلى بيانات إدانة تخاطب بها العالم، فنصوص الفنانة تنسحب على منطقة المعيشي – النفسي للأفراد الكائنين في قلب الحرب، معبرة عن تراجيديا الوجع السوري، ففي محترفها تتعمد إصابة الجمهور بتخمة شعورية مردّها تناسل مظاهر الألم، سواء في صورة الرجل المنتحب وسط أنقاض وبقايا حياة، أو السيدة العجوز الثكلى القابعة وسط أحزانها والذكريات، أو الأب الذي يختبِئ وراء تلابيب خيمة سوداء، يحتضن طفلته بفزع من يريد الإفلات من مخالب الموت.

في تصوير تحولات الثورة المصرية تباينت المستويات والأساليب بين واقعية توثيقية عند طه قرني تتوسل الذائقة الشعبية، وبانوراما تعبيرية فيها بعض السخط والسخرية في لوحات (صلاح عناني)، ورؤية حداثية ذات معالجة تطبعها التلقائية كما في أعمال (محمد عبلة).

وعند المصورة السورية (ريم يسوف)، يتواصل تدوين الموقف السياسي-الأخلاقي والإبداعي في آنٍ واحد إلا أنها تنحو إلى نسق فنّي وتعبيري مفارق، فهي تنتصر للحياة من خلال ترسيم حدود عالم أكثر إنسانية، عالم لا تطاله آلات القتل، فتهتم بتكثيف العلاقات الجمالية وموسقة إيقاعات حياة الكائن بثنائية حضوره الحسي والروحي، مع إيقاعات الفضاءات المحيطة، المشفوعة بالنقاوة والوداعة، تتقاطع الخطوط والمساحات اللونية في انسيابية داخل لوحاتها، فتصنع بناءات تثبِّت لبرهة من الزمن الإنسان والكائنات في فضاء جذاب يخلو من الترف والصخب اللوني، متمثلة وجودًا حالمًا للبشر الطيبين، فالأطفال يلهون خارج أفنية المنازل، أو يلاحقون أسراب الطيور، والنساء يحتضن الصغار أو يتجولن في الأحياء، والرجال يلوحون من بعيد قادمين باتجاه بيوتهم، والطبيعة ساكنة في زوايا اللوحات في تشكيلات أليفة لا يحرك ثباتها سوى خطوط الفنانة المتقاطعة التي تكرس جمالية الصور، كلُّ شيء يتسم بالسكينة والطابع التأملي، حتى الحزن في حضوره القاسي يصبح شفيفًا، ومع كل نصٍّ جديد يتنامى الحزن فتشرع الطيور بمغادرة المشهد، وتتكوم المنازل على بعضها تحيط بأفراد يتحلقون حول أجساد محمولة، وأطفال يفرون من قذائف تصبها السماء، هكذا يستدرج الموت الحياة، وتتباعد معارج الفرح، فتبقى الفنانة نصوصها في هذه المساحة المواربة، التي تتمسك بالأمل بعودة الأمان والدعة والسلام إلى سوريا، تفصح بذلك مسميات لوحاتها (نسائم سورية بادرة) (حكاية قبل النوم)... إلخ، من العناوين المشابهة.

لوحة الحامل

إنّ النوستالجيا الكامنة في أعمال (ريم يسوف) تكاد تكون سمة تطبع عددًا أكبر من المحترفات الفنية السورية التي أبعدتها الحرب عن الوطن.

في تصوير تحولات الثورة المصرية تباينت المستويات والأساليب بين واقعية توثيقية عند طه قرني، تتوسل الذائقة الشعبية، وبانوراما تعبيرية فيها بعض السخط والسخرية في لوحات (صلاح عناني)، ورؤية حداثية ذات معالجة تطبعها التلقائية كما في أعمال (محمد عبلة) هذا الفنان الذي شارك الشباب في الرسم على الجدران في أحياء القاهرة أثناء وبعد الثورة.

الفنان وليد دلة
منحوتة صدور عارية، وليد دلة

لوحة الحامل لم تكن حاضرة في اليمن في سنوات ما بعد الثورة، وأقصد الطرح البصري الذي يوظف ثيمة الثورة، وُجدت أعمال قليلة لم تشكّل علامة فارقة بعكس فنون أخرى أنتجها اليمنيون بغزارة. لعلّ أبرز من اشتغل على معانٍ ثورية هو الفنان (وليد دلة) الذي صوّر الشباب الذين تقدموا في مواجهة زخات الرصاص بصدور عارية (حرفيًّا)، بلغة تعبيرية وبألوانٍ إيقاعاتها صاخبة، كما قدّم عملًا نحتيًّا لذات الموضوع.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English