“جبل صلب” وسط نيران عمياء

ما مصير مشروع منجم الزنك والرصاص في نِهْم؟
محمد راجح
July 10, 2020

“جبل صلب” وسط نيران عمياء

ما مصير مشروع منجم الزنك والرصاص في نِهْم؟
محمد راجح
July 10, 2020

فتحت الاكتشافات التعدينية في “جبل صلب”، بارقة أمل لدى اليمنيين في استغلال ثروات وخيرات أرضهم ونفض غبار البطالة والفقر، وذلك عندما لاح في أفق مستقبلهم، أهم وأكبر منجم للزنك والرصاص في الشرق الأوسط في حال اكتملت إجراءات تنفيذه.

الفترة من 2004 إلى 2007، كانت حافلة بالعمل على بلورة مشروع هذا المنجم، وخلالها استكملت إجراءات العمليات الاستكشافية وحجم الثروة الموجودة في المواقع المستكشفة، وتشكيل المجموعة الاستثمارية التي كان يفترض أن تباشر بتنفيذ المشروع. آنذاك، دخل العالم في بوتقة أزمة مالية لا تقل شدة عن الأزمة الاقتصادية التي سببتها جائحة كورونا حالياً، فتعطلت مكابح الاقتصاد العالمي في كل مكان، وكان مشروع “جبل صلب” أحد ضحايا تلك الأزمة. إذ توقف العمل فيه، كما قيل حينها، تأثراً بالأزمة المالية. صمتت الآلات ومعدات الحفر، وتوقف حلم ملايين اليمنيين، الذي كان يحمله الدكتور إسماعيل الجند، الرئيس السابق للهيئة العامة للمساحة الجيولوجية. تولى الجند حينها مهمة تحويل فكرته ورؤيته الاستثمارية في هذا الجبل العملاق إلى مشروع تستفيد منه الأجيال على المدى الطويل، وكان يمكن أن تدخل اليمن عالم المناجم ضمن قائمة الدول التي تستثمر ثرواتها الطبيعية غير النفطية.

وفي الوقت الذي يلف غموض هائل توقف هذا المشروع العملاق وتعثر مختلف المحاولات التي قامت بها الجهات المختصة لإعادة إحيائه من جديد منذ 2010 وحتى يناير/ كانون الثاني 2015، العام الذي أفاق فيه اليمنيون على واقع صاخب أُسقطت فيه الحكومة “التوافقية” التي اعتورت آخر تشكيلة لها، خلافات القوى والأحزاب السياسية، لتحلّ مكانها السلطة الجديدة المتمثلة بجماعة أنصار الله (الحوثيين)، والتي سبق أن أسقطت العاصمة صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014، بالتحالف مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح. ولم يمر وقت طويل حتى أفاق اليمنيون مرة أخرى، على واقع أكثر صخباً ودموية في مارس/ آذار 2015؛ بدأ ذلك بغارات جوية مباغتة على صنعاء ومدن أخرى، من قبل “التحالف العربي” الذي لا تزال تتزعمه المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للعام السادس على التوالي، بغية إعادة الحكومة المعترف بها دولياً، لكن دون جدوى. طيلة هذه السنوات انتشرت في كل بقاع الأرض اليمنية، المجاميع المسلحة التي لا تعرف سوى لغة “الرصاص”، لكنه لا يشبه الرصاص الذي كان إسماعيل الجند يحلم باستخراجه من جبل صلب.

رأهم المشاريع الواعدة في اليمن، كان يمكن أن ينتج 80 ألف طن من الزنك المركّز، ولو تم تنفيذه لكانت اليمن ضمن أكبر 20 دولة منتجة للزنك

يقع جبل صُلْب في منطقة نِهْم، ضمن السلسلة الجبلية الممتدة من صنعاء إلى مأرب، والتي “تحتوي على ثروات هائلة” من المعادن، بينما تفيد وثائق تاريخية بوجود آثار لمنجم استخراج وصناعة الفضة في جبل صلب، وكان من شأن مشروع الزنك والرصاص أن يكون امتداداً لذلك المشروع القديم.

مسوحات أثرية

 خلال الفترة 1973-1978، قام عالم الآثار الفرنسي كريستيان روبان بأبحاث أثرية في محافظات البيضاء، الجوف ومأرب، وفي العام 1978، تشكلت البعثة الأثرية الفرنسية (MAFRAY) في الجمهورية العربية اليمنية، وفي خريف العام نفسه، أطلقت البعثة حملة تنقيب عبر فريقين؛ أحدهما بدأ “بالمسح الأثري عن الآثار التي تعود إلى حضارة جنوب شبه الجزيرة العربية في منطقة نِهْم ومحافظة الجوف”، وتشكل الفريق من كريستيان روبان، ريمي أُودوان وجان فرانسوا بريتون. استمر روبان في العمل التنقيبي الأثري في اليمن، وفي الاهتمام بالتاريخ اليمني حتى مطلع الألفية الثالثة. وكان ضمن استكشافات ذلك الفريق، موقع منجم الفضة في جبل صلب، وذلك في الوادي الفاصل بين منطقة “نهم” و”يام” تحت قرية أثرية تسمى “سامك”، ويبعد عن العاصمة صنعاء باتجاه الشرق، حوالي 45 كيلومتراً.

 في الفترة 2000-2003، نفذت هيئة المساحة الجيولوجية اليمنية سلسلة من المسوحات الاستكشافية، وأعمال حفر لعدد 49 حفرة استكشافية بعمق إجمالي 4.400 متر، لمعالجة المعدن الخام بالأبخرة، وباستخدام فرن ويلز. بعد ذلك تم تحديد مساحة المشروع بنحو 9 كيلومترات مربعة، وبدأت أعمال إنشاء البنية التحتية للمنجم متعدد السراديب.

حسب المهندس عمار الحسني، وهو أحد المهندسين الجيولوجيين الذين عملوا في المشروع قبل توقفه، فقد تم الاستناد إلى مجموعة كبيرة من الأبحاث والاسكتشافات التعدينية، لدراسة حجم الثروة في الموقع المحدد للمنجم، وجدواها الاقتصادية.

ويصل عدد السراديب التي تشكل منها المنجم نحو 20 سرداباً متفاوتة في الطول والعرض والارتفاع، أكبرها طوله حوالي 150 متراً، وعرضه 30 – 40 متراً ، وارتفاعه أكثر من مترين، وله عشرة آبار عمقها يتراوح بين 10–25 متراً، وهي للتهوية وإخراج المعدن الخام.

يوضح الحسني لـ”خيوط”، أن اليمن يتميز بتوفر مواقع خامات الزنك والرصاص والفضة بمؤشرات جيدة، وأن معظمها “يرتبط بالمنخفض التركيبي الكبير والمعروف بمنخفض رملة السبعتين (الجوراسي-الباليوسين) وذلك على هيئة شقوق وجيوب في الصخور الكربوناتية، بالإضافة إلى الكبريتيدات الكتلية ذات الأصل البركاني، وتعتبر منطقة جبل صلب، من أهم مواقع تمعدنات الزنك والرصاص والفضة في اليمن”.

 و”تتواجد تمعدنات الزنك والرصاص والفضة، ضمن الصخور الرسوبية الجيرية الدولوميتية (مجموعة عمران)، وبصورة خاصة في مناطق حواف الأحواض، ويعتقد أن الراسب الجبلي قد تكوّن بواسطة مراحل متلازمة تشتمل على خصائص كل من نموذج وادي المسيسبي ونموذج إحلال الكربونات”، ويعتبر الحسني، أن التمعدن، بصورة عامة، من النوع الطبقي، وقد تطور جزئياً باتجاه التراكيب الصدعية، وهذه الصدوع مصاحبة لمعظم التمعدنات، وقد نشأ التمعدن تحت ظروف نسبية في الصخور الدولوميتية المتأكسدة. والمعادن الأساسية هي الأسميثسونيت (كربونات الزنك)، سيرسيت (كربونات الرصاص)، أرجنتايت (فضة حر).

وتقدر هيئة المساحة الجيولوجية في تقرير تم عرضه على البرلمان اليمني في العام 2007، احتياطي المعدن الخام من الزنك، الرصاص ومعادن أخرى في جبل صلب، بحوالي 12.6 مليون طن، بدرجة تركيز8.86% زنك، و1.16% رصاص، إضافة إلى 96.3% جرام لكل طن فضة (الطن الواحد من الخام يحوي 69.3 جرام من الفضة).

 ووافق البرلمان في نفس العام على مشروع قرار رسمي لتنفيذ المشروع، كما وافق على المجموعة الاستثمارية التي ستقوم بتدشين العمل، والمكونة من شركة “زنك أوكس” البريطانية بحصة 60%، وشركة “أنجلو أمريكان” الأمريكية 20%، و20% حصة “شركة إنسان” اليمنية ويمثلها هائل عبدالحق، شقيق رجل الأعمال اليمني الملياردير شاهر عبدالحق.

مشروع اقتصادي سيادي

 تقع منطقة جبل صلب على بعد حوالي 110 كم شمال شرق العاصمة صنعاء، ويمكن الوصول إلى المنطقة عن طريق خط الإسفلت صنعاء– مأرب لمسافة 92 كم، ثم الاتجاه إلى اليمين عبر طريق مشقوقة لمسافة 18 كم، إلى الموقع ويبلغ ارتفاع المنطقة عن مستوى سطح البحر حوالي 2000 متر.

هذا المشروع المتعثر منذ نحو 10 سنوات، ووصلت تكلفته إلى ما يقارب 200 مليون دولار، بالشراكة بين شركات بريطانية ومجموعة شركات رجل الأعمال اليمني شاهر عبدالحق، ظل يسيل لعاب الكثير من الدول والمستثمرين. غير أن ما مرت به اليمن من أحداث وانتكاسات، منذ العام 2011، مروراً باندلاع الحرب التي ما زالت دائرة منذ ست سنوات حتى الآن، كل ذلك أخر إعادة إحياء ملف هذا المشروع الهام من جديد.

هذا المشروع الضخم والعملاق والذي كان يعدّ أحد أهم المشاريع الواعدة في اليمن كان مقرراً له معالجة 800 ألف طن من الزنك الخام سنوياً، وتحويلها إلى 80 ألف طن من الزنك المركّز.

في حال تنفيذه كان يمكن أن يجعل اليمن ضمن أكبر 20 دولة منتجة للزنك على مستوى العالم، واستغلال الثروات المعدنية، وما يحتويه هذا القطاع من خامات تدخل في العديد من الصناعات التحويلية، وغيرها من الفرص الاقتصادية الواعدة، ورفد خزينة الدولة بنحو 160 مليون دولار سنوياً.

عند توقفه، كان فريق المشروع قد أنجز حوالى 40% منه، لكن الحرب الراهنة والمعارك الدائرة في منطقة نهم، أضرّت كثيراً بما تم انجازه من هذا المشروع. وفيما لا تزال أسباب تعثره غامضة حتى الآن، إلا أنها بالدرجة الأولى، وحسبما تفيد المعلومات المتوفرة عنه، تتعلق بأزمة في تمويل المشروع، وخلافات بين الشريك المستثمر الرئيسي المتمثل بمجموعة شركات محلية، والجهة الممولة للمشروع، وهي مصارف وبنوك أجنبية.

يرجع أحد رجال الأعمال المستثمرين في المشروع، سبب تعثره إلى انسحاب الشركة البريطانية إضافة إلى الأزمة المالية التي سادت العالم منذ 2008 حتى 2010.

وتحدث هذا المستثمر لـ”خيوط”، شرط عدم ذكر اسمه، عن سبب آخر قال إنه يكشف عنه للمرة الأولى، ويتمثل كما يقول بـ”خذلان الشريك اليمني” في المشروع، للشركات والبنوك الأجنبية التي كانت أغلبها بريطانية. ومع ذلك، فهو لا يعتبر المشروع فاشلاً، وفق منطق “إذا انسحبت شركة، هناك شركات أخرى مستعدة للدخول بدلاً عنها لتنفيذ المشروع، لكن من ناحية الفشل لا يعتبر فاشلاً؛ الثروة موجودة والدراسات موجودة”.

ويشير إلى أن مشكلة اليمن في الجانب الاستثماري سابقاً، تمثلت في منح تراخيص استثمارية لمشاريع بدون معايير محددة تضمن تنفيذها ونجاحها خلال فترة زمنية محددة، كما هو سائد في كل دول العالم، حيث تُمنح الشركات تراخيص لفترة زمنية محددة، وإذا لم تنفذ المشروع خلال هذه الفترة، يتم سحب المشروع منها.

مشروع جبل صلب، إضافة إلى قطاع صافر النفطي رقم 18، الذي يشمل مأرب والجوف، كان أحد الأسباب التي جعلت المواجهات العسكرية الدائرة في نهم والجوف وعلى تخوم مأرب، أكثر حدة

النزاع باتجاه الشرق

حسب خبراء، فإن مشروع جبل صلب، إضافة إلى قطاع صافر النفطي رقم 18 الواعد، الذي يشمل مأرب والجوف، كان أحد الأسباب التي جعلت المواجهات العسكرية الدائرة في نهم والجوف وعلى تخوم مأرب، مختلفة، مع ارتفاع حدّة المعارك في هذه المناطق وعدم توقفها منذ نحو 5 سنوات.

 وحسب الخبير الاقتصادي أشرف عبدالناصر، فإن حدة النزاع وضراوة القتال في هذه المناطق، يتعلق بأطماع الدولتين اللتين تقودان “التحالف العربي” في حرب اليمن؛ السعودية والإمارات.

ويقول أشرف عبدالناصر في حديثه مع “خيوط”، إن “مخططات إعادة إحياء هذا المشروع جعل هذه المنطقة مشتعلة منذ بداية الصراع وغير مستقرة على مدى سنوات الحرب حتى الآن”.

وأثرت الأحداث المتسارعة في اليمن خلال السنوات الماضية بصورة رئيسة على مشاريع التنمية التي كانت ستعطي دفعة قوية للنهوض بالاقتصاد اليمني.

الخبير في مجال المعادن منصور عبدالوهاب، يقول لـ”خيوط”، إن الموارد المعدنية في اليمن استقرت في المناطق الأكثر اضطراباً، حيث يقع منجم جبل صلب بالقرب من منطقة “الفرضة” في نهم، التي تتبع إدارياً محافظة صنعاء، على تقاطع مناطق طرقها وعرة وتنتشر فيها تجمعات قبلية مسلحة، ومعروف أن الشاحنات المحملة بالزنك سيتوجب عليها اجتياز نحو 200 كم، على الطريق السريع، نحو الميناء الغربي في الحديدة.

ويعتبر عبدالوهاب مشروع “جبل صلب” من أهم المشاريع الواعدة في اليمن، ويحتاج فقط للاستقرار ووجود دولة مؤسسات وقانون، مخالفاً بذلك تقديرات أخرى للمشروع بالفشل.

منجم الرضراض التاريخي

يبدو أن النزاع لن يتوقف على جبل صلب الغني بالثروات، والذي يعدّ كذلك أحد الأهداف الرئيسة لأطراف الحرب في اليمن. ذلك أن كل طرف يقدم نفسه كأداة للهدم والعبث، لتحقيق أهداف لا تبدو فيها الاعتبارات الوطنية حاضرة بوضوح، كما لا يبدو أن أبعاد النزاع لدى الأطراف المتحاربة، تتضمن تقديراً لما تكتنزه اليمن من ثروات وآثار شكلت هوية شعب عريق منذ الأزل، ومن حقه أن يحظى بعائدات ثروات أرضه.

يقع منجم “الرضراض” كما كان يطلق عليه قديماً، في السفح الشمالي لجبل صلب في شِعب يسمى المجني من أراضي نهم، وهو عبارة عن منجم قديم للفضة. بدأت قصة “الرضراض” عندما ذكره “الهمداني” في كتابه “الجوهرتين العتيقتين من الذهب والفضة”، فقد ذكر أن معدن الفضة في “الرضراض” لا نظير له، وقدم وصفاً بإسهاب عن المنطقة التي يقع فيها، وما تحتوي من أشجار ومصادر مياه والقبيلة التي يقع في أراضيها المنجم.

واستندت “خيوط” إلى تقرير للمركز الوطني للمعلومات، يعتبر منطقة جبل صلب أحد المناجم التاريخية القديمة، حيث ذكر المؤرخ اليمني الجغرافي أبو الحسن الهمداني أن منطقة جبل صلب منطقة تعدين تاريخية كانت تعرف “بالرضراض” حالياً “جبل صلب”، وكانت تعتبر في القرن الثالث الهجري (العاشر الميلادي) أحد المناجم الكبيرة في العالم الإسلامي لإنتاج الفضة.

ويعتقد بأن الأعمال الحرفية التعدينية في منطقة جبل صلب تعود إلى 2000 سنة، حيث تم تعدين الفضة من خلال الممرات الأفقية التي تتميز بوجود فجوات مملوءة بالخام المتأكسد الأكثر ليونة وغني بالفضة، ومن ثم سحق الخام يدويًّا في الموقع. كما يعتقد أن معالجة الخام كانت تتم باستخدام تقنيات الجاذبية، وأن عدد أفران الصهر وصل إلى حوالي 400 فرن، وقدرت الكمية التي تم استخراجها بحوالي 400,000 طن، ولا تزال آثار المناجم القديمة ومخلفاتها باقية حتى وقتنا الحاضر. ويذكر الهمداني أيضاً، أنه كان منجماً غزير الإنتاج لا يضاهيه منجم آخر في اليمن، فقد كان ينتج في الأسبوع حمل جمل من الفضة، أي ما يعادل (عشرين ألف درهم)، ما يقابل ( ثلاثة آلاف كيلو غرام من الفضة) سنوياً.


•••
محمد راجح

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English