الجابري؛ طائر الوجدان العامر بالأنغام

رحل عن دنيا الناس الجافة، بكثير من الألم
د. عبده بن بدر
February 28, 2024

الجابري؛ طائر الوجدان العامر بالأنغام

رحل عن دنيا الناس الجافة، بكثير من الألم
د. عبده بن بدر
February 28, 2024
.

اطمأنّ هذا المقال إلى توصيف (أحمد غالب محمد الجابري) بطائر الوجدان العامر بالألوان النغميّة، وهو الشاعر الغنائي الذي رحل عن دنيا الناس الجافة والذابلة، لكنّه لم يرحل ولن يرحل عن دنيا الغِناء الخضراء المزينة والمطرزة بأجمل القصائد الشجية والبهيّة، القارّة في قاع ذاكرة مُحبّيه وعشّاقه. وقناة بلقيس الفضائية جسّدتْ هذه المحبة من أهل الثقافة والبسطاء حينما أفردت حلقة خاصة في برنامجها الموسوم بـ(المساء اليمني) عن الجابري الشاعر والإنسان، غطت فيها أبعادًا ثرية من حياته. وهي حلقة ماتعة وجَادّة وحميمِية. ومن تولى إعداد الحلقة راق له أنْ يعنون حلقته بـ(طائر الأشجان)، وهو لقب مستمد من عالم الجابري الشعري، إذ تم استعارته من قصيدته الغنائية الزاخرة بالشجن (أيش معك)، وهي الأغنية التي صدح بها عندليب تعز البهيّة التي غنّى لصباياها الفاتنات، وصباحاتها الباكرة المدثرة بالنَّدى والضباب (أيوب طارش عبسي). أمَّا اللقب المستعار فموجود في الشطر التاسع، الذي يقول: (طائرَ الأشجان ما يشقيك في تلك الرُّبى؟ من لوّعك؟)، والشاعر هنا يتعاطف وجدانيًّا مع الطائر، ويسأله عن الذي فتك بقلبه ودفنه برمال الولع، وحالة الشاعر لا تختلف عن حالة الطائر، إنْ لم تكنْ أشدّ شقاءً وولعًا.

وبالمناسبة، فإنَّ العنوان الرئيس للمقال لا يبتعد كثيرًا عن عنوان الحلقة؛ إذ ينتمي إلى عائلة العنوان نفسها في الجوهر والمظهر، ويشترك معه في الإحالة إلى عالم الطير. ولكن يظل نص الجابري هو المرجعيَّة الأصليَّة في اختيار مثل هذه العُنوانات. وحضور الطائر في شعر الجابري الغِنائي مُتفشٍّ مثل غيره من شعراء الأغنية، إذ يراه القارئ في قصائد أخرى؛ منها (ألا يا طير) التي يشدو بها الفنان والملحن محمد مرشد ناجي الملتحم بالتراث الغنائي الشعبي، ومن المجيدين في اختياراتهم للنصوص الغنائية، وهو حينما يغني الأغنية التقليدية يزيدها جمالية بصوته المعبر الذي يمتاز بنكهة خاصة في التموجات باللحن والنَّغم، وفي أغنية (ألا يا طير) يطلب الشاعر من الطير أنْ يسعفه ويمنحه جناحيه ليطير بهما حتى يلاقي محبوبه في صنعاء، والقارئ يجدُ هذا الطلب من الطير، في البيت الأول من القصيدة:

ألا يا طير لو تندي لي جناح                      باشله يوم وبحمل به الجراح

أمَّا في قصيدة (قسمة ونصيب) التي شدَا بها وغنّاها الفنان والملحن الجميل، الذي كان مفتونًا بالفنان المصري محمد عبدالوهاب، ولم يسلم من تأثيره في تقنية الأداء الصوتي، لكنَّه احتفظ باستقلالية في ألحانه، ولم يقع تحت التأثير الموسيقي المصري، وفي هذه الأغنية يذكر الطيرَ في الشطر الأول:

طير أيش بك تشتكي قل لي أنا مثلك غريب         كلنا ذقنا هوانا واكتوينا باللهيب

الشاعر هنا منفتح على الطبيعة، ويستعير منها ما يراه مناسبًا لتصوير تجربته العاطفية التي اكتوى بنارها، فلم يجد وسيلة فنية يعبر بها غير الطير. فالطير أُضرمت نارُ الحب بداخله واحترق بها، والطير هنا مثّل صورة تناظر حالة الشاعر في الإحساس بالغربة بعد أن تلظى داخله بنار الحب الملتهبة.

أمّا قصيدة (عدن عدن، يا ريت عدن مسير يوم)، فالشاعر لا يخرج عن عالم الطير، حيث يحيل إلى الحَمَام بوصفه رمز الأمان والسلام والحنان، فيقول:

نوح الحَمَام، تبكي بنار عذابه              فوق الجبال تسأل على غيابه 

إنَّ الحمام هنا يبكي لبكاءِ الشاعر، ويَرثي لحاله بعد أن فارقه محبوبه. وهذه الأغنية غنَّاها الفنان والملحن المحترف أحمد قاسم، الذي أمدّه الجابري بالكثير من قصائده، ومَثّلَ مع لطفي جعفر أمان الجناح الثاني، فرفرف بهما أحمد قاسم إلى سماء الأغنية، وفي هذه الأغنية الشعبيّة تخفف أحمد قاسم من ثقل المدرسة المِصرية في اللحن الموسيقي. ويبدو أنَّ طبيعة النَّص الشعري فرضت على الملحن أنْ يخرج عن ثقل التأثير المصري في الموسيقى واللحن. فالأغنيَّة تنحو منحنى بدويًّا في الإيقاع، والتأثير المِصريّ لا يقلل من مكانة أي فنان، فقد كان المناخ في عدن في الثقافة والفن والطرب حينذاك، مصريًّا حتى العظم. ومسيرة الجابري مع الفنان المحترف أحمد قاسم مسيرة طيِّبة ومثمرة بالأغاني، ظلت عامرة بالتعاون حتى بعد ممات لطفي جعفر أمان، وعلى ما يبدو أنَّ الجابري غطّى الفراغ الذي تركه أمان مع أحمد قاسم.

وعودةً إلى رمز الطير، يجد القارئ إحالة أخرى تمثّلت في العنوان، وفي البيت الأول من القصيدة: (يا زائري يا طائري، أيقظت كل مشاعري)، وفي قصيدة أخرى يتخفى المحبوب تحت مظلة (القمري) في قصيدة (يا قمري بَنَا)، إذ يقول في البيت الأول:

يا قمري بَنَا      أيش سوَّيت بنا

والقمري طائرٌ جميل المنظر، ذو صوت موسيقيّ عذب، وجسم رشيق، حينما يغرِّد يضرب برجليه الأرضية التي يقف عليها، فشدو صوته يترافق مع ضربات رجليه، وهذه الأغنية لحّنها وترنّم بها الفنان الأنيق أحمد قاسم، الذي حاول بقدر الإمكان، أنْ يظهر بفرقته التي كوّنها بمظهر حضاري وجمالي، إذ كان يلزم فرقته بزي موحد، بينما كانت الكثير من الفرق الفنية في عصره بعيدة عن المظهر الحضاري الجميل في عدن التي كانت تتفاعل مع المدنية، والمنفتحة على العالم في ذلك الزمان.

ولأنَّ الشاعر عاش ذلك الزمان وتذوق طعم التمدن والتحضر في عدن، واختلط بأقوام وعِرقيات وإثنيات متنوعة في الثقافة، والملبس، والمأكل، والدِّين، فقد تمكّنَ في هذه الأجواء، من أنْ ينفتح على نفسه وعلى الآخرين، وعمقت الثقافة والفن في صوره التعبيرية الشعرية، هذا الانفتاح بعد أن امتلأ بالشعر، ولوّن به وجدانه بشقيه؛ الوطني الزاخر بعزّته وجِدّيته وحماسته، والغنائي برقته وحلاوته وعذوبته، فالشعر أعظم وأدقّ وسيلة للتعبير عن العالم الداخلي للإنسان، والجابري أدركَ قيمة هذه الوسيلة التعبيريَّة التي تلطف أوحش المصائر وأعنفها، فنمت وزهت بداخله سنديانة حب الوطن والإنسان، فتحرر من خشونة الكراهية، وتطلع إلى النعومة الإنسانية التي لا ترضى إلّا بأنْ تحيا في "بلاد لا تعرف إلّا الحُبّ"، ولا ترقص وتمرح وتسرح إلّا على أنغامه التي لا تُمَلّ.

إنَّ الجابري روح غنائيّة تمشي على الأرض، لا تُرى بالعيون، بل بالقلوب العاشقة والنفوس العامرة بالحُب، ورحيله بالمعنى الجسدي لا يمثّل حقيقته العميقة الدائمة التي ترسخت في وديان الوجدان اليمني، فالناس تفاعلت مع أشعاره المغناة، وردّدت أغنية (عدن عدن، يا ريت عدن مسير يوم)، وأغنية (على مسيري)، و(أخضر جهيش)، وغيرها من الأغاني التي أطربت وأبهجت مسامع محبّيه في كل مكان، وبدّدت بداخلهم ظلمات الأحزان.

إذ كان الجابري مصباحًا عامرًا بتعدّد الألوان في سماء الأغنية اليمنية، التي تلأْلأت أكثر من ربع قرن، فأشعاره الغنائيّة لم تكن باردة فاترة، بل ساخنة بالوجد والعشق، والرغبة الجامحة بالفداء للمحبوب، فتسابق عليها أكثر من فنان ومطرب وملحن ليسوا من الوزن الخفيف، بل من العيار الثقيل، مثل: أحمد قاسم، محمد مرشد ناجي، أيوب طارش عبسي، ومحمد سعد عبدالله، الذي انماز بأنه يلحن أشعاره التي تنبت بداخله فقط، لكنَّه لم يسيطر على مشاعره عندما هزته قصيدة (حساس) من عمق أعماقه، وهي أغنية مصممة تمامًا لمزاجه الوجداني وفصيلته اللحنية التي ينتمي إليها، وهي هدية مطرزة بالعتاب الجميل المستوعب للحساسية المفرطة للحبيب (الحَبّوب) 

لكن مهما حصل                باقول عليك حبوب

وأمير المحبّة والحُبّ، والمبدع لقصيدة (حساس)، كان محبوبًا وحبّوبًا في تعامله مع الناس، يشهد بذلك كلُّ من عرفه وتعامل معه، ولم يكن شبحًا من أشباح السلطة المرعبة التي لا تترك أيَّ معنى في الذاكرة ويبتلعها وحش النسيان. بل كان وما زال روحًا -ثقافيًّا وفنيًّا- حلقت بعيدًا عن المؤسسات الرسمية التي لا يُرضيها إلّا التطبيل والتزمير لرموزها، بمناسبة أو من دون مناسبة.

والمتأمل لاسم الجابري العائلي يلفته تناغمه، وأصالته المعززة لنبله وصفاته الجميلة، وليس لنسبه والتفاخر به بوصفه الأفضل والأشرف والأول. إنّ اسمَي أحمد ومحمد (جدّه)، يحيلان إلى الصفات الحميدة والرائعة، وهذه الأسماء تشع بالنّور في الذاكرة العربية والإسلامية؛ لأنها تحمل معنى الصبر والتفاؤل. أما الجابري فهو من جَبر القلوب المنكسرة، والشاعر الجابري طالما جبر كثيرًا من هذه القلوب. وهذا التأويل للاسم ثقافيٌّ، وليس بالضرورة أنْ ينسجم مع ذهنية الحسب والنسب التي ترفع من هذا الإنسان وتحط من ذاك. فإنَّ اسم غالب من الأسماء العربية الأصيلة، وبحسب فكرة الجاحظ، وقبلَه ابن دُريد، فإنَّ العرب تسمي أسماء مثل غالب؛ من أجل أن تُرهب عدوها، ولذلك تبلور ذلك القول المأثور: "اسم على مسمى".

الجابري تغلّب بشعره على الكراهية، ولم يخُض معارك مع قبيلة آل الجابري من أي نوع، بل خاض معارك عاطفية مطرزة بالودّ والمحبة والإخلاص والوفاء.

لكن الجابري ليس له أعداء وخصوم، والغلبة لا تكون بالضرورة في ميادين المعارك الحربية بالسيوف أو البنادق، بل يمكن أن تتحقّق في ميدان الثقافة والمعرفة، وما تنماز به الغلبة في هذه الميادين، أنّها تولّد بهجة تدوم ولا تترك شرخًا في الضمير، بينما الغلبة في الحرب تولّد نشوة وبهجة مشروخة لا تدوم بل تزول. والجابري تغلب بشعره على الكراهية، ولم يخُض معارك مع قبيلة آل الجابري من أي نوع، بل خاض معارك عاطفية مطرزة بالودّ والمحبّة والإخلاص والوفاء، ويحذّر الحبيب من الخيانة، ولا تروق له الغيرة لكنَّه يتحملها ولا يقرف منها، ويطلق على محبوبه المختطف من الغيرة "حبّوب"، مهما بدر منه من تصرفات حمقاء. كانت معاركه مع حاملات الجرار في الصباحات الباكرة في ريف تعز الجميل، حيث الجبال المكللة بالنَّدى والضباب. كان صريع العيون السود والساجيات الطرف والعيون الساحرة وبتعبيره: "السحارة".

لم يخُض الجابري معارك أدبية على طريقة طه حسين والعقاد والمازني، بل كانت كل معاركه في ساحات الحب ودهاليزه، ودكت مدافع الحب حصون قلبه دكًّا، فتصدّع وتشقّق وأصبح رهين الحب وأسيره، وتقرحت عيناه من السهر، فأصبح عاشق الليل يعدُّ نجومه التي لا تحصى، وعصرته علل العشق، وتيتم إلى أنْ رثى له الطير وتضامن معه في البكاء والحزن. ومعارك الحب لا تعرف الربح والخسارة، ولا الفوز بالنصر والاستسلام للهزيمة؛ فالأولى قياسات التجارة، والثانية قياسات من بقايا الغرائز الحيوانية، لكن مقاييس الحب مطلقة، تتخطى هذه النمطيَّة. إنّ العاشق يعطي بلا حدود، ولا يريد مقابل حبّه إلّا الحب، وليس بغريب أنْ يردّدَ الجابري تلك العبارة المحبّبة إلى نفسه (أريدُ أنْ أحيا في بلادٍ لا تعرف إلّا الحب).

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English