أحمد الجابري..

شاعرٌ منسي في حياته، أعاده الموت إلى الحياة
جمال حسن
January 14, 2024

أحمد الجابري..

شاعرٌ منسي في حياته، أعاده الموت إلى الحياة
جمال حسن
January 14, 2024
.

قبل أيام، غادر الحياة الشاعر اليمني أحمد الجابري (1936-2024)، تاركًا وراءه إرثًا من الغناء، إذ كان من أبرز صائغيه شعرًا. ورغم أنه واحدٌ من كبار شعراء الأغنية اليمنية في عصرها الذهبي، رحل عن الحياة وحيدًا ومُهملًا. ولولا ما تركه من قصائد ترنم بها كبار الفنانين، كان سيمضي دون أن يذكر اسمَه أحد. 

لكن رحيله جعله محل اهتمام وسائل الإعلام واليمنيين، ليغزو حوائط وسائل التواصل الاجتماعية. ومن سينسى كاتب أغنية "لمن كل هذي القناديل"، التي ستبقى أبرز كلمات تُخلد الوحدة اليمنية، وإن كان منسيًّا في سنواته الأخيرة، وكأن قدر الفنان والمبدع في اليمن أن يكون منسيًّا في حياته، حتى يُعيده الموت إلى الحياة مُجددًا.

وُلد الشاعر أحمد الجابري في عدن وتحصل على تعليمه الأساسي في مدارس التواهي ثم أصبح اسمًا معروفًا في المدينة، وكان بالتأكيد لشعره دورٌ مهمّ في ذلك، لكنّ هناك جانبًا آخر يعرفه القليل عنه؛ كان الجابري واحدًا من أمهر لاعبي كرة القدم في مدينة عدن، ووفقًا لما ذكره الصحفي اليمني الراحل فضل النقيب، فإنه عرف الجابري بوصفه "لاعب كرة قدم فنّان في مستوى علي محسن المريسي في عدن".

أي إنه لعب كرة القدم، وكان حريفًا بما يكفي لجعله مشهورًا في عدن، لكنه لم يمارس اللعبة بشكل احترافي على غرار المريسي. وهذا الأخير أصبح أبرز نجوم نادي الزمالك المصري في الستينيات. ولعل الجابري كانت أسبابه واضحة، إذ نذر نفسه للشعر بدرجة كبيرة، وحفر اسمه بشكل مبكر كشاعر في الأغنية العدنية، واقترن اسمه بكبار المغنِّين آنذاك، مثل: أحمد بن أحمد قاسم، ومحمد مرشد ناجي "المرشدي"، ومحمد سعد عبدالله، ومحمد صالح العزاني، وآخرين. 

واللافت في شعر الجابري، هو تلقائيته العذبة، بساطة تتسم بالغنائية، وتعابير مُشتقة بسهولة من ألفاظ الناس اليومية. فبعض شعره، يكون تعديلًا فاتنًا ومنظمًا لما يتداوله الناس في الأرياف أو في المُدن. ولعل موهبته تلك جعلته يطوع الألفاظ العامية في نسق شعري مليء بالسلاسة والرشاقة، كما لو كانت تمايل فتاة في مشيتها.

وقبل ذلك، قدرته على التعبير الصادق، بحيث يجعل من تعبيره الشعري، تجربة تشمل جميع الناس. إذن، هناك جوانب جوهرية في شعره: الصدق، وصقله المستمر للتعبير اليومي، ليجعل منه وسيلة للتعبير الغنائي. 

وحين يقول: 

أعطيت قلبي لمن يسوى وما يسواش، 

كل من جهش له وخَذ من لوعتي مجهاش، 

كلي أنا حب مثل الطير له أرياش، 

لا حَبّ حلّق بنى في داخلي أعشاش". 

هنا يحول الصورة الشعرية إلى مشهد، وهو يصف عذاباته بتلك الخفة والبهجة، كما لو أن عذابه واغترابه صورة شعرية وحسية. براعة التعبير هو توظيف مفردة "جهش"، وهذا تعبير في العامية التعزية، تصف الشخص الذي يأخذ من شيء قليل، مثل شجرة، ويمضي. وهذا ما تضفيه بعض المفردات العامية، ولا يمكن أن تعبر عنها الفصحى بهذا التكثيف والدقة.

ويعود الشعر هذا إلى رباعياته، محاولًا صياغة زجل عامي يمني على غرار رباعيات الشاعر المصري صلاح جاهين، مضفيًا عليها غربته الذاتية. لكنه في بعض رباعياته يقتفي أثر رباعيات الشاعر الفارسي عُمر الخيام، كما في هذه الرباعية: 

"غنيت ليل الهوى وأسعدت كل الناس، 

وزّعت حبي لهم وأسقيتهم أنفاس

لا حَسّ حد بالظما خَذ من فؤادي كاس 

الحب ذا مذهبي.. والفن عندي إحساس

تعود رباعيات الجابري إلى فترة شعرية ناضجة، بعد التسعينيات، وقام بنشرها في جريدة 14 أكتوبر، وهو ما يؤكده الشاعر نجيب مقبل الذي كان مسؤولًا وقتها على القسم الثقافي للصحيفة. كانت عودة الجابري إلى عدن، في التسعينيات بعد إعلان الوحدة اليمنية عام 1990 -كما يقول مُقبل- شكلت له صدمة، بكونه لم يلقَ عدن التي كانت.

ولعل الجابري أراد نشر رباعياته في جريدة 14 أكتوبر الصادرة عن عدن، حتى يروي للمدينة نفسها، تلك الغربة التي عاشها بعد رحيله عنها. 

وكان أحد ضحايا الصراعات السياسية التي شهدتها مدينة عدن بعد الاستقلال عام 1967. فمع سيطرة الجبهة القومية على السلطة في جنوب اليمن، وقمعها جبهة التحرير، وهو الفصيل الآخر من الكفاح المُسلح، اضطر الجابري للنجاة بنفسه، تاركًا مدينته عدن، التي صارت مُحرمة عليه، ليستقر في تعز. 

شكّل خروج الجابري من عدن منعطفًا في حياته، وربما خيبة أمل بالنسبة له. وليس هناك تصوير أبلغ ممّا تغنى به الفنان أحمد قاسم من شعره: "عدن عدن يا ريت عدن مسير يوم، شاسير به ليلة مشرقد النوم". وفي هذا التعبير يتجسد الأسلوب الجابري، بكونه نابعًا من البساطة الوجدانية، والتي صاغت مشاعر اليمنيين على نطاق واسع. 

وما يميز مثل تلك القصيدة الغنائية، الابتعادُ عن كثرة الوصف، مكثفًا رمزيته للحنين بذلك الشكل. أيضًا استخدام الألفاظ العامية بتلك الرهافة، وهو ما يعمقه البيت الثالث من الأغنية "مر الغمام، قالوا عدن قباله، لو به جناح شاطير أشوف خياله". 

نلاحظ أيضًا كيف حفزت كلمات الجابري قريحة الفنان أحمد قاسم، ليصيغ لحنًا بتلك الروح التجديدية. نلاحظ الحس الإلقائي في مطلع المذهب، وكذلك البساطة التعبيرية في صياغة الأغصان، ولعل كلمات الجابري هي من فرضت على الملحن أن يستند إلى غنائية ليس من دوافعها التعقيد. 

استخدم الجابري ألفاظًا عامية تنتمي إلى منطقة الحجرية في تعز. ويبرز هذا الصوت في كلمات مستوحاة من غناء المهاجل، "والله ما أروح إلا وقاهو ليل" وغناها أحمد قاسم بروح المهاجل. 

بينما سيُغني له المرشدي "أخضر جهيش مليان حلا عديني، بكر غبش شفته الصباح بعيني، يملي الجرار ريق الندى رحيقه، يروي ظمأ من ضاع علوه طريقه". هكذا يستخدم "علوه" بلفظ أهالي الحجرية. لكن ما يجعل الجابري مفاجئًا في استخدام تشابيه غريبة -لكنها أيضًا تنتمي للمخيال المحلي في المناطق الريفية.، وقد عبر عنها بروح تلك المناطق- تصويره لاكتناز المرأة ولونها بدلالة تعبيرية محلية أيضًا "أخضر جهيش مليان". 

وعلى ذكر ما كتبه الجابري شعرًا باللهجة التعزية، أكّد المرشدي بأنه أول من قدم الأغنية التعزية، مشيرًا إلى تعاونه مع الجابري وسعيد شيباني. وهي حقيقة بأن هذا الغناء تأسس في عدن، حتى ظهر أيوب طارش لاحقًا ليصبح أهم رموز هذا الغناء.

وكان للجابري حضورٌ في هذا الغناء، من خلال تعاونه مع أيوب طارش، مثلما كان له حضورٌ في الأغنية العدنية. على أن صاحب "على مسيري" حمل على عاتقه تقديم كل الألوان الغنائية اليمنية لفظًا؛ بمعنى أنه صاغ كلماته بكل لهجات الأشكال الغنائية اليمنية الرئيسية: العدنية، والتعزية، واللحجية، والبدوية، والصنعانية، والحضرمية. 

ومن أشهر الأغاني العدنية التي كتبها الجابري قصيدة "حبوب"، التي غناها ولحنها محمد سعد عبدالله. وأيضًا قصيدة "زاد الخصام" وقدمها لحنًا وغناء الفنان أحمد قاسم. 

وتبقى واحدة من أروع الأغاني التي صاغ شعرها الجابري، هي "غصب عني يا حبيبي"، ولحن كلماتها بعذوبةٍ قلما نراها في أغنية يمنية الفنان محمد عبده زيدي. وليس للأمر علاقة بالمقدمة الموسيقية الطويلة، وبصورة عامة شكلت الأغنية علامة فارقة، بما فيها من تنويعات لحنية في الفواصل الموسيقية والجمل الغنائية. ويقول فيها: "كيف بس أقدر أسامح/ أنت ياللي كنت جارح/ في خصامك في كلامك/ اللي قلته مش قليل/ أنت تدري بشعوري/ كيف أسامح؟ مستحيل/ غصب عني". 

وكان تعاون الجابري لافتًا مع المرشدي بما كان فيه من تنويع شمل تقريبًا جميع اللهجات اليمنية المعروفة في الغناء. فإضافة إلى العدني، والتعزي، قدم له اللحجي مثل "شي لله"، وأيضًا الصنعاني، مثل "يا غارة الله منه". كما أن المرشدي قدم من شعر الجابري أغانيَ بدوية، لعل أبرزها "على مسيري على مسيري، ألَا بسم الله الرحمن"، وهذه أغنية خالدة لحنها محمد مرشد ناجي، وستبقى من الأعمال الأيقونية في الذاكرة اليمنية، نظرًا لشهرتها ولحنها الفريد والبسيط. ولا بد أن نعطي الجابري حقه، بما أن لكلماته هذا الأثر الذي يسمح للغناء أن يعبر عن نفسه تلقائيًّا.

بعد أن استقر الجابري في تعز، ستبدأ مرحلة جديدة في حياته، وكذلك مسيرته بصفته شاعرًا غنائيًّا، لتبدأ رحلة تعاون جديدة أبرزها مع الفنان أيوب طارش. وهو تعاون سيثمر عددًا من أجمل الأغاني اليمنية، لعل أكثرها أهمية قصيدة "ضاعت الأيام"، والتي نسجها الفنان أيوب طارش بلحن شجي على مقام الرَّاسْت.

فعلى سبيل المثال، أغنية "شفت ناقش الحنا" التي كتبها للفنان محمد صالح عزاني، تظل واحدة من سمات الجابري، وهو قدرته على تصوير عادة اجتماعية بتلك البراعة والخفة، وجعل منها تحفة شعبية تُغنى في معظم الأعراس اليمنية. "شفته ناقش الحِنَّا يا بوي من فنّه/ طاير من الجنّةْ شفته ناقش الحنّا/ سبحان من صوَّر كأنَّه قمر نوَّر/ لابس حرير أخضر شفته ناقش الحنَّا". 

ودائمًا كلماته تجعل اللحن سهلًا، ويتطلب في كثير منه تلك الحركة والتثاؤب في التعبير اللحني، كما هو الحال في أغنية عزاني التي لحنها على مقام البيات، وبأسلوب راقص، ومُبهج. 

بعد أن استقر الجابري في تعز، ستبدأ مرحلة جديدة في حياته، وكذلك مسيرته بوصفه شاعرًا غنائيًّا، لتبدأ رحلة تعاون جديدة، أبرزها مع الفنان أيوب طارش. وهو تعاون سيثمر عددًا من أجمل الأغاني اليمنية، لعل أكثرها أهمية قصيدة "ضاعت الأيام"، والتي نسجها الفنان أيوب طارش بلحن شجي على مقام الرَّاسْت. 

وتجتمع الكلمات العذبة باللحن الشجي لتُشكّل لنا واحدة من أجمل أغاني أيوب طارش على الإطلاق. ومن كلماتها العذبة يقول: "خذ حياتي لا تعذبني بأشجانك وتضني مضجعك/ شَفّني وجدي فكم أضنى الجوى روحي وأشجى مسمعك، علني حبك وأضناني بلا معنى وأحرق أضلعك/ ليتنا أقدر على النسيان يا قلبي وتنساني معك".

وهذه قصة لن تنتهي بموت الشاعر، فالغناء هو الإرث الذي تحمله الأجيال بالتعاقب، والجابري أحد الذين شكلوا الوجدان اليمني بأسلوبه الشعري البسيط والعميق في آن، خلد نفسه في الغناء اليمني كواحد من رموز شعرها الكبار.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English