الدَّرْدَحَة بين الدِّين والتديّن

تعزير حاد بحافزات سياسية واجتماعية
أحمد صالح الجبلي
September 2, 2022

الدَّرْدَحَة بين الدِّين والتديّن

تعزير حاد بحافزات سياسية واجتماعية
أحمد صالح الجبلي
September 2, 2022

العنوان أعلاه يطرح التساؤل: عقوبة الدردحة أو الدرداح؛ من الدِّين هي أم من التديّن؟ لن أنخرط في جدلٍ نظري في هذا الصدد، لا لشيء إلا لأنه ليس هو الموضوع الرئيسي في هذه المقالة. ومع ذلك، وللضرورة حتى لا يساء الفهم، لا أستطيع أن أمنع نفسي من تقديم مقترح بعقدِ اتفاق مع القارئ الكريم لكي نتواضع، في هذه المقالة، على أنّ اصطلاح "التديُّن" ليس هو الدِّين، أيّ دينٍ كان، وإنما هو الكيفية التي بها يفهم هذا أو ذاك من الناس الدِّين المعني، وبالتالي طريقة التعامل مع الدين، وعلى ضوء ذلك طريقة التعامل "الديني" مع الآخرين؛ أي التعامل المذهبي.   

بالطبع، كان الجهل المستشري السائد أحد العوامل الرئيسية لنشأة المذاهب والفرق الدينية؛ وعلى هذا الأساس، وبدون غض البصر عن عامل المصالح الاجتماعية، نشأت المذاهب والفِرَق في الأديان، ومنها ديننا الإسلامي. ومن هنا ظهر ما يسمى، خطأً، بـ"رجال الدين"، والذين هم في الحقيقة "رجال تديُّن"، رجال مذاهب دينية، وليسوا رجال الدين حسب نصوصه. وعليه، فرؤيةُ وفَهْمُ كلٍّ من هؤلاء -رجال التدين الإسلامي على وجه التحديد- ليس ملزمًا لكل مسلم، بل وليس ملزمًا لمن ورث المذهب من عائلته ومحيطه المذهبي، وأصبح بإمكانه التمييز بين الإسلام ومذهبه وكذا بقية المذاهب الموروثة.  

يطول الحديث في هذا الشأن كثيرًا؛ ولذا أكتفي بهذا القدر من التنويه الذي أجده ضروريًّا حتى وإن كان، على الأغلب، من قبيل التكرار على مسامع القارئ، فالمعذرة! وأنتقل إلى الموضوع الرئيسي للمقالة التي أثارت هذه المقدمة البسيطة: الدردحة، والتعامل معها من قبل الحكام وكأنها من التعاليم الإسلامية.   

الدردحة (أو الدرداح: دَرْدَح به، يُدَرْدِح به) ضربٌ من التعزير لمرتكبي بعض الفواحش، وخاصة الزنى أو شرب الخمر أو السرقة. ويُقصد بالدردحة التشهير، وهي ليست من صميم الحدود الإسلامية؛ ولم تكن -حسب علمي- سارية لا في عهد الرسول (ص) ولا في عهد "الخلفاء الراشدين" من بعده. والمعروف أنّ الدردحة كانت كثيرة الحدوث في عهد الحكم الإمامي، وكانت العادة أن يخرجوا بالمذنب إلى الشوارع، وقد وضعوا على ظهره طبلًا يقرعون عليه، ويلتف الناس حوله وهم يصرخون سابّين شاتمين له ومشنّعين عليه. كما يعرف استعراض السارق والزاني وشارب الخمر على الملأ أيضًا باسم "حُوْمار".

والدِرْدَاح من العادات الشهيرة التي كانت تُشاهَد في المدن اليمنية. وحسب ما وصفه الإيطالي روسّي أنه عندما يرتكب أحدهم جريمة الزنَى، يعتقلونه ثم يُحضرونه إلى "العامل" (الذي يكتب للإمام) والذي، بدوره، يأمر مدير السجن بتقييده في رجليه، ثم يأخذ معه جنديًّا "مزيِّنًا" يضع عليه طبلًا يقرعونه، وينادي الأولاد ببعض العبارات، مثل "هذه السنة سنتك يا كذا وكذا، جرّوه (اسحبوه)، عَقّ والديه، يهودي (مِحْرام)، لص سارق. ويدورون به في جميع الشوارع، ثم إلى السجن. وفي اليوم التالي، يربطونه عند باب "المقام" (بوابة مقرّ إقامة الإمام) ثم يدورون به على نحو ما فعلوه في اليوم السابق، وعلى مدى ثلاثة أيام متتالية. وعند بعضهم، تعدّ هذه العقوبة أدنى من عقوبة إقامة الحدّ التي ينص عليها الشرع الإسلامي، ولو أنّ الأب أنستاس الكرملي يذهب إلى أنّ المذنب يكون عادة من شاربي الخمر وأن الاستعراض يقع بعد جلده. 

كان هذا لمحة سريعة عن علاقة الدردحة بالتديُّن، والذي يفهم منه أنّ الدردحة عقوبة تخالف العقوبة الإسلامية حسب نص القرآن الكريم، أي إنها تخالف الدين الإسلامي.

إلى جانب الدردحة، كما أسلفنا، ثَمّة دردحة سياسية؛ ولا أعرف أيًّا من الدردحتين أسبق من الأخرى، ومن منهما استقى من الأخرى. والمهم أنّ الدردحة السياسية كانت شائعة في بلادنا. ومن المعروف أنّ بعض السياسيين اليمنيين قد قاسى منها، مثل أحمد الشامي وعبدالله السلال والشماحي وغيرهم من أنصار ثورة 1948م، بعد فشلها، حيث أُلبِسوا قيودًا خشبية في أيديهم وعُرّضوا لشتائم عامة الناس في صنعاء وغيرها من المدن.

والحقيقة أنّ "الدردحة السياسية" استمرّت في الممارسة السياسية من قبل "الأئمة" حتى آخر عهد حكمهم. وبهذا الشأن، يقول القاضي إسماعيل الأكوع أنّه هو مع بعض المعارضين لحكم الإمام يحيى، (من "حزب الأحرار"): "وُضعت على رقابنا سلسلة حديدية، كما كلف بحراستنا ستةً جنود من حرس الإمام غلاظ القلوب، وحينما أُخرِجنا من السجن كان يقف عند الباب ثلة من "عُكْفَة" (حرس) الإمام، وقد تجمهر عند الباب كثيرٌ من الناس. فطافوا بنا شوارع صنعاء على مشهد من أهل صنعاء لإخافة الناس، ولإرهاب من يفكر بمناوأة الإمام بأنه سيلاقي المصير نفسه".

من المفيد الإشارة إلى أنّ عادة "الدردحة" السياسية لم يبتدعها الحكام من بيت حميد الدين، بل هي كانت سارية من قبلهم. ففي عهد المهدي العباس -كما يذكر زبارة في "نشر العرف"- أنه لما وصل ابن وهيب مع غيره من الأسرى، أمر بسرعة إخراجه والتشهير به في أزقة صنعاء وضرب عنقه وصلَبه، فكان نَهْب لباسه وإهانته وتطويقه بالحديد وضرب عنقه وصلبه على العيدان. 

وقد يأمر "الإمام" بـ"الدردحة السياسية" لأكثر من مرة، مع استخدام بعض الحيوانات لكي يمتطيها المدردَح به ليراه الناس بوضوح زيادةً في التشهير. مثال ذلك ما يُورده زبارة أيضًا، حيث يقول إنه في عام 1154هـ، أمر الإمام بإركابهم -الزيلعي وأصحابه- على جِمال لقصد التعزير، يطاف بهم في بئر العزب وصنعاء وقاع اليهود حتى وصلوا إلى باب السبح، ثم أمر بضرب الزيلعي وأصحابه. وفي اليوم الثالث، من وصولهم برز أمر الإمام بأن يطاف بهم في أرباع صنعاء على الصفة الأولى، إلى سجن غمدان.  

قد تبلغ "الدردحة السياسية" حدًّا يجعل "الإمام" يصدر أمره بألّا يقتصر الطواف بالمعني في العاصمة صنعاء أو في مدينة واحدة فقط، بل أن يأمر بأن يطاف به في أكثر من مدينة، كما في الحالة التي يشير إليها أبو طالب: "... ثم بدا للإمام نقله إلى سجن زيلع مقيدًا على جمل، وأمر أن يطاف به في مدائن اليمن".

لم تقتصر "الدردحة السياسة" على نظام حكم "الإمامة" فقط، بل امتدت إلى مناطق أخرى، حيث الكيانات السياسية القبلية المحلية. ففي حضرموت، لاحق السلطان بدر بوطويرق زعماء القبائل، أعيان باكثير والهاشميين والمشائخ الذين تذمّروا من تقييد الامتيازات الأسرية. ويتحدث المؤرخون عن إعدامات واعتقالات ونفي. وفي هذا السياق، حكم السلطان على شاعر حضرموت الكبير في القرون الوسطى، عمر بن عبدالله بامخرمة، والد سكرتيرِه الخاص، بعقوبة مشينة، وهي الطواف به في شوارع مدينة شبام والحبلُ على رقبته، وذلك بسبب أنه كان حريصًا على بقاء بلدته "الهجرين" بعيدًا عن السلطة الكثيرية (سلطة بوطويرق). 

وقد يتمادى بعض الحكام في التشفي من معارضيهم بـ"الدردحة السياسية" حتى وإن كانوا من مشائخ أهل العلم، (ويبدو أنه لأنهم من مشائخ أهل العلم الذين يحترمون أنفسهم). بهذا الشأن يروي عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف في "إدام القوت" أنه لما استولى بدر بن طويرق على شبام، أهان الشيخ معروف باجمّال، أحد صوفية شبام، إهانةً بالغة حتى لقد طافوا به شوارع شبام، وفي جيده حبل من مسد.

وعن الدردحة في التاريخ الإسلامي حدِّث ولا حرج؛ ويذكر الباحث القدير هادي العلوي أنها من وسائل التعذيب الأدبي، وكان يتم في الغالب بإركاب المشهر به على حمار والطواف به في المدينة ومعه أشخاص ينادون بجريمته. وابتكر عبيد الله بن زياد وسيلة إضافية في التعذيب الأدبي بهذه الطريقة، طبقها على الشاعر المتمرد يزيد بن مُفَرِّغ الحميري، حيث أمر بأن يسقى مادّة مُسهِّلة ثم يطاف به، وكان الشاعر يسلح على نفسه أثناء الطواف! 

ولن أعلق حتى لا أخدش الصورة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English