أحمد بركات الشبامي ونوادره

السخرية التي أطعمت الفقراء "رزًّا" بدلًا عن التمر
د. مسعود عمشوش
May 24, 2024

أحمد بركات الشبامي ونوادره

السخرية التي أطعمت الفقراء "رزًّا" بدلًا عن التمر
د. مسعود عمشوش
May 24, 2024

النادرة في الأدب نصٌّ سرديّ قصير جدًّا، يهدف إلى إثارة الضحك بواسطة عنصرَي المفارَقة والعجيب. وتسعى النادرة كذلك إلى توجيه نقد هادئ لجانب من جوانب الحياة، والتعبير عن آراء يصعب توصيلها عادةً بشكل مكشوف وصريح. وتُصوِّر النادرةُ الوجدانَ الشعبي لعامة الناس، وتركّز على الجانب السلبي في الحياة والمجتمع، وتخفّف بالفكاهة الساخرة من التوتر الاجتماعي، ومخاوف عامة الناس من نتائج الفقر والامتيازات.

ومن أهم سمات النادرة: الظرافة والطرافة، ويُشترط في بطلها أن يكون صاحب ذكاء وسرعة بديهة، وربما قليل من الحيلة ونظرة ثاقبة وموهبة ولباقة تضفي على سلوكه الذي قد يبدو غريبًا أو شاذًّا، شيئًا من القَبول. وعادة تأتي النادرة على شكل قصة موجزة جدًّا تقوم على الخروج عن المألوف، والتميّز اللافت وربما الصادم. وتتميّز النادرة عن الحكاية الشعبية بعناصر الإضحاك والنقد الاجتماعي.

وقد نشأت النادرة استجابةً للظروف التي عانَى منها العرب خلال العصور الإسلامية الأولى، وكانت جزءًا مهمًّا من الفنون النثرية إلى جانب القصيدة والمقامة والسمر. وكان من أشهر أصحاب النوادر: (جُحَا)، الذي اختلفت الروايات في تحديد شخصيته والزمن الذي عاش فيه بدقة، ويرجّح معظم الدارسين أنّ جحا لقب لأبي الغصن دجين بن ثابت، وذلك استنادًا إلى ما ورد في كتابات ابن الجوزي وابن حجر والجاحظ. وتضمّنت كثيرٌ من كتب التراث العربي نوادرَ ألصقت بشخصيات ظريفة أخرى. ويعدّ الجاحظ الأديب الساخر أشهرَ من وضع النوادر والطرائف وجمعها في بعض كتبه، لا سيما كتاب (البخلاء). وفي العقد الفريد ضمّن ابن عبد ربه (328هـ) عددًا من النوادر، ونسبها لأصحابها، مثل أشعب والأعمش، وجمع (نوادر شتى) في أحد الأبواب. ونعثر كذلك على كثيرٍ من النوادر في كتاب النويري (733هـ)، (نهاية الأرب في فنون الأدب)، وكتاب الأبشيهي (852هـ)، (المستطرف في كل فن مستظرف).

كان أحمد عبدالله بركات الشبامي ذكيًّا وسريع البديهة ويحب المرح والنكتة، لهذا فقد كان محبوبًا ومرّحبًا به في كل مكان يحل به، وله نوادر كثيرة يردّدها الناس إلى يومنا هذا.

 "سرجنت" وبعض آثاره 

على الرغم من أهمية مقامات بركات وقصائده، يبدو لنا أنّ السبب الأول لشهرته في حضرموت، يكمن في نوادره التي تناثرت في كثير من كتب الحكايات والمأثورات الحضرمية. ومن المؤكّد أنّ أحمد عبدالله بركات الشبامي كان شخصية اجتماعية متواضعة وتحب الاختلاط بمختلف فئات الناس، وكان ذكيًّا وسريع البديهة ويحب المرح والنكتة، لهذا فقد كان محبوبًا ومرحَّبًا به في كل مكان يحل به، وله نوادر كثيرة يردّدها الناس إلى يومنا هذا.

وإذا كان هو من بادرَ إلى سرد بعض نوادره فمعظمها تم سرده وتوثيقه من الآخرين، وتم تناقلها شفهيًّا قبل أن يتم توثيقها في عددٍ من الكتب. وقد ضمّن عبدالله مصفر (كتاب الحبوب والثمار وما كان بينهم من النظم والأشعار، لأحمد عبدالله بركات) اثنتين وثلاثين منها، ووضعها في الجزء الأخير من كتابه (المجموع) تحت مسمى (نوادر الشيخ أحمد بركات وحِكَمه). واختار محمد بامحيمود اثنتين وعشرين منها، وضّمنها كتابه (قصص وطرائف حضرمية).

ويذكر الباحث المحقق محمد أبوبكر باذيب في أحد هوامشه على كتاب (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت) أن حسن بن سالم السقاف (السوم)، المتوفَّى بجدّة سنة (١٤١٨ه‍)، قام بجمع بعض نكات بركات، وسمّاها (النوادر المضحكات من أخبار أحمد بركات) (ص530)، لكن هذا الكتاب لم يرَ النور.

وينوه عوض عمر حسان في تقديمه لكتاب (مجموع مصفر): "لقد جمع أخونا الأستاذ عبدالله عوض مصفر الذي ينتسب لأحمد بركات بالصلة من أمّه وأبيه، والذي حرص كل الحرص أن يدوّن لجده ما وقع تحت يده من طرائف ولطائف بعد عناء وجهد سنين في البحث والتمحيص، فشخصية مثل أحمد بركات جديرة بأن تحظى بالعناية والدراسة قبل هذا اليوم، فنجد كثيرًا من الكتّاب يشير إليه كما أشار إليه سرجنت وحفظ لنا بعض آثاره، وتناثرت البقية الباقية في شتات مختلف البلدان، وبقي مَن يحفظ بعضًا مِن هذه الحكم والنوادر القليلُ، وشطح بعضهم ونسب إليه ممّا ليس من خلقه أو شيمته، ربما حبًّا ومغالاة منهم لإعجابهم الشديد به، ولكن الأستاذ عبدالله مصفر يعرض لنا في هذه الصفحات بعضَ ما حصل عليه بعد التنقية والتمحيص الذي لم يسبقه أحد في التفكير فيه أو ربما لم يكن بمقدور أيّ شخص آخر أن يجمع ما استطاع أن يجمعه، وله منّا جزيل الشكر على هذا الجهد" (ص١١).

من نوادر أحمد بركات التي تُبيّن حبّ الناس لسماع حديثه ومزاحه، هذه النادرة التي ضمّنها عبدالله مصفر مجموعَه (ص٤٥): "كان كبار أعيان البلاد يُحبّون مجالسة الشيخ أحمد بركات للضحك وتقضية أوقات الفراغ، وكان لهم مجلس في العصرية على شكل دائري يسمى (المحبى) وسط بطحاء شبام ويصلّون المغرب وسط البطحاء، ويجلسون حتى أذان العشاء، ثم يطلعون إلى البلاد [وسط المدينة] للصلاة في المسجد. وفي إحدى الليالي وعند طلوعهم عند المغرب من البطحاء، كان معهم بركات، وفي أثناء طلوعهم وتوسطهم الحدود لسدة شبام، تراجع بركات إلى الخلف وصار يمشي بتباطؤ وخمول شديد، فوقف الجميع، وظنّوا أنّ بركات قد أصيب بدوران أو تعب، فقالوا له: "إيش حصل لك يا بركات، ما بك؟"، فقال لهم: "أنتم سريعين للمضوى إلى بيوتكم فرحانين بعشاكم وحريمكم، أما أنا الحرمة دويلة، والعشاء قضوض"، فضحك الجميع" (ص47).

على الرغم من أهمية مقامات بركات وقصائده، يبدو لنا أنّ السبب الأول لشهرته في حضرموت يكمن في نوادره التي تناثرت في كثير من كتب الحكايات والمأثورات الحضرمية.

حالة المنصب ونخلة السلطان

ومن النوادر التي تُبيّن لنا مدى انتشار سمعة بركات وقدرته على بثّ روح الفكاهة والمرح بين الناس، هذه النادرة التي سردها مصفر، على النحو الآتي: "كان يوجد في سيئون أحد رجال الدين، علّامة ومنصب من مناصبة البلاد، رجل شيخ وقور له هيبته عند الجميع، ويحترمه ويقدّره ويهابه كافة الناس، ولهذا العلّامة حالة نفسية تأتيه بين الحين والآخر، يختلي فيها ويعتزل الناس، حتى أهله، ولا يقربه ولا يخالطه أحد أو يتكلم معه أيامًا بلياليها خلال هذه الحالة. والشيخ أحمد بركات كان صديقًا لهذا المنصب، فجاءت الحالة عند المنصب في وقت احتفال كبير، وعندما كان العلّامة في تلك الحالة أجمع كبار القوم على أنه لا أحد يقدر أن يُخرج الحبيب من حالته إلا الشيخ أحمد بركات، فطلبوا من بركات أن يدخل عليه فدخل عليه وجلس في ركن من أركان الغرفة التي جلس فيها العلامة دون أن يسلّم عليه أو يدلي بأي كلمة، وتغطى بكامله. وسمع المنصب همسًا في غرفته فالتفت عدة مرات، وأراد أن يعرف من هذا الذي تجرّأ بالدخول عليه أثناء حالته، وقال سائلًا: "من هنا؟ من هذا؟"، فرد عليه بركات: "خلِّ لي حالي ولك حالك". فعرف المنصب بركات، فضحك حتى ارتفع صوته من الضحك، وانزاحت حالته، وقام من عزلته، وخرج مع الشيخ للاحتفال" (ص٤٤).

وتُبرز بعضُ نوادر بركات جوانبَ من الوضع الاقتصادي في وادي حضرموت في مطلع القرن الماضي؛ مثلًا، تُبيّن لنا هذه النادرة أثر تقسيم حضرموت إلى سلطنتين، في أحوال الناس، فقد جاء فيها: "حصل أن سلطان سيئون أعطى لبركات نخلة يخترفها من التمر الهجري الذي اشتهرت به سيئون. وفي ذلك الوقت كان سارٍ مرسومٌ بمنع خروج التمر والخريف من سيئون، وكان بركات يريد أن يقطع النخلة لأخذ التمر إلى شبام. وذات يوم بعد أن تأكد أنّ سلطان سيئون جالس تحت القصر، اتفق مع إحدى الأسَر في سيئون للمرور أمام السلطان، وعندما مرّ بركات مع عدد من النساء والأطفال شاهده السلطان، وقال: "بـركات كَنّك أنت والعيال اليوم؟"، فردّ بركات عليه: "احترامًا لمرسومكم بمنع خروج التمر من سيئون، جبت عيالي يتخرفون تحت النخلة"، فضحك السلطان وسمح له بأخذ التمر إلى شبام" (ص٤٨).

وفي نادرة أخرى، يتجاهل بركات الفرق بين ولده وولد السلطان، ولا يرى ضيرًا من أن يأخذ السلطان ابنه السليم ويعطيه ابنه الجريح. وقد وثقها عبدالله مصفر على النحو الآتي: "حصل أن أحد أولاد بركات ضرب ابنَ الحاكم في البلاد حتى سال الدم من جرح في ابن الحاكم، فأرسل الحاكم الجنود يبحثون عن بركات، وارتبشت الناس وضجّ الشارع في البلاد، وشاع الخبر وانتشر، والجميع في خوف مذعور، وكان بركات في محله الصغير يعمل وجاءه بعض الناس؛ أن يختفي ويبتعد لكون الحاكم في غضب شديد عليه، لكن بركات كان قوي الإرادة وتلقَّى الخبر بكل هدوء، ولم يهتم به ولم يشعر بأي خوف، حتى جاءه الجنود وطلبوا منه أن يقابل الحاكم فورًا، فذهب معهم وقابل الحاكم وهو في حالة من الغضب والتوتر، وقال الحاكم لبركات: "إنّ ابنك قد جرح ابني والدم يسيل، والحجة ثابتة". وكان بركات ساكتًا حتى انتهى الحاكم من حججه ووعيده، وكان الحاكم يعرف ما لبركات من حسن البديهة. وقال بركات للحاكم: "أتحكم أنت أم تريدني أن أحكم على نفسي"، فانبهر الحاكم من بركات، وقال بكل سخرية: "أَمَا تستحي أن تقول هذا؟! وبماذا ستحكم؟"، فقال بركات: "إنّ رضاك أهم شيء عندنا، وسعادتنا راحة بالك، ولا نريد شيئًا يشق عليك، وصحتك تهمنا، فخُذ الولد السليم الصاحي، وأعطِني الولد المصاب"، فضحك الحاكم وتغيّرت ملامحه، وسامح بركات وعفا عنه" (ص٤٢).

النادرة نصٌّ سرديّ قصير جدًّا، يهدف إلى إثارة الضحك بواسطة عنصرَي المفارقة والعجيب. وتسعى النادرة كذلك إلى توجيه نقد هادئ لجانب من جوانب الحياة، والتعبير عن آراء يصعب توصيلها عادةً بشكل مكشوف وصريح.

أرز السادة وتمر الفقراء

وتُبيّن لنا كثيرٌ من نوادر بركات عفويته وتلقائيته وعدم رغبته في المجاملة؛ ففي إحدى النوادر التي أوردها عبدالله مصفر، يعبّر بركات عن مطالبته (الهادئة) بمنح جميع الناس أرزًا في الوليمة التي أقامها أحد المناصبة بعد خروج الناس من أحد مساجد سيئون. وقد صاغ مصفر النادرة على النحو الآتي: "في إحدى المرات دخل بركات سيئون، وكان يُقام في أحد المساجد مولد ووليمة غداء، فقصد أحمد بركات إلى المسجد لأجل أن يلحق الوليمة، ودخل المسجد فوجد السادة قد خرجوا لتناول الغداء في أحد البيوت المجاورة للمسجد، وبقية العامة وجدهم يتغدون تمرًا، وعندما فرغوا من غدائهم أخذوا الصحون، وأنشد لهم بركات هذا البيت:

يا ربّ صلِّ على المختار من مُضَرِ    الرزّ للسادة والتمر للفقري

وخرجوا ينشدون به من المسجد، فسمعهم السيّد وعرف أنه من بركات، فدعاهم السيد وغدّاهم رُزًّا" (ص٥٠).

ونلاحظ أن بعض نوادر بركات تورَد في عدد من الكتب بصياغات مختلفة؛ فالنادرة الأولى التي ضمّنها مصفر مجموعَه، تتناول حادثةً اتُّهِم فيها بركات بالسرقة، واضطر أن يتقبل التهمة الكاذبة حفاظًا على سمعته، وجاءت على النحو الآتي: "في إحدى تنقلات أحمد بركات كان يذهب إلى (الغرفة)، ويعمل هناك صائغًا ومصفّي حلل، وكان جلوسه في أحد بيوت الأهالي، وكانت لهم بنت مزوّجة خارج الغرفة، وفي ذات يوم جاءت لزيارة أهلها، وعند رحيلها أخذت بدلة من الفضة كانت تابعة لإحدى أخواتها، ولكون لم يوجد في البيت أحد من أهلها لم تخبر أحدًا بذلك. وفي اليوم الثاني، افتقد الأهل البدلة، ووقع الاتهام على بركات لكونه الغريب في بيتهم، وواجهوه بذلك الاتهام، فقال بركات لهم: "كم ثمنها؟"، فأخبروه بثمنها ودفع لهم المبلغ. وبعد فترة أرسلت البنت البدلة، وأخبرتهم أنّها أخذتها ولم تُشعِر أحدًا لكون لا يوجد أحد في البيت، فتأسفوا كثيرًا واعتذروا لبركات، وسأله صاحب البيت: "لماذا أعطيتنا الثمن كاعتراف من قبلك؟"، فقال له بركات: "أنا أحافظ على سمعتي في البلاد؛ لأن انا أطلب الله، وكل يوم في بيوت الناس، فإذا تشوّهت سمعتي خسرت لقمة السمعة رأس مال عيشي؛ لهذا أعطيتكم الثمن قبل أن يشيع أيّ خبر يشوه سمعتي" (ص٤٠).

وقد لاقت هذه النادرة شهرةً واسعة، ووردت في عدة كتب وبصياغات مختلفة؛ فالمؤرخ عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف، الذي أورد عددًا من نوادر بركات في كتابه الشهير (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت)، صاغها على النحو الآتي: "كان الشيخ أحمد بركات سنة (١٣١٨ه‍) بدوعن في منزل استأجره، فاتّفق أنّ بنتًا لأهل المنزل استعارت ثوبًا من أمها لتلبسه في وليمة زواج، ففُقِد لهم عقدٌ من الفضّة يسمّونه (مريّة)، فاتّهموا بها الشّيخ أحمد، فقال لهم: "كم ثمنها؟"، فقالوا: "ستّة ريال". فدفعها لهم، ولمّا عادت البنت بالثّوب ألفوا المريّة معها؛ لأنها كانت بين طيّات الثّوب، فردّوا ريالات الشّيخ أحمد واعتذروا له، ولمّا انتهى الخبر إلى باصرّة، عاتب الشّيخ أحمد، وقال: "لو رضيت برفعهم أمرك إليّ لَمَا ألزمتك بشيء"، فقال: "من يدفع التّهمة بعد الرّفع؛ إذ لا بدّ من علوقها على أيّ حال، فاخترت السّتر احتفاظًا بالمروءة، لا سيّما والمبلغ زهيد" (ص٥٣٠).

•••
د. مسعود عمشوش

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English