قبل سنوات كتبت مقالاً نشرته على صفحتي في فيسبوك، ربطت فيه بين ما يطرحه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، فيما يعرف بالموقف النصي، وهذه الحالة الفضائية التي صنعتها وسائل التواصل الاجتماعي وقد انغمس فيها الكتاب والموهوبون من مختلف المجالات وانحرفت فيها مساراتهم الطبيعية إلى عوالم أخرى. كان المقال يتحدث تحديداً عن تأثير المتلقي والفضاءات العامة والمحفزات من خارج عالم الكتابة في ما يمكن أن يقرره الكاتب أو موهبته. لقد كنت أتحدث بتجرد كامل ودون أن يكون في بالي أي اسم معين، لكن ما فاجأني هو أن صديقي العزيز محمد عبده العبسي دخل على المنشور ليترك تعليقا جميلاً يسقط فيه ما كتبته أنا على حالته الشخصية، دون أن يكون لديه أي حساسية تجاه الأمر.
وأعني، وهذا ما يدل عليه تعليق محمد، هو أن صديقي كان يعي جيداً كيف أن الصحافة قد أخذته عن الشعر؛ موهبته وعالمه الحقيقي. لقد كان محمد واحداً من أبرز الصحفيين اليمنيين بتحقيقاته الاستقصائية، وملفاته الساخنة التي كان يطرحها على الدوام وتترك إثارة وجدلاً وتأثيراً واضحاً في المشهد السياسي، بينما كان الشاعر محمد العبسي يختفي خلف الصحفي، أو أن الأول يحجب الثاني بشكل من الأشكال، وهذا ليس موقفاً نقدياً منه، بل كانت قناعة محمد نفسه كما يوضح تعليقه الذي كان يبدو فيه كما لو كان يعترف بشيء ما أثقله، ويزيحه عن كاهله بحب وصدق وتخفّف.
في التعليق المشار إليه، يعترف محمد العبسي، بل يطرح نفسه كنموذج للحالة التي ناقشتها، وهذا ما لم أكن ألمسه قبل ذلك فلقد ظللت بانتظار ديوان محمد موعداً تلو آخر، فلقد كنا كصديقين في فيسبوك، وبيننا حوارات كثيرة، لكن اللقاءات التي جمعتنا، وما أغناها، نادرةً جداً، ولقد كان محمد دائم العتب: يسألني أين أضع لك ديواني الشعري؟ كنت ولأني أسكن في مدينة أخرى، أترك ذلك لموعد تلو آخر، ومع ذلك فلقد قرأت لمحمد نصوصاً منشورة في الصحف والمجلات وفي الفيسبوك. وكان أحد أهم الأصوات الشعرية التي ظهرت في جيلنا "الألفيني"، وإن كان أكثرنا ذيوعاً في الصيت، لا كشاعر وإنما كصحفي.
وأظن أن تعالق الصحفي والشاعر في شخصية محمد العبسي، ثيمة لا بد أن تحضر في كل ما تركه محمد بعده وفي كل ما يمكن أن يقال ويكتب عنه. وليس ديوان "بل" سوى خير شاهد على ذلك، فأنت تقرأه وتتنقل بين نصوصه سوف تصادفك قصائد الشاعر التي يكتبها حسه الشعري الخالص، ونصوص الصحفي الذي يحدوه الحس الإنساني في ما يكتبه، عوضاً عن تعالق هذا مع عوالم السياسية وحيثيات الواقع. لقد كان محمد بقدر ما هو شخص مهموم بعالمه الخاص (العائلة)، مهموماً بالعائلة الأكبر (الوطن)، ولا تخلو معظم النصوص من هذا التنقل بين العالمين دون أن يكون بينهما أي تعارض أو تنافر أو تضاد.
في ديوانه "بل" ينتقل محمد العبسي إلى تجربة شعرية يترك لها مقدمة تنظيرية كفاتحة لكتابه الشعري، يضع فيها وجهة نظره الشعرية التي يمكن قول الكثير عنها، لكن ليس أكثر مما طرحه أنسي الحاج تعليقاً على ذلك من أن التنظير والحماس قد يكونان بعد حين محل ندم ومراجعة من الشاعر وهو ما كان يبدو أنه يهمس به في أذن محمد واتضح من خلال تعليقه على المقدمة رابطاً إياها بتجربته في مقدمة كتابه "لن". إذ يذهب إلى أن التشابه بينهما يتعدى فكرة الاسم/ العنوان (لن، بل) إلى الحماسة التي تتخلل المقدمة، وتحتاج مراجعة يوماً ما.
يظل محمد العبسي شاعراً شاهداً على المرحلة والإنسان، وصحفياً شاباً فعل أكثر مما يتيح له عمره وظروفه وسياقه، وقلباً اكتمل قبل أوانه.
تتراوح نصوص مجموعة "بل" بين اللغة الشعرية العالية أو بالأصح الحس الشعري العالي واللغة النثرية حين يأخذ المعنى الإنساني الشاعرَ إلى سطح اللغة لا إلى عمقها، وفيها تبدو تجليات الشعر أقل قيمةً من تجليات الواقع كما في المعاني الإنسانية التي يخلص لها الشاعر حين يصغي لضعف الكائنات من حوله ضد القوة والجبروت التي تمثله الطبيعة، والحياة البشرية في وجه من وجوهها، كما هو في نص مثل "أرزاق" بشكل أكثر تكثيفاً، وهذه الحالة من الضعف كـ"رؤية" تعكسها نصوص المجموعة كلما أصغى الشاعر لضعف الكائنات من حوله، سوف تتجلى أكثر اكتمالاً مع الموت، حين تبدو الذات الشاعرة ضعيفة هشة أمام الموت، والموت واحدة من الثيمات التي تمثل حجر زاوية في نصوص المجموعة، مثلما تمثل حقيقة لعينة وضعت ثقلها على حياة محمد كما هو الحال مع تجربته الشعرية.
يمتلئ ديوان "بل" لمحمد العبسي بسيرة مفعمة للمعاني الإنسانية والقيم التي يمكن أن تشغل ذهن شاعر ما، مثلما يزخر بالكثير من التأملات والصور الشعرية التي لا يمكن أن تصدر إلا من روح شاعرة وممتلئة بالمحبة والخير، والحرية، ونحن بينما نتنقل بين ثنايا الديوان لا نكاد نفوت تلك المعاني التي تصغي إلى روح الطبيعة وكائناتها ومن زوايا نظر، أقل ما يمكن القول عنها أنها شعرية، حساسة، وطفولية بالمعنى العميق والإنساني للتساؤلات الطفولية.
إن نصوص محمد العبسي تغير موقعنا من النظر إلى الغرائز الإنسانية لتجعل الإنسان في موقع الوحش، أو الكائن الذي توحش، ومهمة الشعر هو إعادة التوازن بل وربما التحيز نوعاً ما لبراءة الكائنات وعفويتها، وحقها في الحياة، والحرية، بيد أن مثل هذا قد يعد ذا وظيفة شعرية اجتماعية ذات مغزى فني حين يجعل الشاعر من كل ذلك معادلاً موضوعيا لذاته، كما هو الحال في قصيدة "هذه النملة تشبهني".
وأعني أن محمد العبسي، ومثلما هو الحال بتجربته الصحفية الحصيفة والمتحيزة للناس والقيم، ربما كان يتحيز في تجربته الشعرية للمعنى أكثر من تحيزه لجمال اللغة، ومع ذلك فإنه ومنذ تجربته الأولى في الديوان الأول "وحيداً كالقطرة.. جميعا كالأمطار" الذي أصدره عام 2014، ظل يبحث عن لغته الشعرية الخاصة، فلا تكاد تكتمل ملامحها في المجموعة الثانية التي بين أيدينا "بل"، حتى يأخذه الموت قبل أن ترى النور. إن محمد، وكما قلت سلفاً، واحد من أهم الأصوات الشعرية التي ظهرت ما بعد العام 2000، وإن كان قد بدأ النشر أواخر التسعينات، لكنه، ومثل كل مجايليه ظل يبحث عن صوته الخاص، وبصمته الفريدة، ربما خطفه الموت قبل أن يعثر على فضاءاته الشعرية الخاصة ويشكل عالمه الشعري بكل ما تشير إليه طاقته الإبداعية وتعامله مع اللغة من إمكانيات لذلك، ومع ذلك يظل محمد شاعراً شاهداً على المرحلة والإنسان، وصحفياً شاباً فعل أكثر مما يتيح له عمره وظروفه وسياقه، وقلباً اكتمل قبل أوانه.