اليمنيون وتاريخ الكلام

عن "الأجبار" الجاثمين على الدولة والمجتمع؟
أحمد صالح الجبلي
August 17, 2022

اليمنيون وتاريخ الكلام

عن "الأجبار" الجاثمين على الدولة والمجتمع؟
أحمد صالح الجبلي
August 17, 2022

هذا الاصطلاح يقف على لفظة "جَبَر" والتي لها أكثر من معنى، مثل: السليم، الجديد، القوي، المتكبر، الطويل، الضِعْف، الكثير، الجملة؛ ومنه: البيع بالجبر: البيع بالجملة. أما ما يهمنا هنا أنّ الجَبَر هو غير الخاضع لأحد؛ ويسري ذلك على الفرد والجماعة، سواء أكانت الجماعة قبيلة أم فئة أم سكان منطقة، ففي أحد الزوامل القبلية، يقول حبراس بن علي الحارثي:

يحسب اني له رعية وانا جدي جَبَر       ما تقنّع صاحبه يوم عنده له مصيب

تقنع: يوجه عداءه لصاحبه؛ جبر: غير خاضع لأحد.

ومن المعروف أنّ "الجَبَر" هو من لا يدفع الزكاة للحاكم، سواء أكان إمامًا أم سلطانًا أم غيرهما. قال المثل المعروف في منطقة البيضاء: "طيّاب عشّارة وذي ناعم جَبَر"، أي إن قبيلة "طيّاب" يدفعون الزكاة للسلطان في البيضاء، أما قبيلة "ذي ناعم" فلا يدفعون؛ إنهم "جبر". 

بشأن أفعاله فهي قليلة الاستعمال، ولكنه يقال في المتعدي منه: جبَّرت السلطة بني فلان تُجَبِّرهم تَجْبِيرًا فهم مُجَبَّرون وجَبَر وأجْبار، أي أعفتهم. وفي اللازم منه يقال: تجبَّر بنو فلان يتجبَّرون تجبيرًا فهم متجبرون وجبر وأجبار. ومن هذه الصيغة جاء المثل القائل: "إذا تجبَّر القبيلي طلب قُطْعَة"، وفيه تحذير من تجبير رجال القبائل أو مشائخهم، لأنّ ذلك يدفعهم إلى الطمع بما هو أكثر، فيطلب من تجبَّر منهم أن يقطع أيضًا إقطاعية، أي: يزداد طمعه وتزداد مطالبه. ولكن ينبغي الحذر عند التعامل مع هذا المثل وغيره من الأمثال التي لها صبغة جماعية، قبلية أو فئوية أو مناطقية، لأنّها لا تبتعد عن التعبير عن أهواء وأفكار متحيزة سلفًا، وليس لها علاقة أكيدة بالحقيقة الموضوعية. وبشأن هذا المثل أعلاه، فالأرجح أن يكون مصدره هو حكم "الإمامة".

فالجبر، إذن، الجماعة التي تعفى من بعض الالتزامات بموجب أعراف اجتماعية أو تقاليد قبلية. وأميل إلى أنّ اسم وادي الأجبار في سنحان، وعزلة الأجبار في وصاب العالي، والجبر أيضًا في بلاد حجور، وفي نواحي حجة، وفي ناحية السودة.

الامتيازات المعنوية التي كان يتمتع بها الجبر، فأهمها: "أن يقضى له بالإجلال والاحترام، وعلو الدرجة والمقام، لا يغير عليه حال، ولا يكدر له بال، وأذنّا له بعقد نكاح من لا ولي لها بالنيابة عنا وعقد نكاح من غاب عنها وليها ولم يوكل من يعقد بها". غير أن هذه الامتيازات كانت تقدم عندما تضعف الدولة، بعكس عندما تكون قوية.

في عهد "الإمامة"، كان الأجبار، وهم أولئك الذين يعفيهم الإمام من بعض الالتزامات المادية المفروضة على الأهالي، فلم يكن ذلك بدون مقابل، وإنما لقاء تقديم خدمات معينة لموظفي الحكومة عند المرور في قراهم، أو لأنهم كانوا من المناصرين للأئمة إبان الحرب مع الاحتلال العثماني. وقد استمرت هذه الامتيازات، سواء أكانت مادية أم معنوية، فترات طويلة حتى انسحب على الأبناء والأحفاد. وتتطور (أو بالأصح تتغير) هذه الامتيازات مع الأجيال، فحينًا يغلب عليها الشعارات الدينية والمثالية، وحينًا آخر تبرز الامتيازات المادية وتطغى على الشعارات المعنوية. وكل ذلك بغية الاحتفاظ بالأنصار، وكسب المزيد منهم.

ولعلّ الرسالة من "الإمام الهادي لدين الله" المشهور بـ"صاحب المواهب" نسبة إلى "حصن المواهب" الواقع إلى الشرق من مدينة ذمار والذي اتخذه مقرًّا له، المولود في عام 1047هـ (37/ 1638م) والمتوفَّى عام 1130هـ (17/ 1718م) تسلط الضوء على الامتيازات التي كان يتمتع بها المجبرون، حيث تنص بأن هذه الوثيقة بيد "الشيخ حسن عبدالله محمد الوادعي وإخوته وشركائه، بأنهم منا وإلينا، نوائبهم إلينا، ومن كسب مالًا من جيرانهم كان زكاتهم إليهم، يسلم إليهم بالأمانة من غير واسطة، ولا عليهم طيافة ولا تحذير ولا تقدير، حيث إن المذكورين في خدمتنا الشريفة، فلا عليهم اعتراض من نائب كوكبان ولا من شيخ على خطنا هذا ويعتمده، وليس عليهم في الأسواق والطرقات، وكذلك شركاؤهم، فلا يكون عليهم تعرضٌ بل هم إلينا، يعلم ذلك، ...".

تفسير بعض الاصطلاحات 

 -نوائبهم إلينا: الإمام هو من يتحمل النوائب التي تحل بهم، وأن عليهم الرجوع إلى الإمام لحل مشاكلهم. أما دلالة العبارة فهي أنها تبين مدى العلاقة الوثيقة بين المذكور وبين من تشملهم الوثيقة بالإمام.

 -ومن كسب مالًا... ولا تقدير: يوكل الإمام إلى هذه العائلة استلام زكاة جيرانهم من غير تدخل موظفي الدولة، حتى يخلق لها مكانة في المنطقة بين جيرانهم، وحتى يوسع من نفوذهم وهيبتهم باعتبارهم من ممثليه، أي من ممثلي السلطة حينذاك.

-  النائب: هو ممثل الإمام حينذاك في المنطقة المعنية.

 -وليس عليهم في الأسواق والطرقات: هم معفيون من الرسوم التي تجبى في الأسواق والطرقات.

من أنواع الامتيازات المادية أيضًا: أن تكون "بيوتهم مجللة محترمة لا تعترض بأمر من الأمور"، مما يعني استثناءهم من نزول موظفي الدولة وجنودها الذين كانوا ينزلون في بيوت المواطنين أثناء تأدية مهامهم الوظيفية؛ وكان ذلك أمرًا معروفًا إبان عهد الإمامة.

أما الامتيازات المعنوية التي كانوا يتمتعون بها، فأهمها: "أن يقضى له بالإجلال والاحترام، وعلو الدرجة والمقام، لا يغير عليه حال، ولا يكدر له بال... وأذنّا له بعقد نكاح من لا ولي لها بالنيابة عنا وعقد نكاح من غاب عنها وليها ولم يوكل من يعقد بها".

غير أنه من المهم الإشارة إلى أنّ هذه الامتيازات كانت تقدم عندما تضعف الدولة، بعكس عندما تكون قوية فلم تقدم مثل هذه الامتيازات، كما يشير إلى ذلك سيد مصطفى سالم، استنادًا إلى إحدى الوثائق والتي تخلو من هذه الامتيازات المادية. فبعد خمس سنوات من تاريخ الوثيقة المذكورة أعلاه، عزم المتوكل بن الحسين في سنة 1135هـ على قبض واجبات الأجبار وزكواتهم ووسّط لقبضها منهم وزيره الفقيه العالم الكامل أحمد بن محمد بن صالح الشجني، وكانت المحررات من الأئمة بأيدي الأجبار بأنهم يصرفون زكواتهم إلى الفقراء فرفعت الشكايا المتكاثرة إلى المتوكل في بقية زكوات الأجبار بنظرهم، فلم يرفع إليها رأسًا، وصمّم على ذلك، وندب الخراص على أموال آل الإمام والعلماء والرؤساء وجميع الأجبار وغيرهم، فقابل الناس الواسطة الشجني المذكور بوجه مكفهر وبذل المولى محمد بن الحسين بن عبدالقادر وصاحب كوكبان وغيره تسليم زكواتهم إلى الإمام المتوكل بدون واسطة الشجني ومن غير خرص، فلم يسمع لهم المتوكل كلامًا، ولما يئس الناس من رجوع المتوكل عن تسليط الشجني جزم الإمام في المضيّ على ما تعاقدوا عليه من الخروج عن الطاعة.

هيمنة وجبايات

لم يكن التعامل مع بعض الشخصيات القبلية والدينية على طريقة الأجبار (الإعفاء من بعض الالتزامات مقابل أخرى) أمرًا مقصورًا على نظام "الإمامة" فقط، وإنما كان شاملًا في اليمن. وبهذا الصدد، نجد بعض الإشارات في بعض المؤلفات خارج منطقة "الأئمة"؛ فنقرأ عند السقاف، مثلًا: في خلاف بين قبيلة "نَوَّح" الحضرمية والسلطان غالب بن عوض القعيطي عام 1328هـ، لجأت نوح إلى سيدين من آل العطاس اللذَين حكما بينهما حكمًا؛ مما جاء فيه: "ولنوح إعفاء أموالهم الخاصة من جميع الرسوم الدولية، فلا عشور ولا "مكووس" عليهم (نوع من الجبايات عرفها الناس في الدول الإسلامية القديمة)، ولا على مناصبهم: آل البيتي، وآل العطاس". وفي مادة "شُحَيْر" نجد: "...وبقيت (بلدة شحير) تحت أيدي آل بُرَيْك"، حتى انتهت دولتهم بالكثيري، ثم استولى عليها عوض بن عمر بعد أن اشترط عليه قبائلها الإعفاء من الضرائب..." (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت: 139-140). من جهته، يلاحظ العرشي أنّ في دوعن (من دولة القعيطي بحضرموت) كان جبي الضرائب يتم من فئة دون فئة أخرى. فإنك ترى كثيرًا من العلويين (السادة) وآل العمودي وآل باوزير يعفون منها، لأنهم يعدون من الروحانيين.

وفي حكم الرسوليين، كان للأجبار العديد من الامتيازات، لا تبتعد كثيرًا عن تلك السالفة الذكر، حسب ما جاء في "نور المعارف" و"الارتفاع"؛ "فالواجب طرح ذلك على مشايخ البلاد وأجبارها والشد عليهم في ألّا يكلفوا الرعية الخروج". ثم جاء في الحاشية ما يلي: والجبر شخص له وجاهة اجتماعية كبيرة في الوسط القبلي الذي تعيش فيه، مع تمتعه بقدرة على البطش ومجابهة الآخرين، سواء كانوا دولة أو وجاهات قبلية أخرى، ومن هنا كان من الامتيازات الممنوحة له أو المسلم له بها عدم سداده أي جبايات أو حقوق أو واجبات، سواء للدولة أو لأية وجاهة أخرى تهيمن على المنطقة التي يعيش فيها، وربما وصل الحال ببعض الأجبار إلى فرضهم في المناطق التي يتواجدون فيها أخذ بعض الجبايات في الطرق التي تسلكها القوافل، سواء كانت هذه القوافل خاصة بالأفراد أو الوجاهات القبلية الأقل شأنًا منها، مثل المشايخ. وظل نظام الأجبار معروفًا في اليمن إلى وقت قريب، وقد اختفى في وقتنا الراهن تحت عباءة النظام (المشيخي) وأصبح من يتمتعون بامتيازات الأجبار والجاثمين على صدر الدولة والمجتمع قلة قليلة من المشايخ الكبار، ويتبوؤون مناصب كبيرة في الدولة ويهيمنون على أتباعهم من المشايخ الصغار والأفراد، ويجنون فوائد كبيرة من مشاركتهم الدولة والمجتمع امتيازات التجارة وغيرها مع عدم سدادهم للدولة ومؤسساتها المختلفة أية مستحقات مالية، بما فيها فواتير الماء والكهرباء. كما يعفى موظفو الدولة من جباية أرضهم وكذلك أراضي الفقهاء والعلماء وأصحاب الأراضي الموقوفة وقفًا ذريًّا على الأسبلة والمدارس والجوامع والمساجد والخانكات في المدن والأرياف. 

- ألا يكفي "وجع راس"؟

- بلى!

إذا كان من معاني "الجَبَر" هو السليم الذي لم يمس، أو الجديد الذي لم يستعمل. فإنه يرمز به أيضًا إلى العذرية والبكارة، قال شاعرٌ متغزلًا:

شفت شوذي خطر

عاد خَطِّهْ جَبَرْ

يا اهْل الهوَى وِارْفِقُوا بِهْ

وخاتَمِهْ في كُعُوْبِهْ

شفت: رأيت، شوذي: ظبي صغير. والمراد هو الفتاة الصغيرة التي رآها الشاعر مارة تتخطر، وهو يدعو أهل الهوى إلى الرفقة بها لصغر سنها وأنها لا تزال عذراء طاهرة لم يفتض لها ختم، ذلك أن "خطها" لا يزال جبرًا، والدليل أن خاتم عدم الاستعمال لا يزال على نهديها، وهو السواد المحيط بالحلمة شبهه بالختم.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English