أيام فرَّت إلى الأبد

عن "عدن" و"الحديدة" و"النَّشَمة"
محيي الدين سعيد
June 24, 2023

أيام فرَّت إلى الأبد

عن "عدن" و"الحديدة" و"النَّشَمة"
محيي الدين سعيد
June 24, 2023
.

قبل سنوات، كنت بالقرية واحتجت من أعماقي أنْ أبكي، فزُرتُ مدرسة 13 يونيو؛ هذي المدرسة بفصولها الستة، بمدرسيها المصريين ذوي الخبرة الرائعين، بأشجارها وأحجارها وهوائها وملاعبها كوّنَتْنا (منصور وأنا) وجدانيًّا وعقليًّا وإنسانيًّا قبل أيّ كتاب أو كاتب أو جامعة.

التقيتُ النهمية صاحبة المقصف التي كنّا ﻻ نفوِّت بيضها المسلوق وبسباسها الحبشي مع كندا دراي بالبرتقال، وكنت أنفرد بكل ذلك خلف المدرسة بمدرجاتها الزراعية، فأجلس على حجَرة كبيرة موليًا وجهي شطر قريتي التي تقف هنا خلف "جبل القُّلَّة"، فتفاجأت أنّها ما زالت تعيش وتتمتع بصحة وعافية رغم آثار السنوات الطويلة؛ طفت الفصول فكنتُ أرى منصورًا في كل حجرة وزاوية وفصل في المدرسة، أجهشت بالبكاء من صميم قلبي وأنا ﻻ أبكي بسهولة.

بكيتُ الأيامَ الجميلة والحالمة مع منصور بكيتُ كل شيء؛ الزمن الجميل، الطبيعة الخلابة، قيمة الريال والرخاء؛ وللأمر علاقة بالحبّ الإنساني والوفاء والصداقة؛ دامت صداقتنا فترة رائعة لم يحدث أن اختلفنا أو تبادلنا الإساءة الواحدة، كان بيننا احترامٌ مطلق لم يجرحني أو أجرحه يومًا أو لحظة واحدة.

كان منصور صديقًا من أهل الجنة.

بعد الثانوية، درس بألمانيا الهندسة المدنية، وعاد ليشتغل في حضرموت مع شركة ما، وبقي لسنوات، وفي عام 2000 تقريبًا، وكان رمضان، فزعت من خبر انتقاله إلى الجانب الآخر نتيجة حادث مروري مؤسف.

عندما تم طردنا وأبي من عدن بعد التأميم من الرفاق المؤمنين بالنظرية العلمية، التي فشلت بعد 13 سنة بالضبط، وكانت ضريبتها فصولًا متلاحقة من الدماء بين الرفاق؛ انتقلت إلى الحديدة للدراسة، وكنت في نصف العام من الصف الثاني الابتدائي عام 1977م، فالتحقت بمدرسة الشهيد محمد محمود الزبيري، وكان أول طالب أتعرف عليه هو منصور الذي شاءت الأقدار أن تنسج بيننا علاقة صداقة وزمالة جنبًا إلى جنب، سأكتبها تباعًا وفاءً لذكرى منصور الصبي الأسمر النبيل وكيف سار إلى النجاح بسرعة الضوء ثم إلى الموت بكل بساطة في وطن كم ظلم أبناءَه العباقرة.

كانت المدارس في عهد الحمدي مثل المساجد تمامًا، وكان الجميع يعملون ويتعلمون وعيونهم على المستقبل. أثناء الحصص، كانت الفصول مثل خلية النحل، والممرات هيبة وهدوء، والجو مدرسي حقيقي، وكل شيء كما يجب أن يكون تمامًا؛ إدارة المدرسة، المعلم، الطلاب، الزي، الراية، الشعور بهيبة المدرسة، الأحلام المستقبلية، الوطن، الثورة؛ ما زالت صورة الشهيد الزبيري تحتل قلوبنا وأرواحنا، كان منصور وأنا أبناء هذي البيئة وهذا المكان الذي يتطلع فيه الجميع للمستقبل، وفجأة رأيناه يتهاوى يوم 11 أكتوبر 1977م، ولم ألتقِ بمنصور مدة عامين دراسيين، اختفى فجأة من مدرستي، كما اختفى الحمدي من حياة اليمنيين في غمضة عين!

كان أول تعارفنا بعد ظهر أحد الأيام من عام 1977م، تقريبًا في الفصل من الصف الثاني بمدرسة الزبيري، وصادفت الحصة (قراءة)، وبما أنني جديد وبمجرد جلوسي طلب المدرس منّي متابعة القراءة بعد منصور، وكان منصور قارئًا ممتازًا، والتفت الصف كله لمتابعة محنتي المبكرة، وكانوا ﻻ يعرفون أني لم أدخل الصف الأول في مدرسة الخليج الأمامي بكريتر إلا وأنا أقرأ وأكتب ففاجأتهم بطريقتي في القراءة وأدهشتهم، ومنذ تلك اللحظة المفعمة أنا ومنصور، ربطت بيننا علاقة لم تنقطع وأكملنا اليوم الدراسي وغادرنا، وكنّا نمر بشكل شبه يومي بشارع العلفي إلى المطراق ثم باب مشرف عائدين إلى دكاكين آبائنا ونثرثر في الطريق ونتكلم في كل شيء، وطارت أرواحنا معنا وانسجمنا كأنّنا عجوزَين كبيرين، وكان يميز منصور، وأنا أخذتها عنه؛ أنه يواصل الكلام بقوله: "ها، ها، ها"، كانت الدنيا جنة، ﻻ نحفل، الدنيا تدور بأهلها أو لا تدور، ولا نهتم بغير صداقتنا المبكرة، وهذا التوافق المبكر، وكان يتميز منصور بأنه هادئ ومسالم، وليس لديه أي عدوانية كأطفال أشقياء، ولم يتأثر بشقاوتي بل أنا من تأثر بمسالمته وطيب أخلاقه. أفتقدك يا منصور، من يوم التقينا إلى يوم غبت عنا. دعوني أبكي عليه فأنا لم أبكه من وقت طويل!

فشل أبي تجاريًّا في الحديدة أو اختلف مع شريكه الدبعي بالدمغة القديمة؛ وغادرها إلى سوق النشمة من أرياف تعز، وأكملت الصف الخامس، وأخذت دراجتي الصغيرة فوق شاحنة قلّاب تحمل الأخشاب، رفقة سائق اسمه السكران، وبعد أطول رحلة سفر، وكانت من أجمل سفرياتي، وصلت النشمة وابتسمت وأبي يلاقيني مبكرًا، ووجدتني ذات صباح أتوجه إلى مدرسة 13 يونيو ملتحقًا بالصف السادس، رفقة أشعة الشمس الذهبية والبرد وزقزقة العصافير وأشجار البن والهواء النقي والأمل الجميل، والله ﻻ أبالغ إذا قلت إنّها كانت الجنة بحذافيرها.

كانت أجمل أوقاتنا بالفصل والحصص المدرسية أو حين نخرج للراحة فنأخذ حاجتنا من (الروتي) والبيض والبسباس الحبشي المملَّح قليلًا وشراب البرتقال الغازيّ كما أسلفت، ونذهب إلى فوق صخرة نعرفها خلف المدرسة، تحت ظل شجرة، ونجلس هناك نصنع سندويتشًا يسيل له اللعاب حتى اليوم، وهناك أشير لمنصور نحو قريتنا الشرف أو جبل مشاعرة وجبل (القلة) الذي يحجب رؤيتنا لبيتنا وأرضنا، ولقد سماه ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان، جبل السواء وبأنه حصن من حصون جبل صبر، وهو يشير إلى قرية "المشاولة" التي تلي قرانا نحو الجنوب.

وأسوأ ما حدث بيننا أنني لم أدعُه يومًا لزيارة قريتنا وﻻ هو دعاني إلى المشاولة القريبة منَّا رغم انتمائنا لمديرية واحدة، كان للأمر علاقة بأعمارنا في الصف السادس التي لم نكن ندرك فيها جوهر العلاقات الإنسانية؛ عادات وتقاليد ومشاعر واحدة وقلوب بيضاء.

كانت السماء ملبدة بالسحب السوداء الممطرة، والجو يتحوَّل إلى غيم وضباب ونحن نكمل سندويتشنا وشرابنا وثرثرتنا وضحكاتنا على أي شيء وكل شيء، وجرس المدرسة يدق معلنًا انتهاء الراحة، وإحدى المباريات التي ﻻ نهتم بها (صفر صفر).

كان الصف السادس هو العام الوحيد الذي درسنا فيه صباحًا في مدرسة 13 يونيو؛ كان صباحًا بكل ما في الكلمة من معنى، وكانت النشمة ما زالت تتثاءب كالريفيات "المقرّمات" باللون الأحمر؛ حاملات الحطب وجالبات الماء بوجوه بيضاء ناعمة، مصبوغات بالهرد الأصفر. كان ريفًا حقيقيًّا! 

أعداد قليلة من الطلاب، وأقل من الطالبات، يتقاطرون مثل أشعة الشمس وحبَّات المطر نحو المدرسة؛ تملأ عقولهم ونفوسهم أحلام وأحلام.

انتقال منصور وأنا من مدينة الحديدة إلى النشمة القريبة من قريتينا نقل مشاعرنا وأحاسيسنا وأعاد صياغتها مع الطبيعة الخضراء والجبال المكسوة خضرة ومروجًا، والروابي والقرى المجاورة والوداعة الريفية والهدوء وسكينة الروح والطقس الحالم المختلف وبساطة الريفيات ونقاوتهن.

كنّا دفعة سادس أعلى دفعة، وعددنا ستة أو سبعة، وكان يحزُّ في نفوسنا أنّنا بلا زميلات، عكس بقية الصفوف كلها.

ولقد أحببنا أو عبّرنا عن إعجابنا بصمت.

كانت طالبات الريف يدرسن جنبًا إلى جنب مع الطلاب، وكان الأمر طبيعيًّا بوجوه مثل ضوء الفجر، و"حازبات بالمصَرّ"، "والسوس اعتجر، ويا ذا الغراب السوادي".

ومن جميل الحياة أن كُنَّا منصور وأنا نشارك أهلنا مواسم الحصاد وجني المحاصيل الزراعية إلى آخر عجورة نجمعها من الأرض؛ كان يوم الفيش وإطلاق جميع المواشي والأبقار والخرفان والضأن والحمير...، وانتشار الناس والنساء والأطفال والكهول والصبيان والشباب، مما يجعل الأمر أشبه بمهرجان الحصاد وكرنفال زراعي ﻻ تستطيع أيَّ ريشة لفنان رسمه أو وصفه، ويشبه هذا اليوم يوم الوداع لا كان لفصل الصيف ودخول الاعتدال الخريفي، وكان البرد قد بدأ وبدأت الطبيعة الخضراء تتخلَّى عن مفاتنها قطعة قطعة، لتستعد لِلَيالي الشتاء القاسية والليل الطويل.

كل ذلك كان يشكّلنا معًا ويزخرف نفوسنا وعقولنا، ومنصور وأنا نتحول إلى كائنات غاية في الرومانسية بطريقة متوحشة تلتهم الكتب ومقررات الصف السادس!

كان منصور يحب المشي إلى المدرسة عبر طريق السيارات، مرورًا ببير الهوت وجوار الشعاب المليئة بأشجار البن، حيث المجمع الحكومي اليوم؛ كان طريقًا ترابيًّا يصل إلى قدس والأحكوم والأعلوم والأحد والجبزية ...

وكنت أحبّ طريقًا مختصرًا يمرّ عبر قرى صغيرة وبيوت متناثرة، أكحل عيني وأملأ قلبي بحسن الملاح، صبايا ومزوجات، وكنت أرى في وجوههن نقاوة مياه الأمطار وطراوة فجر الريف، وبما عليه الحياة من جمال وفنّ وملاحة، وكنّا نجمع بين الطريقين غالبًا.

•••
محيي الدين سعيد

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English