(1) سيرة الرائد كما تروى
“محمد أنعم غالب” أحد عناوين اليمن المعاصر، وشاهدٌ نابهٌ على كثيرٍ من محطات التحول فيه منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين، حينما كان طالباً في القاهرة، وتالياً قائداً طلابياً ضمن صفوف اليسار منذ أواسط الخمسينيات، وحتى وفاته في صنعاء في أواخر العام 2008.
سيرته الثرية المتعددة -أديب ولغوي ومؤرخ وديبلوماسي واقتصادي وصحفي وقانوني وتربوي- صيَّرته “علماً من أعلام الثقافة والفكر والإبداع والتحديث في البلد المنسي”. أما الأثر الذي أحدثه نصه الشعري الرائد في كتابات شعرية وسردية خاضت في موضوع الهجرة كان عميقاً، فصورة المهاجر “الغريب” والمهن العديدة التي مارسها في نصه الذي كتبه في العام 1956 صارت ثيمة متناسلة في شخصية المهاجر الذي ظهر عند كثير من الكتاب اللاحقين من شعراء وكتاب سرد.
في تقديمه لديوان “غريب على الطريق” في صدوره الأول في العام 1974 قال عمر الجاوي إن “الميزة الأولى في الديوان هي الصياغة الشعرية لتأملات أنعم الحضارية التي استطاعت أن تستوعب بمقدرة فائقة قضية الإنسان في اليمن لمراحل عديدة من تاريخه الطويل”. وقصيدة الغريب التي ندرسها في هذا السياق “تقدم تصويراً حياً لحياة مهاجر غريب كادح بائس أرغمته ظروف وطنه، وخضوعه للاستبداد والظلم والفقر، على أن يترك بلاده وأن يبحث عن أي عمل” كما يرى علي محمد زيد.
في تتبع لبداياته الباكرة مع التجديد الشعرى، أوصلت الباحثين في مساراتها إلى تلك المساحة الزمنية التي بدأت فيها القصيدة الجديدة بالتشكل في فضاء القراءة والتلقي، فقد “بدأ رحلته الجديدة مع الشعر في مطلع الخمسينيات، والقصيدة الأولى في ديوانه وعنوانها “عند الغسق” تومئ إلى التاريخ 1951 ولم يكن قد مضى على ابتداع هذا النوع من الشعر في بغداد سوى ثلاثة أعوام، وهي فترة قصيرة تؤكد قدرة الشاعر على التقاط صوت الابتكار والدخول في لحظة الريادة في وقت مبكر كما يقول د. عبدالعزيز المقالح، وبهذا المعنى، كما يذهب عبدالودود سيف، صار محمد أنعم غالب رائداً “لا يكتسب معنى ريادته من أسبقيته الزمنية إلى كتابة القصيدة التفعيلية أو القصيدة النثرية، ولكن يكتسب ريادته، إلى جانب ذلك، من كونه أسّس تجربته بشكل موازٍ لتأسيس رواد القصيدة العربية لتجاربهم”.
(2) الغريبُ مقروءاً
الملامسة لحواف العمل في هذا التتبع القرائي هي محاولة لإعادة التعريف بقصيدة نهضت عليها تجربة شعرية رائدة لم تأخذ حقها من القراءة، لأسباب عديدة بعضها صنعها الشاعر نفسه الذي لم يتفرَّغ كلية للشعر ويخلص له.
كان اسمه “علي”
قابلته.. في الشاطئ البعيد
عرفته من سحنته
ومضغة التمباك تحت شفته
وكنت في بداية الرحيل
فرحان.. أنني خلفت من ورائي اليمن
لأشهد الحياة.. في العوالم الفساح
تموج بالزحام والصراع.
تنفتح البنية الحكائية في مدخل نص “الغريب” على شخصين: الأول راوٍ يتظهر كواصفٍ، والثاني موصوف تتظهر بعض سماته التي تُسترجع من هويته كاسمٍ وسحنة مميزة تقول إنه يمني، والتي تتعزز أكثر بمضغه للتنباك تحت شفتيه (الشمَّة). الراوي في هذه المقابلة التي -تمت في شاطئ بعيد- يصف بطريقة الإخبار الحكائي، شعوره في تلك اللحظة بالفرح، والذي مبعثه في الأصل تركه لليمن وراء ظهره في بداية رحلة أمل فيها أن يشهد حياة مختلفة في عالم مفتوح، غير تلك التي تركها وراءه.
الشاطئ البعيد المعرَّف لغة، وليس موضعاً بعينه، يصير مرفأً بمساحة ميل، وحوضاً مكتظاً بالسفن، ويصير معرِّفاً بمهنة الغريب
الزمن هنا غير متعين والمكان أيضاً غير محدد، والشاطئ البعيد لا يدل على مكانٍ بعينه، فهو مجرد شاطئ وبعيد، غير أن وصف سحنة الموصوف ووجوده في شاطئ قصيّ تقول إنه مهاجر يمني يعمل في بحر مفتوح على زمن الهجرة وأكلافها في الشجن.
قابلته.. في الشاطئ البعيد
منذ عشرة من السنين
في مرفأ.. يمتدّ ميل
أحواضه.. تكتظ بالسفين
حدثني.. ولم أكن أعي أكثر ما يقول
ولم أكن أعرف سرّ حزنه
وهو الذي قد طوَّف الأقطار
وذاق ماء كل نهر
وخمر كل كرم.
يعاود الراوي في المقطع الثاني التوكيد على مكان المقابلة في الشاطئ البعيد، الذي يصير معرَّفاً بـ “ال” التي تُعرِّف بدورها بالمهاجر الغريب ومهنته وقتها، ويحدد أيضاً زمن هذه المقابلة بعشر من السنوات المنقضية، لكن إذا أردنا معرفة التموضع الزمني لتاريخ المقابلة، لن يكون إلا بالعودة لتاريخ كتابة النص وهو 1956، وهذا التموضع يصير فخاً قرائياً شديد الالتباس، وإن كان وقتها موضوع الهجرة والاشتغال في البحر يدل على ذلك بوضوح.
الشاطئ البعيد المعرَّف لغة، وليس موضعاً بعينه، يصير مرفأً بمساحة ميل، وحوضاً مكتظاً بالسفن، ويصير معرِّفاً بمهنة الغريب، الذي يبادر بالحديث للراوي الذي لم يعِ ما يقول، لأنه كان يبحث عن إجابة لسرّ حزنه الدفين، وهو الذي “قد طوَّف الأقطار وذاق ماء كل نهر وخمر كل كرم”، فمن الطبيعي بالنسبة لشخص مكسوٍّ بالفرح لمغادرته اليمن المعزول والمغلق، ومنطلق لاكتشاف الحياة، أن يكون مستغرباً لهذا الحزن.
في المقطع الثالث يبدأ الراوي بتدوين السيرة المهنية شديدة القسوة للغريب، وهي السيرة الشائعة لكل المهاجرين اليمنيين الأميين:
قد عاش في كل المهن:
ينقل الأثقال في رصيف
بالحبل، والخطاف، والعرق
وفي الثغور النائيات..
يكسب القليل
أو يقطع الأحجار في جبل
ليرفع القصور الشاهقات
في كل أرض
أو ينزل الأعماق.. في مناجم الشمال
في بلد.. يلفّه الضباب والثلوج
ويستوي فيه المساء والصباح
ينزل الأعماق.. ينزع الوقود
من أجل أن يدب دفء.. أو تسير قاطرة
أو يصارع الأمواج في البحار
يجوب كل ثغر..
على سفينة دائمة التطواف
وكم يرى الجليد.. يقفل البحار في الشمال
بياضه الشفاف يخطف البصر
وفي المحيط ذلك العريض
في وسط الدنيا
والشمس قرص نار مقرّه بجانب السخان
يطلب المزيد من وقود
قطعة من اللهب
تسير في لهب
في مركز العالم كل شيء يستحيل نار
والفلك جمرة سوداء في جحيم
لا يرى له لهب
لكم رأى، وكم بنى، وكم هدم!
وعاش تحت كل شمس
كل النجوم تعرفه
الموج، والجليد يعرفه
والصخر والشجر
ونسمة الصباح والمساء
والبحر والقفار
وكل ريح.
في هذا المقطع واضح اشتغال الشاعر على التفاصيل الدقيقة بلغة مقتصدة تتكثف في صور بالغة الدلالة، يمكن مشاهدتها كشريط، وإحدى هذه التمثيلات تصويره للغريب وهو ينزل الأعماق في منجم هناك في الشمال حيث البلاد الباردة التي يستوى فيها الليل والنهار من حيث العتمة، ونزوله إلى عمق المنجم المعتم من أجل انتزاع وقود “الفحم” حتى يدبّ دفء في أجساد المقرورين، أو من أجل تسيير قاطرة في البر أو البحر.
العالم الوسيع موطنه
لكنه غريب
ليس له فيه على اتساعه مقر
شارك في بناء كل دار
وعاش تحت كل شمس
وكل أرض تنكره
لأنه الغريب
يسير ها هنا.. مشرداً يحثّ خطوه المديد
يردد الأغاني الذابلات
ويزرع الأمل
ويحصد الضياع
كل الموانئ الغارقات في الضياء
تحس حمله الثقيل
وتستحم في مياهها ألحانه
وكل ريح حملت أشجانه
حتى الصدى رد عليه
شاركه أحزانه
كل المهن يعرفها
حمال، أو وقاد، أو شحاذ.
ليس للغريب في هذا العالم الفسيح مقرّ، لأن الأرض كلها تتنكر له وتنكره، ففي الوقت الذي يزرع الأمل بالمهن التي يعرفها لا يحصد غير الضياع، حتى الأغاني التي حملها في ترحالاته لتؤنسه من وحشة الضياع ليست أكثر من أغانٍ ذابلات.
وذات يوم نبذته باخرة
في مرفأ يغرقه الزحام
وليس فيه موضع لعامل جديد
العاطلون بالمئات
يقضون يومهم ممددين
في العراء يعصرون النسمات
بأجنحة
مصنوعة من سعف النخيل
وكل شيء فيه نار
الجو نار والغلاء نار
حتى كؤوس الماء تباع بالنقود
وعاش مثل ساحر عجيب
يبيع آمالاً ليائسين
يخطّ في الترب السطور
ويكشف المحجب المستور
ويخلط الكلام
ببضع تمتمات
وآية الكرسي، والنجاة
ويكتب التمائم المطلسمات
لعاشق مفارق، وغائب يعود.
يواصل الشاعر سرد حكاية المهاجر الغريب في بحثه عن ذاته المهشّمة، وفي طريق سيره صادف الكثير ممن يشبهونه، وفي نفوسهم ذات الحنين للرحيل إلى خارج البلد الذي انتهكهم
في هذا المقطع سيضيف الشاعر للغريب مهنة جديدة تضاف إلى تلك التي زاولها في رحلة عذابه الشاقة، فقد عمل قبل ذلك بنقل الأثقال في رصيف بالحبال، بقطع الأحجار في جبل، وعامل مناجم تحت أرض الشمال، وبحّاراً يُنزل الأشرعة في ذروة العواصف، ووقاداً في بطون السفن التي تعمل بالفحم لتجوب العالم. المهنة الجديدة التي سيزاولها هنا هي مهنة السحر العجيب، يبيع آمالاً وأوهاماً ليائسين مثله، يخطّ في التراب مثل قارئات الودع، ويخلط الكلام المطلسم لعاشق مفارق حتى يكتسي بالطمأنينة، واقترن شرط مزاولته لهذه المهنة الاحتيالية بعد أن قذفته “نبذته” باخرة في مرفأ بعيد ومجهول مؤثث بزحمة العاطلين الذين يقضون وقتهم ممددين في العراء.
كل الموانئ تعرفه
كل البلاد جابها
كل البحار خاضها
بأي اسم/ أبوه سماه “علي”
وحين صار في عداد الوارثين
أثبت اسمه “علي”
في دفتر الزكاة
طارده الجباة
وباع نصف ثروته
ليدفع الزكاة
وأجرة التقدير والجباة والجنود
ورشوة الحاكم والأمير..
وغادر الوطن
حكوا له أن البحار في البعيد تقذف اللآل
وأن عالماً يمتدّ خلف دولة الإمام
أنهاره شطوطها ذهب
جباله الماس
عالم عجيب
يصنع الثياب والساعات
والخيوط والإبر
والطائرات
تلك التي تمر في السحاب
وفيه ينطق الحديد
ما ضره، لو غادر الوطن
وآخرون غادروه قبله
وهذه أخبارهم تعود
وطيّها نقود
وقطع الكساء.
ويواصل الشاعر سرد حكاية المهاجر الغريب في بحثه عن ذاته المهشّمة، وفي طريق سيره صادف الكثير ممن يشبهونه، وفي نفوسهم ذات الحنين للرحيل إلى خارج البلد الذي انتهكهم، ومثلهم ركب البحر على سفن ألقت بهم في شواطئ مهجورة، وهناك سيعيش بضع سنوات حيث سيصير اسمه القديم مجرد ذكريات:
وسار…
وفي الطريق صادف الكثير مثله
وفي نفوسهم نفس الحنين للرحيل
واجتاز بحر
على شراع
وألقت السفين
حملها بشاطئ مهجور
هناك عاش بضعة من السنين
واسمه القديم صار ذكريات
ونقش اسمه الجديد
في ورق
مكتوبة بخط أعجمي
وطوف البحار والقفار
كم بدَّل الأسماء
وبدل الأوراق
في جيبه منها الكثير
والاسم أي اسم
أي اسم لا يهم
من صنف ما يحمل من ورق.
ولأن الحكاية تنبني أيضاً على ماضٍ فسيعود الراوي للتذكير بمهنه القديمة التي هي بائع جائل يبيع كل شيء، لكنه بقي تاجراً صغيراً، وحينما قامت الحرب الكونية الثانية لم يجد أفضل منها كمهنة لأنها مربحة، فصارت له عملاً، فهو محارب شجاع يجيد إطلاق الرصاص ورصاصاته لاتخطئ الأهداف. سجل اسمه في دفتر المجندين، وحارب إلى جانب الفاشيست من أجل الرغيف، تماماً مثلما حارب على الجانب الآخر يمنيون مثله ولذات الهدف:
ومرة قد كان تاجراً يجول في الطريق
يبيع كل شيء
العطر، والصابون، والحرير
والكتب..
لكنه كتاجر صغير
رأس ماله العرق،
والحرب قامت منذ شهر
والغلاء نار
تجارة التطواف.. لا توفر الرغيف
الحرب قامت منذ شهر
والمجنّدون يمرحون
ويشترون المتعة الأخيرة
الحرب مربحة..
الحرب لي عمل
“أنا المحارب الشجاع
أجيد إطلاق الرصاص
رصاصتي ما أخطأت هدف!”
وسجل اسمه في دفتر المجندين
ولم يزل يذكر ما في الحرب من أهوال!
“حاربت لا دفاعاً عن وطن
حاربت من أجل الرغيف، بجانب الفاشيست
وفي الليالي السود بين الدم واللهب
رأيت لي أصحاب..
كانوا من اليمن في الجانب المضاد
حاربتهم وحاربوني
لا دفاعاً عن مُثل
وكان لا يهم من يعيش أو يموت
ولا يهم قاهر أو منكسر”
الغرّ الذي كان يرى في مغادرة اليمن خلاصاً، سينتهي بمخاطبة “ركب اليمانين” الذين تشردوا لإعمار أرض غيرهم بينما أرضهم ينهبها الخراب: متى سيعودون؟
هذه المهنة الجديدة والمربحة للمهاجر الغريب ستظهر عند أكثر من شخصية مهاجرة في النصوص الأدبية التي كُتبت بعد هذا النص، لكنها حين يلقاه الراوي بعد أكثر من عشر سنوات على انتهاء الحرب، ستكون من الماضي ومهنته الجديدة هي البطالة التي تتلفعه في الشمال القاسي البارد، حيث سيكون الموت عنواناً لكثير من أمثاله إلا هو:
في عامه الماضي كان في الشمال
في مرفأ بشاطئ الشمال
جو الشمال ما أقساه
جو الشمال..
كم يزرع الأحزان والضياع
ضبابه الملبّد الكثيف
وريحه نواح
كأنما تبكي مشرداً غريب
يا قسوة الحياة في الشمال
مات صديق في الشتاء في أرض الشمال
كان عاطلاً شهور
ومات.. اغتاله برد الشمال
وهو الذي غاص في المناجم العميقة
من أجل أن يدبّ دفء في الشتاء
يا برد جسمه المدفون من تحت الثلوج
يا موتة المشرد الغريب
حتى اسمه المنقوش فوق شاهدة
ليس اسمه ليس اسمه
لأنه سيعود من الشمال في رحلة الجنوب، بموازاة نصوصية لثنائية الشمال والجنوب كما صارت في سياقات القراءة الشائعة. عودته جنوباً ستكون في الربيع بعد أن يكون الشمال قد تخلص من برده القارس، ويتهيأ لاستقبال طيوره في رحلة عودتها من الجنوب الدافئ. يعود بفرحته وهو الغريب بعد عشر سنين من لقائه الأول بالراوي، الذي صار الآن بمقدوره الاستماع إلى صوته نقياً، وهو يسرد خوفه من الموت في المكان البعيد المجهول، ويخاف أن ينقش على شاهدة قبره اسماً غير اسمه الحقيقي.
وعاد من أرض الشمال
منحدراً على المياه
في رحلة الجنوب
وشاهد الطيور
تعود أسراباً إلى الشمال
تسوقها الرياح في نيسان
يا فرحة الغريب إذ يعود
عاد سائراً في رحلة الربيع للجنوب
وفي طوافه الطويل
عبر كل بحر
وفوق كل أرضٍ
قابلته مشرداً، يقلقه الحنين
في مرفأ يمتد ميل
أحواضه تكتظ بالسفين
وكان ذلك منذ عشرة من السنين
ولم يزل حديثه في مسمعي
والآن صرت أدري ما يقول
إني أخاف أن أموت في البعيد
وفوق قبري ينقشون أي اسم
إلا.. “علي”
عمرت كل أرض
وموطني خراب
لكم أتوق أن أعود أعمر الوطن
لكم أتوق أن أدق فوق صخره بفأس
لكم أتوق أن أشم ريحة الحقول
لكم أتوق أن أرى عيد الحصاد
وأن أعيد الأغنيات
في موسم البذور والحصاد
لكم أتوق أن أنادى: “يا.. علي“
في المقطع الأخير من النص سيصير الراوي هو نفسه الغريب المشرد الذي وعى من الحديث الطويل والبسيط معنى الضياع، وكيف بدأ يعي معنى الغربة المريرة، وهو الذي ظن في بداية رحلته أنه سيشهد، بمغادرته لليمن، الحياة في العوالم الفساح. من البذور الصغيرة التي ألقاها المشرد في وعيه ستثمر المعرفة بمعنى التشرد والضياع.
الغرّ الذي كان يرى في مغادرة اليمن خلاصاً، سينتهي بمخاطبة “ركب اليمانين” الذين تشردوا لإعمار أرض غيرهم بينما أرضهم ينهبها الخراب: متى سيعودون؟
يا أيها المشرد الغريب
يا من وعيت من حديثه البسيط
معنى الضياع
يامن بذرت في فؤادي الغرير
-فؤادي الذي كم تاق للرحيل-
بذور إحساس مرير
بالغربة المريرة
بعد مائة من الشهور
بذورك الصغار أثمرت
وها أنا مثلك أدرك الضياع
يكاد اسمي أن يضيع
إني أحس معنى أننا مشردون
يا نحن
يا ركب اليمانين المشردين
يا من أراكم تعبرون كل درب
وتعمرون كل أرض
وأرضكم خراب
يا أيها الركب الطويل
يمتد من موانئ الجنوب في اليمن
وينتشر
في كل أرض
في مناجم الشمال
وفي البحار
وفي عيون الزيت
يا أيها الركب الطويل
متى نعود؟
متى تعود؟ العودة الأهم ستكون بمعاينة هذا النص الذي يقترب عمره من خمسٍ وستين سنة، وكيف حفر عميقاً في لاحقيه من النصوص الأدبية التي عاينت موضوع الهجرة، وكيف شكل مُفتتحاً مهماً في شعر الحداثة في اليمن، وصار ببنائه وهندسة جُمله الشعرية يمثل صوتاً ريادياً لا يمكن القفز عليه، حتى في حال الاقتراب ومعاينة دروس الريادة الشعرية في البلدان العربية.