الصراع الطبقي بين آلهة الأرض وآلهة السماء

قراءة في كتاب "ديانة اليمن السرية" لأحمد العرامي
محمد عبدالوكيل جازم
September 10, 2020

الصراع الطبقي بين آلهة الأرض وآلهة السماء

قراءة في كتاب "ديانة اليمن السرية" لأحمد العرامي
محمد عبدالوكيل جازم
September 10, 2020

مدخل

كلما ارتفع منسوب الرعب الحربي في أي بلد، احتاجت الذاكرة إلى نقطة البدايات للبحث عن زوايا وأحداث يمكنها أن تفسر النقطة التي تم الوصول إليها، وبالتالي معرفة: كيف تجسد التاريخ في الذهن البشري؟ وما هي مآلات التحولات التي استجدت؟ وكيف تعامل الإنسان مع الحداثة التي كان يتوصل إليها؟ ثم ما سبب حدوث الشروخ والانتكاسات؟ كل ذلك بعيدًا عن التاريخ المدون والرسمي، المدموغ في بطون الكتب.

والحق فقد ألصقت بالتاريخ اليمني الكثير من الحكايات والأساطير غير المسبوقة في تواريخ وقراءات أخرى، وظل اليمن لقرون طويلة منجم الروايات ونبيذ الذاكرة، ويمكنني القول إن الكتاب الذي بين أيدينا "ديانة اليمن السرية"، الذي أزعم أنني سأقوم بعرضه، يعد رائدًا في انحيازه للإنسان اليمني، للإنسان في كل مكان، رائدًا في لغته ونسقه الفكري، والبحثي وتفاعله مع الأرض بحميمية، أقول: إنه لو تمت قراءته بجدية سيكتشف القارئ أنه أمام عمل فريد من نوعه، سيعمل على تحريك الركود الثقافي في الأدب الشعبي، وتجديد معالم تم استنطاقها بصبر؛ نحن هنا أمام نشاط مختلف.

 وأضيف أن مثل هذه الأعمال تدفع بالوعي الوطني إلى التفكير بنسق متحرر عن السابق، ويعني فيما يعنيه تحرير العقل والوجدان من الهيمنة التي تفرضها الحلقات العقائدية والسياسية المفرغة من الطاقة الفاعلة؛ وبالتالي فإننا بهذا الاشتغال نذهب إلى الخروج من سلطة الثقافة الرسمية التي ذكرها المؤلف في عشرينيات القرن المنصرم؛ إلى أفنية رحيبة؛ فالبحث أعاد تقييم التجربة متجاوزًا عموم المعطى؛ لأنه في الأخير يجب ألا يفوتنا الجانب الرمزي والتوظيف الجمالي للميثولوجيا، سواء بالرؤى المقنعة أو الرؤى الظاهرة أمامنا.

إرث الذاكرة المقدسة

  كتاب "ديانة اليمن السرية؛ ألوهية الحكيم الفلاح في الموروث الشعبي"، لأحمد العرامي، الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة- 2019، يعمل على الغوص في المعرفة الروحية من أجل الاقتراب من التكوين الفاعل في مجال التساؤلات التي يطرحها، ومبدأ الارتكاز الذي ينطلق منه الكتاب، يقوم في بنيته على أحد المصادر المهمة التي لم تعطَ حقها من قبل، وهي الذاكرة الشفهية للإنسان الحق الذي ظهر على هذه الأرض، معتمدًا على انفتاحه الحر على الممارسة والتجريب. وهذه من وجهة نظرنا من أهم الأسئلة التي تطرح مسألة التكوين، والخطوات التي يعول عليها في التأسيس لحقل دراسي جديد يقوم على نبش الذاكرة وإنعاشها والمساهمة في رعرعة خبراتها ومعارفها، ولكن ما قصة "الديانة السرية" لليمن قبل الإسلام؟ وهل كانت هناك ديانة سرية حقًّا؟ ماذا عن المسيحية واليهودية وآلهة السماء المضيئة؟ لعل التاريخ الرسمي مع دخول الإسلام أراد طمس الكثير من الديانات التي رأى فيها المتدينون عيبًا لا يجوز الإبقاء عليه أمام هالة الدين الإسلامي الجديد، ونصوصه الفوقية، وهي رؤية بدائية سحقت الكثير من جوانب التاريخ المشرق لليمن في تلك الحقبة.

 يكشف الباحث عن أن التحول الذي حدث مع دخول الإسلام إلى اليمن لم يمنع بقاء ظواهر لغوية تداخلت مع اللغة العربية الفصحى التي أنتجتها المرحلة الجديدة، بعد أن كان خط المسند هو الذاكرة الرائجة لحفظ الموروث؛ على أن الظواهر اللغوية القديمة التي اندمجت مع اللغة العربية احتفظت بمكانتها في اللهجات الدارجة، وظلت اللغة العربية نخبوية، والدليل على ذلك أن الكثير من القبائل اليمنية التي رافقت ذلك العصر احتفظت بلغاتها الأصلية التي نشأت وتشكلت معها منذ الفترة التي سبقت الإسلام، بل إن هناك قبائل ما زالت حتى اليوم تتحدث بلغاتها الأصلية، مثل قبائل المهرة، وجزيرة سقطرى.

يشير الكتاب إلى إن هذا التوارث تجلّى في أنماط، وأشكال كثيرة اجتماعية واقتصادية وتقاليد وخبرات حياتية، وأبرزها التقاليد الزراعية المرتبطة بالعمل والإنتاج؛ الذي أعقبه إنتاج ثقافي وأدبي. 

يريد الدارس التأكيد على أن هناك ظاهرة أدبية زراعية ما تزال حيّة شفاهة في اليمن، وعند تسليط الضوء عليها، وُجد أنها تشبه نصوصًا وآدابًا قديمة، مثل "الأعمال والأيام" لليوناني "هزيود" (750 ق.م). 

في ذلك الزمن لم يكن الأدب منفصلًا عن الدين، وأبرز ظواهر هذا الأدب الزراعي في الثقافة الشفهية، تمثلت في أسطورة "الحكيم الفلاح"؛ أو ما يطلق عليهم في اليمن حكماء الزراعة، أمثال: "علي ولد زايد" و"الحُميد بن منصور" و"شَرْقَة بن أحمد" و"أبو عامر" و"حزام الشبثي" و"سعد السويني"، هؤلاء ظهروا على امتداد الأرض اليمنية. هنا يطرح الدارس فرضية بحثه، أي أنهم قد يكونون ظلالًا لشخصيات آلهة، أو أنصاف آلهة- أنبياء أسطوريين ذوي اختصاص زراعي، وطابع قومي إقليمي (شعب، قبيلة، إقليم)، وربما أنهم ضمن هذا الإطار آلهة وأنبياء أنتجوا مقولات أخذت بعدًا دينيًّا مع مرور الزمن الشفهي؛ إلا أن الباحث يؤكد على أن الدراسة ليس لها علاقة بالدين، ولا التاريخ؛ ولكنها أدبية فكرية تهتم بالنص الشفهي. 

إن هدف الفرضية بوجه عام هو قراءة التاريخ من وجهة نظر الشعب، والفلاحين تحديدًا؛ لأنهم الأكثر ارتباطًا بالأرض، وهؤلاء هم الذين صنعوا التاريخ وبنوا الدهشة الحضارية، وليس الأمراء أو الحكام والملوك؛ إن الشعب وحده من صنع آلهته، وهذه الآلهة مرتبطة بحاجة الإنسان، التي تموضعت على ظهر الجغرافيا والخيال، خيالهم طورها لتصبح ترانيم عشقية مبكرة أخذت طابع القدسية المرتبطة بالأرض والإنسان. ويمكننا أن نضيف أن البحث يتحدث عن صراع طبقي بين شريحتين: شريحة المزارعين والفلاحين والعمال الذين يمثلون الأغلبية، وهم بمعنى أو بآخر آلهة الأرض من جهة، ومن جهة أخرى، شريحة الإقطاعية الحاكمة والمستغلة لهذا الجهد، وهم الذين يدّعون بأنهم أبناء الله وظله على الأرض.

يتحدث الكتاب إذن عن الهامش الذي ظلّ بعيدًا ومُقصًى بسلطة الأمر الواقع دائمًا ولقرون طويلة، ويكشف عن أهمية هذا النص كونه يمثل الثقافة المتحررة، ثقافة القرية التي تكوّنت المدينة من انسيابها، وهنا تكوّن النص المقدس ليمثل المدينة؛ ما يعني أن النص الشعبي الذي نحن بصدده هو الأكثر قربًا إلى الحياة والاستقرار، وليس النص المدني المرتبط بالدين والتشريع الإلهي.

تعدد الأسماء الشعرية يدل على أن ظاهرة الحكيم الفلّاح شائعة في اليمن، وقد تكون حقًّا امتدادًا لملاحم زراعية أدبية أسطورية أُلوهية، عُرفت قديمًا بحسب قوة القبيلة وعلو شأنها ونزوعها نحو التفرد والمغايرة

وشائج نصية

إن الأهمية القصوى للدراسة تكمن في أنها ألغت العاطفة، واتخذت من المنهج العلمي المادي الجدلي طريقة للكشف، وهو المنهج الذي يفسر حركة التاريخ داخل المجتمعات البشرية ويوثق لسمات تطورها، كما يقول "ماركس"، بالإضافة إلى أنها ركزت على المفهوم العملي لمفهوم الثقافة الشعبية التي تعني «الأدب الذي يعبر عن مشاعر الشعب وأحاسيسه؛ فالأدب الشعبي إذن هو الأدب الذي يصدره الشعب؛ فيعبر عن وجدانه ويمثل تفكيره ويعكس تفكيره ومستوياته الحضارية»(1).

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول: الأول ظاهرة الفلاح في الثقافة الشعبية "ملاحم تفككت وأنبياء تنكروا"، وقد جاء عنوان الفصل الأول متبوعًا بعنوان جانبي: مقاربة أولية لـ"أدب شعبي يمني ما قبل إسلامي"؛ حيث أشار إلى أن فقهاء العقد الثاني من القرن العشرين، أثاروا تساؤلًا حول الحكيم "علي ولد زايد" فيما إذا كان جاهليًّا أم إسلاميًّا؟ وعلى الرغم من طرافة التساؤل إلا أن أهميته تكمن في أن الفلاحين كانوا حين يختلفون حول أمورهم الزراعية والحياتية، يحتكمون إلى أقوال الحكيم "علي ولد زايد"، وكأنه نص أكثر قدسية ومشروعية من النص القرآني، ومن الأمثلة على ذلك هذا المثل الذي ضربه الشاعر الكبير "عبدالله البردّوني" لتدعيم هذا الرأي، يقول علي ولد زايد:

«يا غارتاه يا الثّريا

معالم الصيف زلّت»

 ينادي الحكيم هنا الثّريا، وهو نجم مرتبط بالزراعة، يستنجد به نظرًا لغياب المطر الذي يسقي الزرع؛ لأن وجوده يعني الخصب والنماء. فلو أن "علي ولد زايد" ظهر في عصر الإسلام لقال: يا غارتاه يا إلهي، وفي ذلك إشارة يمكن البناء عليها؛ لأن الثريا، والنجوم والكواكب كانت من آلهة اليمنيين قبل الإسلام، وليسمح لي القارئ هنا الاستهداء برأي د. "حسين نصار" حول أهمية الأدب الشعري اليمني قبل الإسلام، يقول: «فقد وهب اليمنيون الفنون الشعبية أدبًا رائعًا خالدًا، كانوا يتحلون به في كل موطن حلّوا به قبل الإسلام وبعده، وبقي عندنا من هذا الأدب الشعبي اليمني ثمرتان؛ الأُولى منهما ما رواه عبيد بن شرية الجرهمي لمعاوية بن أبي سفيان، في مجالسه الليلية واستولى منه على اللب، فأمر كتبته بتدوينه؛ فدوّن ووصل إلينا حاملًا عنوان أخبار عبيد بن شرية، والثمرة الثانية ما رواه وهب بن منبه، ودوّنه ابن هشام صاحب السيرة النبوية، والكتابان ملحمتان رائعتان»(2).

يناقش هذا الفصل كيف أن فقهاء المملكة المتوكلية اليمنية، وجدوا أنفسهم في حالة صراع مع المزارعين الذين يعلون من شأن الحكيم "علي ولد زايد"، في مقابل المنظومة الحاكمة التي ترى بأن في ذلك "طاغوتًا" وجهلًا وتبعية للفكر الجاهلي الذي سبق الإسلام. قامت حرب عشواء، شنّها الفقهاء الذين يمثلون النظام، ضد المزارعين الذين يمثلون الأرض والزرع؛ لأن الفقهاء -حسب الشاعر البردّوني- كانوا يطمعون إلى تثبيت أركان النظام الإمامي بداية توليهم للحكم، عقب طرد الاحتلال التركي، الذي رحل من اليمن بعد هزيمته، في الحرب العالمية الأولى 1918.

 إن الحرب التي شنّها أركان النظام على فلاحيّ المناطق الشمالية التي قدست ظاهرة "علي ولد زايد" امتدت إلى فلاحي المناطق الجنوبية والوسط والغرب التي هي أيضًا - تعلي من شأن حكيم آخر يضاهي "ولد زايد" في الشمال، وهو الحكيم "الحميد بن منصور". إن هذا الصدام غير المشروع أراد أن ينازع أصحاب العمل، والأرض، وأبناء التراب حقهم في اختيار طقوسهم وأنماط حياتهم؛ لأن كل ذلك متعلق بقيم المجتمع الزراعي، وهي قيم أخلاقية مرتبطة بأعمال الزراعة والسفر والري والرعي، ويورد الكتاب -أيضًا- أشعارًا للحكيم "حزام الشبثي" الذي اشتُهر في رقعة محددة من رداع، وكذلك "أبو عامر" و"شرقة" و"سعد السويني".

إن تعدد الأسماء الشعرية يدل على أن ظاهرة الحكيم الفلّاح شائعة في اليمن، وقد تكون حقًّا امتدادًا لملاحم زراعية أدبية أسطورية أُلوهية، عُرفت قديمًا بحسب قوة القبيلة وعلو شأنها ونزوعها نحو التفرد والمغايرة.

الانفتاح الحر على النصوص

يقرأ الفصل الثاني التناص بين أحكام "علي ولد زايد" و"الحميد بن منصور"، والشاعر الشعبي الإغريقي "هزيود" صاحب ملحمة "الأعمال والأيام"؛ فإذا كان مفهوم الثقافة الشعبية -كما هو عليه حسب "توني منيت"- عديم الفائدة، فهو وعاء لصهر معانٍ مشوشة ومتناقضة؛ قادرة على إساءة توجيه البحث في أي عدد من المسارات النظرية العمياء(3).

إذا كان الأمر كذلك؛ فإن المسار الذي اختاره الباحث –من خلال حشد الأقوال والأحكام والمتطابقات والنصوص– يدل على أن البحث ينأى باتجاه الانفتاح الحر على المعرفة والبرغماتية القابلة للتحقق، بالإضافة إلى قدرة البحث على طرح نظرية التجريب كإقرار باعث على التأسيس في آفاق وحقول جديدة. يقول الباحث: «وسوف أدرس في هذا الفصل الأقوالَ الشعرية الحكميّة، بحثًا عن ملامح ملحمية مفترضةٍ، تقف خلف هذه النصوص المفككة» ص150، وهو ما يشير إلى اكتشاف الجماليات الشعبية؛ التي تقدر الأهمية القصوى لمنتوج الفلاحين في الوسط الزراعي، والجميل في الأمر أن الباحث، وهو يقرأ التناص بين "علي ولد زايد" و"الحميد بن منصور"، يفترض أن تكون هاتان الشخصيتان امتدادًا لشخصيات أخرى؛ أو شخصيات في أقطار عربية أخرى؛ أو في أقطار بعيدة، مثل اليونان، التي اشتُهرت بالحكيم "هزيود"hesiod ، وهو شاعر شبيه بـ"هومريوس" المعادل الموضوعي له، كما تقول المرويات، يختلف عن "هومريوس" شاعر البطولات والحرب؛ فـ"هزيود" شاعر سلام واستقرار.

المقاربة بين الحكيمين علي ولد زايد والحميد بن منصور، أفضت إلى مقاربة أكثر أهمية، وهي ظاهرة الحكيم "هزيود" الإغريقي؛ حيث اتضح للباحث مدى التشابه العميق بين الفضاءات الثلاثة.

 وجد الباحث أيضًا، التناص يطل من بين أسطر الحكماء الثلاثة بوضوح، كما وجد أن ثلاثتهم لا يُعرف لهم تاريخ مولد، أو مكان نشأة محدد، وما يقال عن وجود ذلك ليس سوى تخمينات، فلا مصدر سوى أشعارهم هذه، وغير ذلك يتضح في قصيدة "الأعمال والأيام" لـ"هزيود"، ويتضح من قراءة ديوانه أنه كان في مقام النبيّ؛ بل أقرب إلى أنبياء التوراة، ومثل حكمائنا، يقول "هزيود" حِكَمًا أخلاقية ونصائحَ اجتماعية، من ذلك:

«ربات الفنون المقيمات عند الينبوع المقدس بييريا

أنتن يا من تهبن المجد من خلال الغناء

هلم وترنمن بمديح زيوس وتغنين بأبيكن العظيم

الذي إليه سيكون البشر الفانون

معروفين أو مغمورين ذوي شهرة أو بغير اسم

وذلك حسب ما تمضي إرادته» ص189

والمعروف إن حكماءنا يعتمدون في أشعارهم على النصح والإرشاد، وتتعدد مواضيع أشعارهم؛ لكنها تلتقي في مواضيعها مع اهتمامات "هزيود" ومواضيعه؛ ومن ذلك شكوى حكمائنا مثلًا من تقلبات الزمن:

«يقــــــــــــــــــــول علي وِلْــــــــد زايــــــــد

يا حــيــرتي من زمــــــــــــــــــــانــــــــــي

أمنت من حيث ما أخـاف

وخفت من حيـــــث أمـــــاني»

وهذا المقطع يقابله قول "هزيود":

«ليتني لم أكن بين رجال الجيل الخامس، بل ليتني

متُّ قبله أو ولدتُ بعده. فالسلالة التي توجد

الآن هي حقًّا سلالة حديدية، ولا راحة لأحد

فيها من الأسى والإرهاق نهارًا، والهلاك ليلًا» ص196

إن الإشارة التي يومئ إليها الكتاب في باب التناص تدل على أن السياسات السيئة تُغرِق الشعوب والأمم والأعراق في الحروب؛ بينما الفن والأدب يخرجها ويحميها، ويجمعها في طريق الإنسانية، كما إنه يشير إلى أن الإنسان في تكوينه الفطري شغوف بالأرض وما تنتجه من مظاهر ومعانٍ غير مدركة.

البحث عن جذور

جاء الفصل الثالث تحت عنوان: الإله (النبي) متنكرًا، ويتحدث عن رؤية الكاتب في البحث عن جذور للأنساق الألوهية، وكيف تخفّت في شخصيتَي "علي وِلْد زايد" و"الحميْد بن منصور"؛ فعلى الرغم من قدم المسافة التي جاء منها صوت الحكيم اليمني، إلا أن هذا الصوت ما زال موحداً، على عكس الحكيم اليوناني مثلًا، وبالتالي فإن القول بأن صوت الفلاح اليمني قد يكون متأثرًا به يعدّ أمرًا مستبعدًا؛ لأن المتأمل في شأن "علي ولد زايد" سيجد أنه متصل بالدولة الحميرية؛ وتحديدًا -حسب الروايات الشفهية- ينحدر من قرية "مَنْكَث" التي تقع في منطقة "يريم" وسط اليمن؛ وكانت موطنًا لملوك حمير وسبأ؛ ولكن داره في قرية "العرّافة" المجاورة؛ حيث إن هذه الدار، إضافة إلى دلالة الاسم، تحتضن عصاه، وشاله، وأدوات الحراثة، وهو ما يشير إلى أن شخصية الحكيم تشبه في ذهن العامة شخصية النبي "محمد"، ومثله "الحميد بن منصور" الذي ينحدر من شبوة، وتنتشر حكمه في البر والبحر، وقد أشار هذا الفصل إلى دراسة مفصلة للأقوال والحكم التي رواها الشعب عن هذين الحكيمين. يقول المؤلف: «ينبغي أن ننوه إلى أنه ليس الهدف الأساسي في هذه الدراسة هو الفصل في حقيقة أحد هذين الحكيمين من عدمها، وتاريخيته من سوى ذلك، فنحن نقر بعدم تاريخية هذه الشخصيات بشكل عام، والدراسة في مجملها تقول ذلك بشكل ضمني، بيد أن الهدف الأساسي الذي وضعته نصب عينيها هو دراسة ومعرفة الأفكار والأنساق والمضامين والقيم الاجتماعية والمعتقدات الدينية والأفكار، والبحث عن الخطوط العريضة لبنيتها الأدبية» ص12؛ الأمر المهم في هذا الفصل هو المقاربة بين الحكيمين التي أفضت إلى مقاربة أكثر أهمية، وهي ظاهرة "هزيود" الإغريقي؛ حيث اتضح للباحث مدى التشابه العميق بين الفضاءات الثلاثة.

 إن قصيدة "هزيود" توحي بأصل الآلهة، وتحكي عن هذه النشأة، فهي أيضًا «تنتقل من الفوضى إلى الكسموس، ومن الحرب إلى السلم، ومن انعدام النظام في البدء إلى عودة التناغم؛ إنها تعرض حكاية حرب الآلهة، والصراع القائم بين الجبابرة وآلهة الأولومب... حيث بوسع البشر في النهاية أن يحتلوا موقعهم»(4).

وهي الخلاصة التي يراها الكاتب من أن موروث الحكيمين ليس سوى نص تفرع من أصل أسطوري.

الهوامش:

1 – د. حسين نصار، الشعر الشعبي العربي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط2، 2002م، ص20. 

2 – المرجع السابق، ص33.

3 – جون استوري، النظرية الثقافية والثقافة الشعبية، ترجمة: د. صالح خليل ود. فاروق منصور، مراجعة: عمر الأيوبي، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، ط1، 2014م، ص17.

4 - لوك فيري بالتعاون مع كلود كبلياي، ترجمة: محمد بن جماعة، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، دار التنوير، ص24.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English