الفن وسطوة التكنولوجيا (1-3)

تقنيات المخيلة الإبداعية
د. آمنة النصيري
February 28, 2023

الفن وسطوة التكنولوجيا (1-3)

تقنيات المخيلة الإبداعية
د. آمنة النصيري
February 28, 2023

تحت هذا العنوان ترد أسئلة عدة ذات صلة، منها: هل الفنّ الناجز بالوسائط والبرامج الرقمية أقل جاذبية، وأقل أصالة؟ وهل يحدّ جهاز الكمبيوتر والتكنولوجيا من كفاءة مخيلة الفنّان؟ وهل تحيل الرقمنة، والوسائط التكنولوجية الفنَّ إلى منتجٍ يتّسم بالآلية والخلو من الحيوية؟ وأخيرًا، أليست هذه الفنون تمثيلًا بصريًّا لحضور ملكات الفنان، بغضّ النظر عن نوعية الأدوات والوسائط؟

إنّ الإصرار على التعاطي مع فنون الوسائط والفنون الرقمية على أنّها ظاهرة طارئة لَهُو خطأٌ كبير، ولقد بدأت العملية مع بروز الحركات الثورية والمتمردّة في الفنّ منذ "الدادائية" والسريالية، ومن ثمّ تبلورت المفاهيمية، والبوب آرت، والمستقبلية، وفنّ الأرض، وغيرها.

جميعها اعتمدت على التجميع والتوليف ومخترعات أنجزها التطور العلمي، فذاتُ الفنان الثائرة بحثَت بفعل تأثير مقولات الحداثة ثم ما بعد الحداثة، عن تقويض مفاهيم الثبات والتنميط، وحاول هؤلاء على مدى أجيال إيجادَ أدوات أكثر تلقائية وديناميكية وتأقلمًا مع تسارع حركة الحياة، وحدثت انتقالات ملحوظة في فنّ التجهيز، وفي النحت التجميعي أو المتحرك، مستفيدين من وسائل الميكانيكا.

ساهمت الرقمنة في إيجاد المتعدّد الحسيّ والجماليّ بطرق سريعة تتماشى مع إيقاع الخارج، وإلى جانب بقية الوسائط مكّنَت الفنّان من خوض مغامرة زحزحة وقلقلة الحدود في الفنّ، عن طريق عقد تبادلات ودمج بين طقوس فنون مختلفة الأنماط البينية.

ووظّف الفنّانون خامات مستحدثة كالسيليكون الذي صنعت منه منحوتات مقارِبةٌ إلى حدٍّ مربك الأشكالَ الآدمية، ومع تطور الكمبيوتر وبرامجه، توسّع الفنّانون في إنتاج فنونٍ تعتمد صورًا رقمية، كما وُظّف الليزر في إنتاج هيئة الشخوص البشرية الثلاثية الأبعاد (الهولوجرام).

ولم يَكُفّ الفنّان قطّ، منذ ظهرت الأجهزة التكنولوجية، عن التلاعب والتكيف والابتكار، لصنع أعمال ذات طابع مركّب ومتحرّك ومتغيّر، للخروج بعلاقةٍ أكثر تفاعلية بين العالَمَين؛ الخارج الواقعي، والآخر الافتراضي.

الفنّ الرقميّ

لقد عبّرت فنون الحداثة وما بعدها، عن التقارب الذي حدث بين العلم والفنّ والاقتصاد ثم جاءت العولمة لتتضمّن هذه المعطيات ومفاهيم أخرى، في محاولة ربط العالم في منظومة كونية واحدة.

واستمرّت الفنون الرقمية وفنون الوسائط كبيان يؤكّد تصالح الفنّ مع الثورة التكنولوجية، وقد حدث تكريسٌ للرؤية الكوزموبوليتانية للفنّ، التي لعبت الدور الأهم فيها المؤسسات الثقافية الكبرى للدول الأقوى بطبيعة الحال، وجرى فيها إحداث كافة التمازجات الممكنة وتعميم بعض الخصوصيات لخلق مجتمع كوني معلوماتي، ينزع للشمولية وتسويق نماذج وأنساق واكتشافات محددة، في مختلف مجالات المنظومة، بما فيها الفنون المعاصرة، وستكون لنا عودة إلى موضوع علاقة العولمة بالفنون التشكيلية وتأثيراتها.

غير أنّه يجدر القول، إنّ العولمة كحركة كلية، قد نجحت في إحداث شكلٍ من التقارب المعلوماتي والثقافي، وأوصلت أجهزتها ووسائلها التواصلية إلى أقصى بقاع الأرض، فربطت كل الأنحاء في شبكة واحدة.

لكنّها ساهمت في المزيد من التدهور لجزءٍ كبير من العالم في اقتصاده وأدوات إنتاجه، ونُظُمه ووسائله التعليمية، وأنظمته السياسية، عبر تكريس سياسة الاحتكار، والسيطرة، والتدخل في شؤون الدول الصغيرة بما يحقّق مصالح لمثيلاتها الأقوى.

بَيدَ أنّه في شأن الفنّ، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عولمة التقنيات الرقمية قد سبقت الحركة في شموليتها، ووجدت لها رواجًا منذ ستينيات القرن الماضي، في كثير من أقطار العالم، وشرع فنّانون، مثل: ديزموند بول هنري، وروزماري، ونيلدا جيليام، وكارين سيشمنك، وليزا جاندرت، وفريدريك نيك، في إنتاج الصور الرقمية، وعرضها للجمهور، وانفتح محترف فور ووكر على الفنّ الرقمي في تسعينيات القرن الماضي، فقدّم التقنية الرقمية إلى جانب أعماله بالتقنيات التقليدية.

ومنذ التسعينيات إلى الوقت الراهن، تنامت الفنون الرقمية وظهرت برامج قدّمت للفنّان خيارات مبتكرة ضمن شروط الحداثة وما بعد الحداثة، هذه التقنيات ألغت ميتافيزيقا المرجعيات الكلاسيكية للرسم والتصوير واستعاضت عنه بنسخة مشتقة من الحالة الفيزيائية.

باختصار؛ ساهمت الرقمنة في إيجاد المتعدد الحسيّ والجماليّ بطرق سريعة تتماشى مع إيقاع الخارج، وإلى جانب بقية الوسائط مكّنت الفنّان من خوض مغامرة زحزحة وقلقلة الحدود في الفن عن طريق عقد تبادلات ودمج بين طقوس فنون مختلفة الأنماط البينية. ولعل أهم هذه البرامج الكمبيوترية الشائعة في الممارسات التشكيلية، هي فنّ البكسل، والفراكتل، والصفري، والفوتوشوب، والثلاثي الأبعاد، والفيكتور.

مثّلت التقنيات المشار إليها عامل جذب لأعداد هائلة من الفنّانين لعدة أسباب، منها: مقدرتها على احتواء ممكنات المخيلة الإبداعية، وربما بجهد وكلفة مادية أقل من لوحة المحمل التقليدية، وقدرة البرامج على التأليف بين تفاصيل لا محدودة وبدقة عالية، واحتواء عدة طبقات على سطح العمل، يصنع في المحصلة شكل شديد الجاذبية والتعقيد. من جهة أخرى، التكنولوجيا الرقمية هي البيئة الفعلية لكلِّ الأجيال الشابة، وتعلمها لا يستدعي الأكاديميات، فالبرامج متاحة التعلم خلال أسابيع لكل شاب.

صنع ذلك تحوّلًا في مفهوم إنتاج الفنّ، من الفردية إلى الإنتاج الجمعي، فمن ينتجون اللوحات الرقمية صاروا كثر، وعملية التطور وتنمية القدرات لم تعد ذات صعوبة، فكلّ شابٍ قادر على أن يشتغل بحرفية وإبداع خلال شهور، وما عليه إلّا أن يهتم بكل الأدوات والبرامج المتاحة (حتى يستطيع أن يطوّر فنّه، فالشكل الفنّي عند والتر بنيامين يتجاوز البنية، المهيمنة السائدة في مرحلة اجتماعية معينة، وهذا يجسد قدرة الفنّ على تحريك الوعي الإنساني لكي يكون مبدعًا، ورغم مرور أكثر من خمسين عامًا على كتاباته، فإنّها لا تزال الأعمال المهمة التي تقدّم صورة الفن المستقبلي).

يعتبر كثيرٌ من الفنّانين أنّ الفنّ الرقمي خرج من لدن الفنون التقليدية، ولذا لا حاجة للإصغاء إلى الانتقادات التي تثير مفهوم الأصالة، فجميع الفنون متضمنة في ملكوت الممارسة الإبداعية، فطقوس إنتاج النصين الفنيّين الرقمي والتقليدي هي ذاتها من حيث التهيئة السيكولوجية للفنّان، والتصور القبلي، وإعمال المخيلة.

وحتى بالنسبة للوحة التقليدية، فقد تغيرت هُويتها الشكلية، ذلك أنّ عملية الاستنساخ على قدر عالٍ من الجودة جعل تلقيها يستحيل من طابع فرديّ إلى آخر جمعيّ، بسبب تطور ودقة آلات الطباعة، ووجود قنوات لتسويق العمل والترويج له خارج سلطة قاعات العرض.

السمة والمتوالية من النصوص

خدمَت خوارزمية البرامج النصوصَ البصرية من عدة جوانب، وبعد أن كانت النصوص مقيدة بزمان ومكان محددين وبقاعات وإدارات بيروقراطية؛ انعتقت عبر القنوات الإشهارية الجديدة، فأصبح بإمكان الفنّان الوصول إلى أوسع النطاقات عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وصار البعض على مدى سنوات يحقّقون الشهرة وأعمالهم تكتسب أثرًا تراكميًّا من خلال الإنترنت وحده متحدين بذلك ديكتاتورية المتاحف وقاعات العرض. وهو منحى يؤكّد تغلغل المبدأ الديمقراطي في هذا المستوى تحديدًا، حيث استطاع الفنّانون في فضاءاتهم الافتراضية التعبير بحرية، والتواصل بحرية أكبر أيضًا مع الجمهور، والانفلات من سلطة النقد وصحافي المقروءات المطبوعة التي باتت تقليدية في زمن الإعلام الإلكتروني.

ولكن ضمن شروط المنظومة التواصلية التي تقتضي من الفنّان التفاعل والتواجد الدائمين على المواقع، فلا مكان في العالم الافتراضي لعزلة الفنّان ولا رواج للانطوائيين، وذلك عبء يثقل كواهل الفنّانين، إلّا أنّه ضرورة لا بدّ منها. واكتسب الفن الرقمي السمة الشعبوية في زمن قياسي، سواء في طبيعته ونماذجه النسقية، أو في انتشاره.

وكما أشرنا إلى أنّ النجاح يرجع إلى الإمكانات التي توفّرت للفنّان لإنجاز متوالية من النصوص في زمن أقل وربما جهد أقل مقارنة باللوحة المسندية، فالعمل الفنّي الرقمي المنفذ ببرنامج أو أكثر توفَّرَ فيه للرسام خلق تعقيدات بصرية عديدة مصدرها توليف الأشكال، ومراكمة الطبقات ودمجها، وتنويع اللون والاستفاضة في الدرجات اللونية غير المألوفة والتفاصيل. إلى جانب استعارة مفردات لوحة المحمل التقليدية، مثل الإيحاء بملمس الألوان الزيتية والأكريلك وخشونتها ونتوءاتها، وشفافية المائيات، واللجوء إلى طباعة التكوينات الرقمية على سطح قماشي (الكانفاس المخصص للرسم والتصوير التقليدي) ليفضي إلى شرعنة النص الرقمي، وإنجاز عمل فني ملتبس لا يقطع الصلة مع بعض تقاليد التصوير الكلاسيكي.

حدود أزمنة الفن

يعتبر كثيرٌ من الفنّانين أنّ الفنّ الرقمي خرج من لدن الفنون التقليدية؛ ولذا لا حاجة للإصغاء إلى الانتقادات التي تثير مفهوم الأصالة، فجميع الفنون متضمنة في ملكوت الممارسة الإبداعية، فطقوس إنتاج النصين الفنيّين الرقمي والتقليدي هي ذاتها من حيث التهيئة السيكولوجية للفنّان، والتصور القبليّ، وإعمال المخيلة.

معظم الطقوس في العمل الرقمي هي ذاتها في إنتاج لوحة المحمل، والذي يختلف هي التقنية فحسب، فماذا تبقى اذن، ولم يجب أن يقف القديم دومًا في صراع مع الأحدث! 

إنّ الفنّان لا يأبه بماهية التقنية مادامت الصورة المرقمنة تتوفر على الدلالات والإشارات والإسقاطات اللازمة، وكذا الجمالية والتعبير، وتلك الهالة من الغموض والإبهام والجاذبية الحرية بإثارة مخيلة المتلقي ومشاعره، وشد انتباهه، ويعتقد ريجيس دوبريه؛ (إن الفكرة المركزية لكل جيل لن تكتب بالطريقة نفسها، ولكل جيل بصري فنه المعياري ذلك الذي تتبعه الفنون الأخرى – واللاحق يقتل السابق، وهي قاعدة ثاوية خلف سيادة التقدم التقني، الذي لا يراكم الفنون بحكمه السابع والثامن والتاسع، تبعًا لنظام ولادتها، وإنما يراكم اللدغات والتدافعات والرجّات والصدمات، واللعبة طبعًا لا تقتصر على الإبادة فاللاحق قد يعيد السابق).

لا يمكن ترسيم الحدود بين أزمنة الفن، أو مدارسه واتجاهاته، فالتطور الفني للإرث السابق قد أفضى إلى الخطاب الراهن مع إضافات العصر، فالاحترازات الفكرية والمعرفية التي يفترضها مؤيدو الفنون الكلاسيكية، تجعلهم لا يرون في الأنساق السابقة امتدادًا للخطاب الفني المعاصر. حتى إنّهم يخلعون عليها ما يشبه القداسة، ويتنكرون لمبدأ التطورية، أو أن تظهر فنون موازية أفرزتها مستجدات الراهن والمعاصر، بينما تتطور أنواع أخرى من الإبداع، ولكنّها تستمر كامتداد لما سبقها، فالأشكال الآدمية من السيليكون التي صممها فنانون بحرفية عالية والتي يطلق عليها الفن السوبريالي، وكذلك تشكيلات الشخوص من الهولوجرام. جميعها تمثل تبصرات لتطوير مفاهيم وقيم فنّ النحت، وعلى غرارها استلهمت فنون الوسائط قيما فنية ماضوية بقيت وستبقى ماثلة في الوعي الفنّي.

إنّ السجالات المحتدمة واعتبار الفنون التي نمت في كنف التكنولوجيا عاملًا في هدم وموت الفنّ؛ هو ذات الموقف الذي أثير قبلًا عند اختراع الكاميرا، وهو موقف شبيه أيضًا بفكرة تراجع مفهوم الأصالة عن الفنون الرقمية والوسائط، وجاهزية هذه التصورات تنبثق من رفض التحديث التقني، لا من الخطاب الفني الناجز.

ومهمّ هنا التأكيد على أنّ الفعل الإبداعيّ مقرون بالإنسان لا بالآلة، فهو خاصية بشرية، والوسائط وكافة الرقميات لا ينجم عنها فنًّا إلّا من فكرة ومخيلة وطاقة إبداعية تتخلق على مراحل وفقَ النظرية الترابطية، بين مختلف العناصر الضرورية مصدرها الفنّان الذي يقوم بعمليات التبديل والتعديل والمعاينة إلى أن يصل إلى النص الأقرب لتصوراته ورؤيته المتخيلة، فالفنّان يقف خلف الجهاز، ويرتهن الجهاز (الأداة) لإرادته وألاعيبه، ومخططاته، وبدون الفعل المبدع يصبح الكمبيوتر بكل منظومته البصرية الإلكترونية وأدواته بلا معنى.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English