ارتبط التوثيق في اليمن بإسمه

كيف أبصر المثقفون القاضي أبو الرجال؟
زيد الفقيه
February 5, 2023

ارتبط التوثيق في اليمن بإسمه

كيف أبصر المثقفون القاضي أبو الرجال؟
زيد الفقيه
February 5, 2023

منذ اللحظة الأولى لرؤيته تقرُّ له عيناك بالوقار، وتشدُّك إليه ابتسامته وحفاوة استقباله، لم يكن ككلِّ من قابلتهم، يحبّ التفاصيل والأوراق المبعثرة، يلملم شتاتها ويجعل منها أوراقًا ناطقة بما تحتويه من أسرار وأحداث وفرح وحزن، تتحول على يده من قصاصات مبعثرة مرمية في أروقة وزوايا الأماكن تشكو ثقل الغبار الملقى عليها إلى كنوزٍ ثمينة نفيسة لا تقدَّر بثمن، إنّه كالصائغ الذي يحوُّل الصخورَ إلى أحجارٍ كريمةٍ، والتراب إلى ذهبٍ خالصٍ تهفو إليه النفوس، لا يحب الضجيج، لكنه لا يستكين عن التفكير فيما ينفع الوطن والناس.

اطمئنان

حين تقف أمامه تشعر باطمئنانٍ منقطع النظير، تشعر بأنّك أمامَ رجلٍ طوى التاريخ بيمينه، حين تزوره في مكتبه بالمركز الوطني للوثائق برئاسة الجمهورية، لست بحاجة إلى حجز موعدٍ، فقط عليك أن تحزم أمتعتك المعرفية وتذهب إلى مدخل باب مكتب الرئاسة، وهناك يستقبلك بضعة جنود على هذا الباب، يسألك أحدهم: 

- من تريد؟

- القاضي علي أبو الرجال. 

- يمسك الجندي سماعة الهاتف، ويتصل به: السلام عليكم، فلان في الباب يريد الدخول إليكم.

- فقط ترى يد الجندي وهو ماسك سماعة الهاتف يشير لك بالدخول، يقوم جنديّ آخر بالتفتيش.

- حين تدلف إلى البهو، لا يكلف الزمن سوى صعود بضع درجات السلم إلى الدور الثاني، وليس عليك أن تطرق بابَ مكتبه لأنّه مفتوح على مصراعيه أساسًا، حين تجلس أمامه بعد السلام عليه تأخذك رهبة وقاره وجلالة قدره واحترامك له، حينئذٍ لا تستطيع أن تسأله عن نفسه، وعن حياته وأخلاقه ومواقفه، فتعدل عن كل ذلك، لتبحثَ عمّا كتبه الآخرون عنه وهم كثر، لكن سنتخير منهم من ارتبط بالقاضي وعرفه عن قرب.

 توثيق ذاكرة الوطن

- الدكتور عبدالكريم الإرياني، قال عنه: 

إنّني على مدى أربعين عامًا عملت خلالها في الوظيفة العامة، لم أجد زميلًا لي أصدق وأنزه وأكثر إخلاصًا لعمله ومثابرةً وغِيرةً على سلامة أدائه، من أخي القاضي علي بن أبي الرجال، الذي يقف عطاؤه شاهدًا راسخًا يخلد اسمه وقدرته على الإنجاز ودقّته في حسن الأداء، ويشهد على ذلك عمله الحالي في تدوين وتوثيق ذاكرة الوطن، في المركز الوطني للوثائق، ولست مبالغًا إذا قلت صادقًا إنّني لا أعتقد أنّ أحدًا أكفأ وأقدر وأخلص من القاضي علي، في حشد وحصر وتصنيف ذاكرة الوطن اليمني منذ بداية الحكم العثماني في منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، لمدة تزيد على مئة وخمسين عامًا.

حسٌّ أدبيّ وتاريخيّ مبكر

أمّا الدكتور حسين عبدالله العمري، فيرى أنّ للحسّ الأدبي والتاريخي المبكر عند القاضي علي أبو الرجال دافعًا للقراءة في مختلف فروع المعرفة منخرطًا في مجالس العلم والأدب والسياسة قبل الثورة وبعدها، وكوَّنَ لنفسه مكتبةً نفيسة ضمَّت الكثيرَ من كتب الأدب والفقه والتاريخ، بل وجمع بعض المخطوطات من دواوين الشعر الحميني البديع وغيره، وكان من اهتماماته المبكرة قراءة الصحف والمجلات اليمنية والعربية وأرشفتها، ومن ذلك -على سبيل المثال- صحيفة "الإيمان" "وفتاة الجزيرة"، واحتفاظه بأعداد من مجلة "الحكمة اليمانية" التي أصدرها فيما بعد مع أخينا الأستاذ الدكتور جمال الدين سيد مصطفى سالم، فكان لدراستها وإخراجها إلى النور عام 1976م، مفاجأة علمية وأدبية سارّة.

"الفضيلة لا تهبط وحيًا"

أمّا الأستاذ محمد عبدالسلام منصور، فيحمل القارئ مع نسائم صيف عاطرة تُبشّرُ بميلاد الطفل علي بن أحمد أبي الرجال في الـ19 من يوليو لعام 1932م، فأشرقت بمولده فرحة البيوت المتراصّة في حي "شكر"، أحد الأحياء الغربية من مدينة صنعاء القديمة، استبشرت المدينة بمولده الجديد أملًا في أن يكون واحدًا من مُحبِّي نهوض هذا البلد الظالم أهله منذ أن أضاعوا جنّتهم وتفرّقت أياديهم، وأشار منصور في مدخله للحديث عن فضائل القاضي علي إلى أنّ الفضيلة لا تهبط علينا وحيًا من مفاهيم الفلسفة أو مواعظ الدعاة والنسّاك، قدر ما أنّها نبع دافق من الوجدان يصدر عن نزوع كامن في الضمير، يقصد تجاوز نقائص الذات العاقلة سعيًا إلى اكتمال جوهرها الإنسانيّ، وقد ولّدت الفضيلة مع الإنسان مطلبًا مجتمعيًّا وأداءً فرديًّا مثّله القاضي علي؛ الأمر الذي كرّس وطوَّر نوازعه الحضارية المعاصرة، فتربَّت روحه على حبّ الجمال والفنّ ثم انغمست في حُبّ النّاس بمختلف اتجاهاتهم، ولهذا الحبّ تحديدًا أهميته الإنسانية الكبرى، بخاصةٍ في مجتمعٍ يشهد تاريخه أنّ الاستبداد بشتى صوره قد عمل على أنّ يسمم وعي أبنائه بنعرات التفرقة السلالية والقَبَليّة والمذهبيّة والجغرافيّة.

خلاصة يمنيّة نادرة

أمّا الأستاذ خالد الرويشان، فيقول: هو خُلاصةٌ من خلاصات اليمن النادرة، وشُرفةٌ من شُرُفات صنعاء المضيئة السامقة. تلقّاه فتلقّى اليمن كُلَّهْ... صَبْر جباله، بساطة وديانه، عزائم إنسانه... هذا الرجل ابنٌ بارٌّ لمدرسةٍ وطنيةٍ مغمورة تَعتبرُ الإنجاز الإداريّ والتنمويّ المهمّةَ المقدّسة في الحياة، والهدف النهائيّ للعمل العام. وهي مغمورةٌ لا أحد يتَعصَّبُ لها؛ لأنّها تعتبر الوطن حزبها، والنزاهة مذهبها والإتقان ديدنها، والإخلاص عقيدتها مثل جواهرَ مطمورة كثيرة في حياتنا، فالقاضي علي خُلاصة تاريخ، وتجربة إدارية ممتدة من أيام الإمام يحيى وحتى اليوم.

موسوعة أدبيّة وتاريخيّة 

مطهر تقي، يتحدّث عن القاضي، بالقول: إنّ والدي القاضي علي أبو الرجال موسوعةٌ أدبية وتاريخية واجتماعية نادرة، حتى شكله وملبسه متميز عن غيره، أستفيد من معارفه وعلمه وتجاربه وخبرته المتعدّدة حتى في مجال الموسيقى اليمنية المتميزة، وكذلك الطبّ فمكتبته الزاخرة بمختلف الكتب تضمّ كذلك تسجيلات موسيقية يمنية نادرة وحتى تسجيلات لأشهر الألحان العالمية، مثل مقطوعة الناي المسحور للموسيقار الشهير موزارت وتشوفسكي وبيتهوفن، فهو غير كلّ الرجال في مختلف أوجه حياته، فهو يقدّر الناس حقّ قدرهم ويعطي المرأة مكانة رفيعة من اهتمامه وتشجيعه، ويتعامل مع الماضي بكلِّ احترام، وهو في نفس الوقت حضاريّ في تعامله مع العصر متفائل في نظرته للمستقبل، كما أنّه قد ترك بصمةً واضحةً في عمله، سواء من الناحية التنظيمية للوائح والأنظمة وتنظيم الأرشيف، أو ترتيب سير العمل، بل إنّه يعوِّد موظفيه على احترام مواعيد العمل والدقَّة في الأداء.

اطّلاع وإلمام كبير

محمد محمد العرشي، أناخ لباب قلمه، وبسط القول عن القاضي علي بن أحمد أبو الرجال في حقول كثيرة، نتخير لكم بعض ما قاله عنه في الجانب التوثيقي، يقول: 

إنّ الكثير من المستشرقين المهتمين بتاريخ اليمن وعلومها وحياتها الاجتماعية والسياسية، يرجعون إلى القاضي علي أبو الرجال باعتبار أنّ المركز الوطني للوثائق يحوي الكثير من المعلومات التي يحتاجها المستشرقون، ولا سيما أنّ القاضي علي لديه اطّلاعٌ وإلمام بكافة الموضوعات التي يحتفظ بها المركز الوطني للوثائق، وهو أحد الخبراء العرب المتخصصين بالوثائق والتوثيق، وبالتالي لا غرابة أنّ الكثير من فئات المجتمع اليمنيّ يطلقون على القاضي علي لقب (الوثائقيّ)، وأول من أطلق عليه هذا اللقب هو المؤرخ الأستاذ الدكتور/ سيد مصطفى سالم، ولم يكن هذا اللقب نابع من فراغ، لكنه من خلال ما وجد لديه من كنوز الوثائق النادرة كهواية شخصية لا تتبع أحدًا ولا تخضع لسلطة أحد، ولكنها كانت جزءًا من شخصية القاضي، وهذا ما دفع الدولة لتأسيس المركز الوطني للوثائق برئاسته، ومِن ثمَّ انطلق مع فريق عمله بالمركز إلى جمعها من كافة الجهات الحكومية، وقد وجدها في حالة يرثى لها من الإهمال ومعظمها معرض للرياح والشمس والغبار ومدثرة بأطنان من الأتربة غير متوفر لها أدنى حدٍّ من المواصفات لحفظها، وكانت معظمها مخبّأة في شوالات وأكياس في العاصمة وبقية المحافظات وكأنّها أكوام لا حياة لها فيها، وذلك يرجع لعدم الوعي بالتوثيق والوثائق، إلّا أنّه وفريقه قاموا بفرزها وترميمها وأرشفتها حتى أصبح المركز من أهم الأرشيفات في الشرق الأوسط. 

سلفة الإنسان

للقاضي علي أبو الرجال مع كاتب هذه الأسطر، موقفٌ إنسانيٌّ لا يمكن نسيانه، ففي عام 2001م، تلقّت المؤسسات المكتبية في اليمن دعوة لحضور المؤتمر العالمي للمكتبات في الإمارات العربية، وكان من بين هذه المؤسسات دار الكتب الوطنية، والمركز الوطني للوثائق وجامعة صنعاء، ومكتبة عدن، وبعد أن وصلت لنا التذاكر من الإماراتيّين بدأنا نجهز للسفر ومعاملة بدل السفر في وزارة المالية، إلّا أنّ بدل سفري تأخر بسبب مماطلة وزارة المالية وبيروقراطية المعاملات، فقررت عدم السفر لأنّ الإمارات غالية الكلفة، وليس لديّ حتى دولار واحد في جيبي، فاتصل بي نائب رئيس المركز الأخ علي طواف لتأكيد موعد السفر فأخبرته بالأمر، وإذا به يكلم القاضي علي بالموضوع، فقال القاضي لا يؤجّل السفر وأنا سأعطيه جزءًا من بدل السفر حتى يعود ويورده لصندوق المركز، فأخبرني الأخ علي طواف، وقال إنّ القاضي وجّهنا بعدم تأجيل سفرك، وهو سيتكفل بسلفتك المبلغ الذي تحتاجه، فقلت أحتاج (300) دولار للطوارئ، فأمر القاضي بصرفها لي وتم السفر وحضرت المؤتمر، بعد عودتي من المؤتمر أتممت معاملة بدل السفر واستلمته، وذهبت إلى المركز لتوريد المبلغ، فرفض القاضي أخذه، وبعد يمين مغلظة مني بسداده، قال القاضي: خلاص تبرئة ليمينك خذوا منة (100) دولار.

•••
زيد الفقيه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English