يمنيون سلبتهم الحربُ أطرافهم

أوزارٌ من عبثية الحرب
مبارك اليوسفي
February 26, 2022

يمنيون سلبتهم الحربُ أطرافهم

أوزارٌ من عبثية الحرب
مبارك اليوسفي
February 26, 2022

"تخيل أن تفقد إحدى ساقيك وأنت في ذروة شبابك!"، بهذا الاستفهام الفرَضي يبدأ الشاب اليمني ماجد سعيد (23 سنة)، حديثه لـ"خيوط". يجيب بنفسه: "ستفقد كل شيء، وتصبح مجرد جسدٍ مرمي هناك في زاوية المكان؛ لن يكترث أحدٌ لأمرك". 

قبل ثلاث سنوات، كان ماجد يستهل بدايةَ العشرينيات من عمره، بعد انتهائه من تعليمه الثانوي، حالمًا بالانتقال من قريته الصغيرة في مديرية موزع (جنوب غربي تعز) إلى إحدى المدن، من أجل البدء في دراسته الجامعية؛ لولا أن لغمًا أرضيًّا اغتال حلمه وجعل حياته جحيمًا، كما يقول.

بعد الكشف في المستشفى عن ساقه المهشّمة من أثر انفجار اللغم، بدا للأطباء أن بقاءها قد يسبب له مضاعفات صحية خطيرة، لذا لجؤُوا إلى بترها. بحسرة شديدة، يقول ماجد إن تلك الإصابة تسببت بإيقاف حياته تمامًا، ولم يعد باستطاعته فعل شيء؛ حتى الاعتناء بنفسه صار يتطلّب وجود شخص لمساعدته. 

يصف ماجد السنوات الثلاث التي قضاها مقعدًا، بأنها الأصعب في حياته، إذْ لم يكن يتوقع يومًا أنه سيفقد ساقه ويجلس في المنزل طريح الفراش، ويرى أصدقاءه يلعبون كرة القدم دون أن يكون قادرًا على مشاركتهم، وهو الذي لم يغب عن اللعب معهم منذ سنوات.

فاعلون كُثُر 

لم يكن قد مرَّ عامٌ على نزوح مطيع سيف (32 سنة)، من شارع الأربعين _شمالي غرب مدينة تعز_ إلى حيٍ قريب هُناك حتى بداية عام 2020، وأثناء عودته إلى المنزل أصابته قذيفة قادمة من موقعٍ تسيطر عليه جماعة أنصار الله (الحوثيين)، ما أدى إلى فقدانه لساقيه، بالإضافة إلى إصابات في أحشائه وبعض أعضائه الحيوية كالرئة والعمود الفقري؛ الأمر الذي سبب له شللًا كليًّا في طرفيه السفليين، جعله قعيد الفراش.

رغم ما أحدثته القذيفة "الطائشة" من مشاكل صحية كثيرة داخل أحشاء مطيع، إلا أن فقدانه لساقيه، كان بالنسبة له أشد وجعًا وأكثر تأثيرًا على حياته، حد قوله.

غداة الإصابة، كان مطيع في المستوى الثالث في كلية الحقوق بجامعة تعز، وبسببها لم يعد يستطيع مواصلة دراسته. يفصح لـ"خيوط" بنبرة حزينة: "أريد مواصلة دراستي، لكن ماذا تتوقع من شخص معاق عن الحركة؛ لن يستطيع الوصول إلى الجامعة، والحركة بكل راحة".

يَعوْلُ مطيعُ طفلين لم يعدْ باستطاعته العمل من أجل جلب كل ما يريدانه، بعد أن أصبح مكبل الحركة في المنزل، فوق ذلك، فهو ملزم بدفع مصاريف علاجية بشكل مستمر، ودفع إيجار السكن. يقول إن هناك صعوبات أخرى مرتبطة بنقله من المنزل إلى مراكز العلاج؛ فهو بحاجة مستمرة إلى زيارة الطبيب، ومن الضروري وجود مرافِق يقوم بحمله من المنزل إلى الطبيب.

يذكر مطيع أنه لم يستطع تقبُّل وضعه الجديد أو التأقلم معه، وأكثر ما يثير ألمه، فكرةُ أن تكون بكامل صحتك ولديك حلمٌ كبير، وفجأة تصبح مقعدًا لا تستطيع الحركة؛ باتت كل أحلامك سرابًا.

أسباب الإعاقة لا تأتي دائمًا من مرمى القدم؛ قد تأتي أيضًا من الأعلى، من غارات طائرات "التحالف"، كما هو الحال مع محمد المطري، الذي فقد ذراعه الأيسر، خلال غارة جوية استهدفت حي عطان (جنوب غرب صنعاء)، مطلع عام 2016.

 يذكر أن الطيران نفّذ أكثر من ثلاث غارات على الحي، كانت إحداها قريبة جدًّا من منزله الذي تحول زجاج نوافذه إلى شظايا متطايرة، أصابت إحداها ذراعه الذي استفحلت إصابته إلى الحد الذي عجز معه الأطباء احتواء الضرر، فتقرر بتره، حسب المطري لـ"خيوط". 

يضيف أنه ظل يعاني كثيرًا من الألم بسبب الإصابة؛ ذلك لأن نوع الشظايا كانت تحتوي على مواد كيميائية مستخدمة في صناعة الصواريخ حسب ما أخبره الأطباء، وهو السبب الذي جعل مدة علاجه تمتد لفترة طويلة.

العلاجات الجسدية قد لا يكون لها أي فائدة في حال لم يتم دعم المصاب نفسيًّا؛ لذا فإعادة تأهيلهم نفسيًّا مهمٌّ جدًّا، من أجل مساعدتهم على التعافي وتقبل الوضع.

ندوب لا تندمل 

بعيدًا عما خلفته تلك القذيفة "الطائشة" من إعاقة وتشوهات بدنية لمطيع، ثمة ندوبٌ نفسية يعاني منها وتكاد لا تندمل؛ حتى اللحظة ما يزال يتذكر تفاصيل الحادثة التي غيرت حياته كليًّا، ويشعر في بعض الأحيان ألّا فائدة من وجوده، فشعوره بالإعاقة قاسٍ إلى الحد الذي صارت، بالنسبة إليه، فقدان الحياة بشكلٍ عام.

في الطرف الآخر، يشعر ماجد سعيد بغصة كبيرة نتيجة فقدانه أحد أطرافه، ويؤكد أن حالته النفسية لم تعد كما كانت من ذي قبل، وأنه تراجع عن أشياء كثيرة كان يخطط لها، كما يعتبر أن فقدان إحدى أطرافه لا تقل أهمية أيضًا من فقدانه لحياته بشكل عام.

في ذات الصدد، يقول أستاذ الطب النفسي بجامعة صنعاء، د.محمد حزام المقرمي، في حديثه لـ"خيوط"، إن كثيرًا من الأشخاص الذين فقدوا أطرافهم بسبب الحرب بحاجة إلى تأهيل نفسي قبل كل شيء، ذلك أن تقبُّل شخص ما للإعاقة التي حدثت له تكون صعبة بشكل كبير، كما أن العلاجات الجسدية قد لا يكون لها أي فائدة في حال لم يتم دعم المصاب نفسيًّا؛ لذا فإعادة تأهيلهم نفسيًّا مهمٌّ جدًّا، من أجل مساعدتهم على التعافي وتقبل الوضع.  

لا توجد إحصائية مؤكدة عن عدد الألغام التي تمت زراعتها في بعض المناطق التي كانت ميدان صراع بين الأطراف المتحاربة، إلا أن منظمة الأمم المتحدة تُحمِّل جماعة أنصار الله (الحوثيين) المسؤولية الكاملة عن حياة المدنيين من ضحايا الألغام

ما خلّفته الحرب! 

تشير الإحصائيات، إلى وجود أكثر من ستة آلاف شخص من المدنيين الذين فقدوا أطرافهم بسبب الحرب في اليمن، أغلبهم بسبب انفجار أو لغم أو طلقة نارية حسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وأغلبهم يعيشون حالة صحية سيئة، بالإضافة إلى أوضاع كثير منهم الاقتصادية المزرية التي تقف أمام عافيتهم.

وعمدت أطراف النزاع إلى زراعة مناطق واسعة في مختلف مناطق البلاد بالألغام الأرضية، تسببت بإعاقات لآلاف المواطنين، بالإضافة إلى إزهاق أرواح آخرين، وكان فريق الخبراء البارزين (GEE) قد وثّق حتى نهاية عام 2019 نحو 728 طفلًا من ضحايا الألغام في مناطق مختلفة من محافظة تعز، بينهم نحو 579 جريجًا؛ فقدوا أعضاءً جسدية. 

كما ذكرت منظمة أوكسفام، أن الألغام في تعز تسببت بإعاقة 1040 شخصًا بين عامي 2015 و2019. ولا توجد إحصائية مؤكدة عن عدد الألغام التي تمت زراعتها في بعض المناطق التي كانت ميدان صراع بين الأطراف المتحاربة، إلا أن منظمة الأمم المتحدة تُحمِّل جماعة أنصار الله (الحوثيين) المسؤولية الكاملة عن حياة المدنيين من ضحايا الألغام، باعتبارها المسؤول عن زراعة معظم المناطق بالألغام الأرضية. 

وناقشت دراسة سابقة صدرت عن "منظمة مواطنة لحقوق الإنسان"، مطلع العام الماضي، بعنوان "صناعة الجوع"، أن جماعة أنصار الله (الحوثيين)، زرعت الكثير من الألغام الأرضية في مناطق مختلفة من بينها محافظة تعز، وتسببت بإعاقة حركة المواطنين. وأشارت الدراسة ذاتها إلى أن "القوات المشتركة" في الساحل الغربي (مدعومة من الإمارات) لم تقم بنزع الألغام من تلك المناطق منذ سيطرتها على المنطقة في عام 2017، وهو ما يجعل المواطنين هناك أمام خطر على الدوام.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English