ترك والدي عملَه في دكان الحاج سعيد عمرو غالب، في السوق المركزي، مطلع العام 1983، وعاد إلى القرية، ومنها إلى صنعاء. كان العام الدراسي في منتصفه، فانتقلت للعيش في مسكنِ قريبٍ له ولأمي -هو ابن خالةٍ له وابن عمة لها- واعتدت على مناداته بخالي؛ لسببٍ لم أجد له تعليلاً حتى الآن، فكل أبناء عمي ينادونه بالعم عبدالله.
كلما جاء "الخال" ببالي، عاد بي شريطُ التذكر إلى تعز السبعينيات، ونزوع التحديث الذي تلبَّس أبناء الطبقة الوسطى التي كان يمثلها باقتدار، ليس لأنه موظفٌ مرموقٌ في البنك اليمني للإنشاء والتعمير الذي انتقل إليه من شركة المحروقات اليمنية، أوائل السبعينيات؛ وإنما لتمثله هذا المنزع الحي في طريقة حياته المنظَّمة وملبسِه الأنيق، والأهم حُلمِه الكبير، الذي لا يُحَدُّ، في تجاوز الفقر والحرمان بواسطة تطوير الذات، وهو ما استطاع تحقيقه بالمثابرة والإخلاص.
كان هذا "الخال" دالّة التحديث في العائلة؛ فهو من أوائل من اشترى بيتاً في تعز، ولم يزل هذا البيت قائماً، جوار جامع الأصنج، المجاور لشارع 26 سبتمبر في "حافَة" المستشفى السفلى. وهو أول من أدخل لمسكنه، المكوَّن من شقتين إحداهما فوق الأخرى، أدوات الطبخ الحديثة، من "البوتاجاز" الإيطالي و"التيفال" الفرنسي والثلاجة اليابانية وخلّاط "المولينكس" الفرنسي، وتملَّك التلفزيون الملوّن "أبو الصندوق الخشبي"، أظنه ماركة "سانيو"، في وقتٍ لم يكن بثُّ تلفزيون صنعاء يتجاوز الساعات الخمس.
حينما كان يسمح لي والدي بمغادرة الدكان، والذهاب إلى بيته، كنت كمن ينتقل من عالمٍ إلى آخر؛ فهناك كنت أجد الماء الساخن، النازل من السخَّان الأسطواني، نادرِ الوجود في البيوت التي أقمنا فيها. وهناك كنت أتلذذ بأكل "الكيك" البيتي الذي كانت تصنعه خالتي فاطمة، ومن الثلاجة الـ"ناشونال"، كانت تُخرج لنا الـ"كريم كراميل" البارد "البودنج"؛ ونحن الذين لم نكن نعرف سوى "ملبّنيِّة" رمضان الساخنة والسائلة التي تصنعها أمهاتنا في القرى. أما اللقمة الطيبة "الهنيّة"، فقد كانت في ذلك البيت، وليس في مطاعم السوق التي لا تُشبع أحداً.
في هذا البيت، أكلنا "سندويشات" الـ"روتي" السليس (التوست)، حين كان المخبز الآلي بتعز، سنة افتتاحه، يسوّقه مغلّفاً طازجاً. وكان الخال يقوم بنفسه بتحضيره من الجبن والبيض والسلطات، بعد أن يأخذنا العجبُ من الطريقة التي يقطَّع بها الخبزُ المقولب.
اشترى سيارةً "صالون" حديثةً، أوائل الثمانينيات، فكان يأخذنا في رحلات ممتعة إلى المخا والخوخة والحديدة. والأقرب فيها كانت إلى "المفتش" وبِرْكةِ ومزارع عُصَيْفِرة، شمال تعز؛ حيث الجوافة والـ"باباي" والمانجو والرياحين.
كان رجلاً متمدّناً، لم يصنع منه حرمانُ الطفولة وغيابُ الأب كائنا منغلقاً أو هامشياً هشاً؛ بل صقَل فيه روحاً تواقةً للحياة التي بدأها معلماً في مدرسة الثغر بالحديدة، بعد قيام ثورة سبتمبر 1962، قبل أن ينتقل كموظفٍ إلى شركة المحروقات في مدينة إب. وحينما أنجب، في العام 1969، ولده البكر، أسماه "قسطنطين"، قبل أن يُستبدل، برغبةِ الولد نفسه، الذي تسمَّى "عبدالرقيب".
لم يتعاطَ القات ولم يُدخِّن؛ وهي العادة التي نقلها لأولاده وأحفاده، كما أظن. ورغم انكبابه على الحياة بشخصيته الفَكِهة كالفاكهة، لم أسمع عنه أو أرَ في نمط حياته المنظم أيّ نوعٍ من التجاوزات التي كان من الطبيعي أن تفرضها تشعّبات الحياة وتلبُّسات المغامرة والتباساتُها حين كان شاباً وسيماً ومقتدراً أيضاً، وكل الممكنات متاحةً وفي متناول يديه.
شاهدت كيف أعيد بناء مئذنة جامع المظفر بالياجور الأحمر الصنعاني، بدلاً عن طابعها الرسولي القديم، بعد أكثر من عقدين على سقوطها
حين انتقلتُ للسكن في منزله، كنت أمام تحدٍّ من نوعٍ آخر؛ وهو أن أكون أو لا أكون. وبحنان الخالة ورعاية الخال، تجاوزتُ كل المعيقات، وعلى رأسها اختبارات الشهادة الإعدادية. في هذا البيت، الكائن من قلب المدينة، وبمحيطه أهم معالمها ورموزها -شارع 26 ومدرستا ناصر والثورة (الأحمدية سابقاً) والباب الكبير والمدينة القديمة بمعالمها الرسولية- بدأتُ حياةً مختلفةً، قوامها اكتشاف الأشياء، التي حالتْ إقامتي في دكان المركزي دون معرفتها بسبب الارتباط الطويل بشغل الدكان، إلى جانب القمع والعقاب الذي كنا نتلقاه إن تجاوزنا التعليمات في عدم التأخر في الخارج.
بدأتُ أتعرَّف على معالم المدينة. وصعدتُ، لأول مرةٍ، مئذنة جامع الأشرفية، قبل ترميمها، لمشاهدة المدينة القديمة من الأعلى. وكتبت، بعد سنواتٍ، عن "دخاخين المطابخ الواطئة" التي كنت أشاهدها من أعلى المئذنة. وأبصرت كيف أعيد بناء مئذنة جامع المظفر بالياجور الأحمر الصنعاني، بدلاً عن طابعها الرسولي القديم، بعد أكثر من عقدين على سقوطها. وداومت لساعاتٍ طويلةٍ في مكتبة الوعي الثوري، برفقة الصديقين خليل وخلدون، ابنَيْ عبده محمد القدسي، صاحب المكتبة؛ حيث كنت بدأت القراءة خارج المطبوعات والجرائد الرياضية التي توفرها المكتبة. ولم أكن أتخلَّف عن مباراةٍ لكرة القدم تقام في ملعب الشهداء في "العُرْضي". وبقدمين حافيتين في الغالب، ولاحقاً بحذاءٍ من "الشراع" القوي، تعرفتُ على الملاعب الترابية في "عصيفرة" و"الربيعي" و"حذران"، حيث كنا ننتسب إلى نادٍ في الحارة.
مِن الخال عبدالله، أحببتُ المشي؛ فقد كان مشّاءً معروفاً. وكان يأخذنا، من وقتٍ لآخر، بعد صلاة الفجر، وخصوصاً أيام العُطل والإجازات المدرسية، في جولةِ مشْيٍ طويلةٍ تبدأ من حارة المستشفى السفلى، صعوداً إلى بداية "المُجَلّيّة"، ثم إلى "دائري السواني"، فقلعة "القاهرة"، و"صينة" و"المرور" و"باب موسى"، قبل العودة إلى إحدى "مخابز" المركزي، حيث نتناول "صَبُوحاً" ملوكياً من السمك الطازج ومتبوعاته من "الفتَّة". وتعلمت منه الأهم، وهو معنى المثابرة وتحدي الذات.
حتى سنٍّ متقدمةٍ، ظل يعمل كأحد وجوه العمل المصرفي في المدينة. وبعد تقاعده من البنك اليمني، انتقل إلى مصرفٍ أهلي آخر، أظنه بنك التضامن الإسلامي؛ حيث قدّم كل خبراته في التأسيس.
كان منظمَّاً. وأتذكر أنه، فجْر كل يومٍ، كان ينزل من شقته في الأعلى، وهو في طريقه للمسجد الذي في الجوار، فنستيقظ على طَرَقاته بابَ الحجرة حيث ننام، فننهض للّحاق به. وبعد أن يعود من المسجد، كان يقوم بتغيير ملابسه الشعبية، واستبدالها بإحدى بدلاته "السفاري" الأنيقات، التي كان يحرص على كيّها بانتظامٍ في محل "الدوبي" القريب، ثم يغادر مبكراً إلى عمله المهم في البنك. وقبل أن يصل إلى البنك في السابعة، يكون قد أتم مشوار مشيه الصباحي الطويل، ويكون قد تناول إفطاره في إحدى المخابز أو المطاعم؛ إذ كان من النادر أن يتناول الإفطار في المنزل حتى أيامه الأخيرة.
كان له أصدقاء وزملاء يعملون معه في البنك، ومثلَه لا يتعاطون القات. وأثناء تجولاتهم في العصاري، يمرون بالضرورة على الدكان الذي كان يعمل به والدي في السوق المركزي؛ يقعدون على مقعدٍ طويلٍ من الخشب، أو على تختٍ من صناديق الشاي "عصب والاه"، يشربون من "شاهي" صالح ماوية، ويتحدثون في الشأن العام، في وقت تكون حركة السوق هادئة.
كنت أفرح عندما أرى أحدهم جالساً، بعد عودتي من المدرسة، لأنه سيمدّني بجرعةٍ من التشجيع والأمل. ولم يغب عن خاطري، من أصدقاء الخال، وصار صديقاً لوالدي ولعمي، عبدالباقي محمد سعيد العريقي، الرجل "الجنتلمان" والموظف المرموق في البنك. كان يسكن بالقرب من مدرسة الشعب بحوض الأشراف، وفي أغلب الأيام يغادر منزله بعد صلاة العصر مشياً إلى المركزي، مثلما يعود إليه بعد صلاة المغرب مشياً أيضاً.
كان يحضُر دوماً بلباسٍ شعبيٍّ أنيق -فوطة عدنية غالية، و"شميز" مقلّم مكوي، وكوفية "زنجباري"، و"صندل" من الجلد. وفي الشتاء، يستبدل "الجزمة" و"الشرابات" بالصندل، ويلبس الكوت ويطوي على رقبته شالاً إنجليزياً راقياً، تسبقه رائحةٌ محببةٌ من العطر الممزوج بمنظفات الملابس الراقية. وكان كلما رآني يطلب مني رؤية كراريسي، ثم يبدأ بالثناء على خطي ويحثني على كتابة الواجبات، ثم يفتح معي موضوعاتٍ قصيرةً بأسئلةٍ عامة. وكلما أبصر والدي قريباً، يقول له بكلماتٍ محببة: "يا عبدالوهاب، اهتم بمحمد، فهو من سيعوضك عن شقائك الطويل". ولم أزل أتذكره بوجهه المحلوق بعناية، ورعشة يديه التي تزيده مهابةً. ظل دائمَ السؤال عنّي بعد تركي لتعز، وكان عمي يقول لي، بعد سنوات، إن عبدالباقي كان يحضر إلى الدكان ومعه جريدة فيها صورتي، ويشير إليها بكل حبٍّ وفخرٍ، ويقول: أنا تنبأت له أنه سيكون مختلفاً.
أغلب مالكي المحلات كانوا يعرفون الخال، وعن طريقه، صار العديد منهم عملاء للبنك؛ يودعون نقودهم صباحاً، فيأتي عصراً عبدالكريم ثابت، على دراجته الهوائية لتوزيع إشعارات الإيداع مرتدياً "البدلة" الرمادية، بذات هيئة المراسلين في الأفلام المصرية
من أصدقاء وزملاء الخال في البنك، كان هناك أيضاً شخص لقَبُه الإرياني، كان يأتي إلى الدكان في أوقاتٍ متباعدةٍ، بلباسه العصري "البدلة ورباط العنق" ونظارةٍ طبيةٍ لامعة. كان يستمتع بشرب "شاهي" صالح ماوية. وكان حين يراني، يسأل: ماذا رسمت؟ ومباشرة، أدخل للمخزن المُلحق بالدكان وأحضر له ورقاً مقوىَّ عليها رسمةٌ جديدةٌ لم يرها من قبل. أما الورق المقوّى الذي نرسم عليه، فقد كنا نأخذه من عبوات "كراتين" حليب "دتش بيبي" الإنجليزية، وتستخدم عند تعبئة المنتوج في "الكراتين"، كفاصل بين طبقتين من العُلب.
كنت في تلك المرحلة مهووساً بالرسم؛ أرسم منازلَ وغاباتٍ وسيارات. وكنت أُقلِّد، مع صديقي محمد أحمد، رسمةً موجودةً في محل "الخطاط شكري"، القريب من الدكان، وهي لوحةٌ للرئيس الحمدي بنصف وجهٍ بـ"البريه" العسكري، وهو يؤدي التحية. ووصلنا، بعد محاولات عدة، إلى رسم شيءٍ قريبٍ منها، باستخدام الألوان الخشبية. وبمناسبة رسمة الحمدي، أذكر أن تفاصيل الرسمة ذاتها تحوّلتْ، بعد فترةٍ وجيزةٍ من مقتل الحمدي، إلى ملامح للرئيس الغشمي، بإضافة نصف شاربه لنصف الوجه، مع تعديلاتٍ بسيطةٍ جداً في الملامح لا يُكاد لمسُها. وبعد مقتله، اختفت نهائياً من المحل.
من أصدقائه أيضاً، مَن صار صديقي لاحقاً، عبدالملك ثابت المحمدي، المصرفي المعروف، الرجل الوسيم الأنيق الذي تولى مواقعَ مصرفيةً متقدمةً في البنك اليمني والبنك الإسلامي. وكان هو الآخر يمر على السوق، لوجود بعضٍ من أهل قريته الذين يملكون محلاتٍ تجاريةً في ذات المكان، ويمر على الدكان إن رأى أحدهم جالساً.
أغلب مالكي محلات السوق كانوا يعرفون الخال، ويمازحونه ويمازحهم. وعن طريقه، صار العديد منهم عملاء للبنك؛ يرسلون من يثقون به صباحاً لإيداع نقودهم، ليأتي عصراً عبدالكريم ثابت، على دراجته الهوائية لتوزيع إشعارات الإيداع على المحلات، وهو يرتدي "البدلة" الرمادية، تماماً بذات هيئة المراسلين في الأفلام المصرية.
وهو على عتبة الثمانين، مات الخال في المدينة التي أحَب، مات في ذات الوقت الذي كانت المدينة تحتضر كقيمةٍ مدنيةٍ وحضاريةٍ. مات ولم يزل الممكن من الحلم طائراً يرفُّ كروحه المحلِّقة في أذهان كل من عرفه، وأنا أحدهم.