إشكالية النشيد الوطني

غناء الاستنهاض يصير سياسيًّا برعاية رسمية
جمال حسن
December 16, 2023

إشكالية النشيد الوطني

غناء الاستنهاض يصير سياسيًّا برعاية رسمية
جمال حسن
December 16, 2023
.

بالرغم من أنّ للغناء السياسي عناصره المستقلة تمامًا عن الغناء الوطني، بمفهومه الحالي، فإن الواقع السياسي في بعض الحالات هو من يحدد رسالته؛ فعندما غنّى الفنان المصري سيد درويش "قوم يا مصري، مصر دايمًا بتناديك" عام 1919، قدّمها بالتزامن مع ثورة سعد زغلول. 

عبّرت الأغنية حينها عن السياق الذي ارتبطت به، وهو ثورة 1919، التي رفعت شعارات سياسية، ذات طابع وطني، عبر سلسلة احتجاجات شعبية ضد السياسات البريطانية في مصر بعد الحرب العالمية الأولى. ولاقت الثورة التفافًا شعبيًّا واسعًا، بسبب تذمر المصريين من الاحتلال الإنجليزي.

ومِن ثَمّ حملت الأغنية دعوة لاستنهاض المصريين، واستنهاض وطنيتهم، ولعل تلك الفترة، كانت لحظة لنهوض الذات الوطنية المصرية بمفهومها الحديث. لكن هذه الأغنية يمكن التعامل معها وفق شروط الظرف السياسي، بحسب استخدامها الوظيفي، ففي الفترات اللاحقة، يسود التعاطي معها، بوصفها جزءًا من الغناء الوطني المصري.

كما أنه يمكن لأيّ طرف سياسي استخدامها كأغنية سياسية، في لحظات احتجاجات معينة ضد الحكومة. على أنّ الغناء الوطني بشكل عام، يصبح له نفس الدلالة السياسية، سواء جرى توظيفها في إطار رسمي أو شعبي - احتجاجي.

وتبعًا لما سبق الإشارة له حول النشيد الوطني، وما يحمله من دلالات سياسية، فإنه يستمد حضوره من تقاطع الوطني بالتاريخي والسياسي، وتحديدًا من محطات، تخلقت منها الروح الوطنية. ولذلك تصر الحكومات على أن تعطي من خلال النشيد الوطني الرسمي شرعية لنهجها العام، لكن في الوقت نفسه تُحدد رسالتها السياسية.

وفي مصر، شكّل السلام الوطني، أو النشيد الرسمي، الخط السياسي العام الذي تنتهجه الحكومات هناك، بشكل أو بآخر. فأول سلام وطني تم عزفه كان في عهد الخديوي إسماعيل، ومن ألحان الإيطالي جوزيبي فيردي. وهذا الأخير لم يقم بتلحين المعزوفة لهذا الغرض، إنما كانت جزءًا من أوبرا فيردي "عايدة"، وتحديدًا "مارش الانتصار". 

وسبق للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، أن تناول أوبرا فيردي، ومارشها البراق، بكونها تأتي ضمن النزعات الإمبريالية لأوروبا فيما وراء البحار. لافتًا إلى أن الأوبرا لا تُعبر عن هوية مصرية، بقدر أنها تُجسد الهوية الأوروبية للقاهرة. وقال إنها تكيفت مع رغبة حكام مصر آنذاك، بجعلها جزءًا من هوية بلدان حوض الأبيض المتوسط.

وبرز هذا التوجه في أقصى درجاته، لدى الخديوي إسماعيل، الذي كان وراء تكليف فيردي في تلحين أوبرا عايدة، وحمل مصر أعباء الديون بسبب هوسه في تشييد القصور على الطراز الأوروبي، ووفقًا للمعمار الإيطالي والفرنسي. كما أنه عمل على تخطيط مدينة القاهرة، منطقة وسط البلد حاليًّا، على غرار الشانزلزيه في باريس.

لكن هذا التوجه لتكريس هوية حوض الأبيض المتوسط، وفقًا لما نظر له سعيد، هو اختيار السلام الوطني من موسيقى فيردي، وهو مارش يتسم بـ"علو النبرة العسكرية" لكن ضمن هوية أوروبية. أثناء افتتاح قناة السويس، عُزف مارش فيردي لأول مرة بوصفه السلام الوطني لمصر.

ويبدو أن ثورة 1919، كان لها أثرٌ في استبدال السلام الوطني المصري، ومن ثمّ اختفاء مارش فيردي، بما يعززه من هوية أوروبية على مصر. فنتيجة لتلك الثورة، وافقت بريطانيا على منح مصر استقلالًا اسميًّا عام 1922، وإبرام معاهدة صداقة وتحالف بينهما. وجرى التمهيد لصياغة دستور جديد، وصدور مرسوم بإعلان الملكية في 1923.

جمال عبدالناصر، كان يريد نشيدًا جديدًا يُعبر عن الخطاب السياسي، والذي اتخذ شكلًا من المواجهة، فجرى الاختيار على نشيد أم كلثوم "والله زمان يا سلاحي"، وكان له بُعدٌ سياسيٌّ خالص باعتباره نشيد تعبئة وجهوزية في حقبة تتسم بالصراع، وكانت تلك التعبئة موجهة في سياق القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل.

مع إعلان الملكية، أُقر نشيد وطني جديد بعنوان "اسلمي يا مصر"، من ألحان صفر علي، وكلماته كتبها مصطفى صادق الرافعي أعقاب ثورة 1919، وما صاحبها من دعوات لنهوض الهوية المصرية، فكانت بمثابة جزء من مصالحة سياسية. وهذا الحضور الرمزي للنشيد الجديد تزامن مع استقلال اسمي، فأصبح بديلًا أقرب للتعبير عن الهُوية المصرية، مقارنة بمعزوفة فيردي التي كانت طافحة بنزوع إمبريالي أوروبي للبلدان العربية، وكان من أبرز سماته الاحتلال الإنجليزي على مصر.

وخلافًا لتصوري، بأنه من الجيد على الملكيات اختيار كلمات لا تتضمن إشارة للملك، أو لتمجيده، بحيث إنه لا يتعرض للمساس، في حال استبدل الحكم الملكي بآخر جمهوري. ففي مصر، تغير شعار السلام الوطني خلال عهد الأسرة الواحدة، ثم خلال الحكم الجمهوري مرتين. لكن هذا النشيد الذي يعود للفترة الملكية في مصر، ما زال حتى اليوم نشيدًا رسميًّا لكلية الشرطة.

مع نجاح ثورة 23 يوليو في إنهاء حكم الملك فاروق، تم اختيار سلام وطني جديد، هو "نشيد الحرية" من كلمات كامل الشناوي، وألحان محمد عبدالوهاب. وكان تعبيرًا لخطاب النظام الجديد، بما جسّده من صورة عن الانعتاق والحرية للشعب، فجاءت مخاطبته مباشرة لفردٍ والدلالة للكل؛ "كنت في صمتك مرغم/ كنت في صبرك مُكره".

لكن النظام في عام 1960، بقيادة جمال عبدالناصر، كان يريد نشيدًا جديدًا يُعبر عن الخطاب السياسي، الذي اتخذ شكلًا من المواجهة، فجرى الاختيار على نشيد أم كلثوم "والله زمان يا سلاحي". وكان له بُعدٌ سياسيٌّ خالص باعتباره نشيد تعبئة وجهوزية في حقبة تتسم بالصراع، وكانت تلك التعبئة موجهة في سياق القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل.

سيستمر هذا النشيد بعد تولي أنور السادات الرئاسة، حتى توقيعه معاهدة سلام مع إسرائيل في كامب ديفيد. وبعد عام، أي في 1979، جرى تغيير النشيد الوطني بقرار من السادات الذي رأى بأنه ينبغي وضع نشيد جديد يُناسب مرحلة أطلق عليها السلام. وخلافًا للعهد الناصري الذي استخدم أناشيد وطنية من مرحلته، عاد السادات إلى الوراء، وتحديدًا إلى سيد درويش، واختار نشيده "بلادي لك عزي وفؤادي"، وهو نشيد أيضًا يعود إلى ثورة 1919.

والواضح أن السادات كان يحاول الإعلان عن تعارض سياسته الجوهرية مع سياسة سلفه جمال عبدالناصر، وكان النشيد الوطني هو العلامة البارزة في كل تلك التحولات. 

وإذا عدنا لدلالة هذا النشيد، فإنها ليست عرضية، إنما تتقاطع مع عناصر سياسية عريضة، بل هي تحدد توجه أو شعار بلد بعينه. وهذا ما يدفع الحكومة الفرنسية إلى أن تُبدي انزعاجها أكثر من مرة بسبب مضمون النشيد الوطني الجزائري الذي يتوعد فرنسا. ومؤخرًا، عبرت وزيرة الخارجية الفرنسية، انزعاجها من مقطع الوعيد ضد فرنسا.

ورأت الوزيرة بأنه، في السياق الذي ظهر فيه النشيد، كان مُبررًا كتابته، بسبب الحرب بين الجزائر وفرنسا، والفترة الاستعمارية، لكنها وجدت بأنه لم يعد كذلك اليوم، أي إنّ نشيد السلام الوطني الجزائري، ما زال يضع رسالة سياسية، فحواها وعيد لفرنسا، وهذا الوعيد، هو شعار قومي أو وطني في الجزائر، لكنه بشكل أكثر دقة، نوع من الذاكرة السياسية. 

وهذا ما يمكن الحديث عنه، بشكل أوضح عن الغناء السياسي، واتصاله بذاكرة الأحداث السياسية والتاريخ. وفي اليمن، تخلقت قصص بين الغناء والسياسة، عديدة. لكن اللافت في نشيد السلام الوطني اليمني لدولة الوحدة، أنه كان نشيد دولة جنوب اليمن، ومصاحبًا لعلَمها الجمهوري بنجمته الحمراء، واليوم يحظر الانفصاليون في عدن، حضورَ أي علامات للوحدة، مثل النشيد، ورغم أنه كان نشيد دولة الجنوب اليمني، فإنه بالتأكيد لم يكن نشيدًا لما كان يُعرف باسم الجنوب العربي، والذي اصطلحه المستعمر البريطاني، لمحو الهوية اليمنية من الجنوب. وهذا ما يحمله شعار المجلس الانتقالي، في محاولة مستميتة لطمس هُوية اليمن من الجنوب، حتى ضدًّا على التاريخ، وإلصاق هوية جنوب اليمن بدول الخليج، وخصوصًا من خلال حرص قادة المجلس في الظهور مرتدين زي الإمارات التقليدي.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English